المحتوى الرئيسى

الحقيقة الغائبة 1.. فرج فودة يكتب: هل الإسلام دين ودولة؟

05/29 17:36

هذا حديث سوف ينكره الكثيرون لأنهم يودون أن يسمعوا ما يحبون، فالنفس تأنس لما تهواه، وتعشق ما استقرت عليه، ويصعب عليها أن تستوعب غيره، حتى لو تبينت أنه الحق، أو توسمت أنه الحقيقة، وأسوأ ما يحدث لقارئ هذا الحديث أن يبدأه ونفسه مسبقة بالعداء، أو متوقعة للتجني، وأسوأ منه موقف الرفض مع سبق الإصرار للتفكير واستعمال العقل.

هذا حديث تاريخ لا يزعم صاحبه أنه متخصص فيه، أو فارس في ميدانه، لكنه يزعم أنه قارئ له في أناة، محلل له في صبر موثق له في دقة، ناقد له في منطق، يهوى أن يقلبه ذات اليمين وذات الشمال، لا يستطيع أن يمد خياله متجاوزًا الحقيقة بالإضافة أو منتقصًا منها بالإهمال، وما أكثر ما فعل ذلك مَن لهم تاريخ واسم، وقلم وفكر، ومنهج وبحث، لا يجدون راحتهم إلا حيث يستريح القارئ، ولا يراعون -وهم يفعلون ذلك- حرمة لتاريخ أو لعقل أو حتى لنقل.

هذا حديث ما كان أغناني عنه، لولا أنهم يتنادون بالخلافة، ليس من منطلق الدعابة أو المهاترة أو الهزل، بل من منطلق الجد والجدية والاعتقاد، فسيتدرجون مثلى إلى الخوض فيما يعرف ويعرفون، ويعلم وينكرون، وينكر ويقبلون، ليس من أجلهم، ولا حتى من أجل أجيال الحاضر التي من واجبها أن تعرف وتتعرف، وتعلم وتتعلم، وتفكر وتتكلم، بل قبل ذلك كله من أجل أجيال سوف تأتي في الغد، وسوف تعرف لنا قدرنا وإن أنكرَنا المنكرون وسوف تنصفنا وإن أداننا المُدينون، وسوف تذكر لنا أننا لم نجبن ولم نقصر، وأننا بقدر ما أفزعْنا بقدر ما دفعْنا المجتمع للأمام، وبقدر ما أقلقنا بقدر ما استقر المجتمع في أيامهم، وبقدر ما واجهنا بقدر ما توجهوا هم إلى المستقبل.

هذا حديث تاريخ وسياسة وفكر وليس حديث دين وإيمان وعقيدة، وحديث مسلمين لا حديث إسلام، وهو قبل ذلك حديث قارئ يعيش القرن العشرين، وينتمي إليه، عن أحداث بعضها يعود إلى الوراء ثلاثة عشر قرنًا أو يزيد، ومن هنا يبدو الحديث صعبًا على من يعيشون وينتمون لواقع ما قبل ثلاثة عشر قرنًا، ويقيمون من خلال معايشتهم وتبنيهم لذلك الواقع أحداث حاضر القرن العشرين، وهو في النهاية حديث قد يخطئ عن غير قصد، وقد يصيب عن عمد، وقد يؤرق عن تعمد، وقد يفتح بابًا أغلقناه كثيرًا، وهو حقائق التاريخ، وقد يحيى عضوًا أهملناه كثيرًا، وهو العقل، وقد يستعمل أداة تجاهلناها كثيرًا، وهي المنطق، وهو حديث في النهاية موجز أشد ما يكون الإيجاز، لا يهتم بالحدث في ذاته بقدر ما يعتني بدلالاته، ويرى أنه بوفاة الرسول استكمل عهد الإسلام وبدأ عهد المسلمين، وهو عهد قد يقترب من الإسلام كثيرًا وقد يلتصق به، وقد يبتعد عنه كثيرًا، وقد ينفر منه، وهو في كل الأحوال والعهود ليس له من القداسة ما يمنع مفكرًا من الاقتراب منه، أو محللاً من تناول وقائعه، وهو أيضًا وبالتأكيد ليس حجة على الإسلام، وإنما حجة للمطالبين بالحكم بالإسلام أو حجة عليهم، وسلاح في أيديهم أو في مواجهتهم، وليس أبلغ من التاريخ حجة، ومن الوقائع سندًا، ومن الأحداث دليلاً، وليس لهم من البداية أن ينكروا علينا ما رجعنا إليه من مصادر وما استندنا إليه من مراجع، فهي ذات المراجع التي يحتجون بها على ما يرون أنه في صالحهم، ومع دعواهم، ولو أهملنا معًا هذه المراجع لما بقي من تاريخ الإسلام شيء، ولما بقيت في أيديهم حجة، ولما استقر في كتاباتهم دليل، ولما وجدوا لمنطقهم سندًا أو أصلاً أو توثيقًا.

هذا حديث قصدت فيه أن أكون واضحًا كل الوضوح، صريحًا كل الصراحة، زاعمًا أن الوضوح والصراحة في الموضوع الذي أناقشه استثناء، فقد صبت في المجرى روافد كثيرة، منها رافد الخوف، ومنها رافد المزايدة، ومنها رافد التحسب لكل احتمال، وخلف ذلك كله يلوح سد كبير، يتمثل في الحكمة التي يطلقها المصريون، والتي تدعو إلى (سد) كل باب يأتيك منه الريح، فما بالك إذا أتاك إعصار التكفير، وارتطمت بأذنك اتهامات أهونها "إنك مشكك"، وأسئلة أيسرها "هل يصدر هذا من مسلم؟"، وواجهتك قلوب عليها أقفالها، وعقول استراحت لاجتهاد السلف، ووجدت أن الرمي بالحجارة أهون من إعمال العقل بالبحث، وأن القذف بالاتهام أيسر من إجهاد الذهن بالاجتهاد.

هذا حديث دنيا وإن بدا لك في ظاهره حديث دين، وأمر سياسة وحكم وإن صوروه لك على أنه أمر عقيدة وإيمان، وحديث شعارات تنطلي على البسطاء، ويصدقها الأنقياء، ويعتنقها الأتقياء، ويتبعون في سبيلها من يدعون الورع (وهم الأذكياء)، ومن يعلنون بلا مواربة أنهم أمراء، ويستهدفون الحكم لا الآخرة، والسلطة لا الجنة، والدنيا لا الدين، ويتعسفون في تفسير كلام الله عن غرض في النفوس ويتأوَّلون الأحاديث على هواهم لمرض في القلوب، ويهيمون في كل واد، إن كان تكفيرًا فأهلاً، وإن كان تدميرًا فسهلاً، ولا يثنيهم عن سعيهم لمناصب السلطة ومقعد السلطان أن يخوضوا في دماء إخوانهم في الدين، أو أن يكون معبرهم فوق أشلاء صادقي الإيمان.

لعلك أدركت أيها القارئ أنني أخوض معك في موضوع قريب إلى ذهنك بقدر ما ألح عليه، وما أكثر ما ألح، بل ما أصرح ما ألح، حين ارتفعت ولا تزال ترتفع في الانتخابات السياسية والنقابية في مصر رايات مضمونها (يا دولة الإسلام عودي، الإسلام هو الحل، إسلامية إسلامية).

وهي رايات لا تدري أهي دين أم سياسة، لكنك تجد مخرجًا في تصور مصدريها أن الدين والسياسة وجهان لعملة واحدة، وأن تلك الأقوال تعبير عاطفي عن شعارات الإخوان المسلمين القديمة، بأن الإسلام دين ودولة، مصحف وسيف... الخ.

وقبل أن تسألني "وهل تنكر ذلك؟"، يجدر بي أن أضعك أمام وجهتي نظر، كل منهما تقبل الاجتهاد، بل قبل ذلك كله تقتضي الإجهاد، وأقصد بذلك إجهاد الفكر بحثًا عن حقيقة غائبة.

أما وجهة النظر الأولى، ولا أشك أنها وراء ما ذكرت من دعاوى، فإنها تتمثل في أن المجتمع المصري مجتمع جاهلي أو بعيد عن صحيح الدين.

وبين مقولة "تجهيل المجتمع" ومقولة "الابتعاد عن صحيح الدين"، تتدرج مواقف القائلين بين التطرف لأصحاب المقولة الأولى، والاعتدال للقائلين بالثانية، لكنهم جميعًا متفقون على أن نقطة البدء بالحل تكمن في التطبيق الفوري للشريعة الإسلامية، وأصحاب وجهة النظر هذه يطرحون خلف ظهورهم خلافهم حول رأيهم في المجتمع الحالي، ويستقرون بدعوة تطبيق الشريعة، مؤكدين أن هذا التطبيق (الفوري) سوف يتبعه صلاح (فوري) للمجتمع، وحل (فوري) لمشاكله.

هذا عن وجهة النظر الأولى، أما وجهة النظر الثانية، فلعلي ألمح على وجهك قبل أن أعرضها تساؤلاً مضمونه "وهل هناك وجهة نظر ثانية"، ولعلي أتلمس خلف هذا التساؤل تصورًا بأن وجهة النظر الثانية لا بد أن تتناقض مع ما توصلت إليه وجهة النظر الأولى، وأنها تصبح والأمر كذلك مصطدمة أو متصادمة مع دعوة لتطبيق أصل من أصول العقيدة.

لكني أبادر فأطمئنك بأن وجهة النظر الثانية لا تناقض الإسلام، بل تتصالح معه، ولا تأتي من خارجه بل تخرج من عباءته، ولا تصدر عن مارق بل تصدر عن عاشق لكل قيم الإسلام النبيلة والعظيمة.

إن وجهة النظر الثانية تستند إلى مجموعة من الفروض يمكن عرضها فيما يلي:

أولاً: إن المجتمع المصري ليس مجتمعًا جاهليًا، بل هو أحد أقرب المجتمعات إلى صحيح الإسلام، إن لم يكن أقربها، حقيقةً لا مظهرًا، وعقيدةً لا تمسكًا بالشكليات، بل إن التمسك الأصيل والشديد بالقيم الدينية يمكن أن يمثل ملمحًا مصريًا.

يصدق هذا على موقف المصريين من العقائد الدينية الفرعونية قبل ظهور الأديان السماوية، بقدر ما يصدق على موقف المصريين من الدين المسيحي قبل دخول الإسلام مصر، بقدر ما يصدق أيضًا بدرجة أوضح من كل ما سبق على موقف المصريين من الإسلام.. والشواهد على ذلك كثيرة، بدءًا من تردد المصريين على المساجد وحماسهم، وتنافسهم على مركز الصدارة في عدد الحجاج من بلاد العالم الإسلامي كله، واحتفائهم بالأعياد الدينية، بل وتحول شهر رمضان إلى عيد ديني قومي لا يمكن تبرير الشغف به، والاحتفاء بحلوله، والحسرة على انتهائه، إلا بأصالة وعمق الشعور الديني، وانتهاءً بما ساهمت به مصر في مجال العقيدة والاجتهاد، بدءًا بالليث بن سعد، وفقه الشافعي في مصر، وانتهاءً بالأزهر الشريف ودوره كمنارة للفكر الإسلامي.

ثانيًا: إن تطبيق الشريعة الإسلامية ليس هدفًا في حد ذاته، بل إنه وسيلة لغاية لا ينكرها أحد من دعاة التطبيق، وأقصد بها إقامة الدولة الإسلامية، وهنا مربط الفرس ومحور النقاش؛ فدعاة تطبيق الشريعة الإسلامية كما سبق أن ذكرنا يرفعون شعار "الإسلام دين ودولة"، والشريعة الإسلامية في مفهومهم تمثل حلقة الربط بين مفهوم الإسلام الدين ومفهوم الإسلام الدولة، ليس ربطًا بين مفهومين مختلفين، بل تأكيدًا على أنهما وجهان لعملة واحدة -في رأيهم- وهي صحيح الإسلام.

هنا ينتقل النقاش إلى ساحة جديدة، هي ساحته الحقيقة، وهي ساحة السياسة، وهنا يطفو على سطح النقاش سؤال بسيط وبديهي، ومضمونه أنهم ما داموا قد رفعوا شعار الدولة الإسلامية وانتشر أنصارهم بين الأحزاب السياسية يدعون لدولة دينية يحكمها الإسلام، فلماذا لا يقدمون إلينا -نحن الرعية- برنامجًا سياسيًا للحكم، يتعرضون فيه لقضايا نظام الحكم وأسلوبه، سياسته واقتصاده، ومشاكله بدءًا من التعليم وانتهاء بالإسكان، وحلول هذه المشاكل من منظور إسلامي.

أليست هذه نقطة ضعف جوهرية يواجههم بها من يختلفون معهم سواء بحسن نية، وهو ما نظن، أو بسوء نية، وهو ما يعتقدون، وما يتعين عليهم سد ذرائعه حتى لا يتركوا لأحد مجالاً لنقد أو رفض.

هنا يبدو الأمر منطقيًا لا تناقض فيه، وهنا يصبح رفعهم شعار الدين والدولة معًا أمرًا مقبولاً، وهنا يصبح رفضهم لفصل الدين عن السياسة وأمور الحكم رفضًا له من الوجاهة حظ كبير، وله من المنطق سند قوي، بل أكثر من ذلك تصبح قضية تطبيق الشريعة الإسلامية جزءًا من كل، وهي جزء لا يتناقض مع الكل بحال بل يتناسق معه، ففي مجتمع الكفاية والعدل، حيث يجد الخائف مأمنًا، والجائع طعامًا، والمشرد سكنًا، والإنسان كرامة، والمفكر حرية، والذمي حقًا كاملاً للمواطنة، يصعب الاعتراض على تطبيق الحدود بحجة القسوة، أو المطالبة بتأجيل تطبيقها بحجة المواءمة، أو عن قبول ارتكاب المعصية اتقاءً لفتنة، أو تشبهًا بـ "عمر" في تعطيله لحد السرقة في عام المجاعة، أو لجوءًا للتعزير في مجتمع يعز فيه الشهود العدول.

لعلك متفق معي -أيها القارئ- فيما توصلت إليه من أن مسألة كهذه يحب ألا تفوت على المشتغلين بالعمل السياسي الديني، بل لعلك تتجاوز التعجب إلى الاعتقاد بأن هذا أمر يسير، وأنه إلى تدارك، بل ربما اعتقدت عن تفاؤل بأنه أمر سهو، وأن السهو إلى زوال، لكني لا أشاركك تفاؤلك، لسبب يعلمه دعاة تطبيق الشريعة ويعانون منه، وأقصد به عقم الاجتهاد، بل إن شئت الدقة اجتهاد العقم، وخوف الاختلاف، بل إن شئت الدقة خلف الخوف، وطمع الاستسهال، بل إن شئت الدقة استسهال الطمع، وعجز القدرة، بل إن شئت الدقة قدرة العجز.

ليس فيما أقوله بلاغة باللفظ، بل هي حقيقة تستطيع أن تلمس عشرات الأمثلة على صدقها، ودونك أيها القارئ العزيز ما حدث في قوانين الأحوال الشخصية، التي شهدنا ثلاثة منها في عشر سنوات، أثار الأول منها ثائرة المدافعين عن حقوق المرأة فكان القانون الثاني الذي أثار حفيظة المدافعين عن حقوق الرجل، فكان الثالث الذي هدأت به ثائرة الثائرين إلى حين، على الرغم من أن قانون الأحوال الشخصية جانب هيّن من جوانب أي برنامج سياسي، بل إنه أسهل جوانب تطبيق الشريعة الإسلامية، لأنه لا خلاف عليها أو حولها في كونها المصدر الوحيد للتشريع في هذا المجال، وهي في النهاية قضية يبدو وجهها الديني أكثر وضوحًا من أي وجه آخر.

لكن المشكلة أتت من مواجهة العلماء لعالم جديد، ترتبت فيه للمرأة حقوق لم تترتب في عصر سابق، وأصبح عمل المرأة على سبيل المثال واقعًا لا منـّة أو منحة، وحقًا مكتسبًا لا سبيل إلى مناقشته، وطرحت المتغيرات الجديدة في المجتمع من الظروف ما لا سابقة له في عهد مالك أو أبي حنيفة أو الشافعي أو ابن حنبل، فأزمة الإسكان قائمة، بل إن هناك ما لم يعرفه الفقهاء الأربعة حين ناقشوا هذه القضية، من حكم الشقة المستأجرة أو (التمليك)، وهي كلها أمور أوقعت العلماء في حيص (و هو الاختلاف بينهم)، وفي بيص (وهو الخلاف بينهم من ناحية وبين قطاعات كبيرة في المجتمع من ناحية أخرى).

وفي كل حال من الأحوال الثلاث -أقصد القوانين الثلاثة- وجد العلماء ضالتهم في الانتقال من مالك إلى أبي حنيفة، فإن لم يجدوا انتقلوا إلى فتاوى فقهاء أقل حظًا من الشهرة من أمثال سهل بن معاوية، وهم في كل الأحوال لم يتجاوزوا القرن الثاني الهجري قيد أنملة، أو إن شئنا الدقة قيد عام.

ماذا سيكون الحال إذا تطرق الأمر إلى مجال الاقتصاد، وشغل دعاة الدولة الإسلامية أنفسهم بقضية زيادة الإنتاج في المجتمع، وفوجئوا بحجم استثمارات القطاع العام التي تتراوح بين ثلاثين إلى خمسين مليار جنيه، يعتمد تمويلها على مدخرات المصريين في بنوك القطاع العام، والمدخرات في صورة ودائع، والودائع تستحق فوائد، وآخر اجتهادات القرن الثاني الهجري، التي لم تعاصر قطاعًا عامًا أو بنوكًا، أدخلت العائد الثابت للمدخرات في دائرة الربا، وآخر ما وصل إليه الداعون للدولة الإسلامية هو الركون إلى اجتهادات هؤلاء الفقهاء، وكأنها تنزيل من التنزيل، ماذا سيكون الحال؟

مأزق إن تجمدوا، وبرنامج سياسي إذا اجتهدوا، ولعل أول الحالين أقرب لتصوير الواقع، فالتصوير أهون من التطوير، والحكم بخروج المجتمع كله من دائرة الإيمان أسهل، والحكم بعدم مشروعية الفوائد أيسر، وتجهيل المجتمع ومؤسساته أضمن، والنحو باللائمة على الزمان أسهل السبل، والترحم على الشاعر العربي وارد حين قال (نعيب زماننا والعيب فينا)، هذا عن هيّن الأمور، وأقصد به التفصيلات، أما أصعبها وأقصد به الأمور العامة، والمنظمة لأسلوب اختيار الحاكم أو أسلوب الحكم أو العلاقة بين السلطات فإن تناول أي منها هو المحك الحقيقي لدعوة (الدولة الدينية) بعيدًا عن سجع الألفاظ وشقشقات البلاغة.

وأنت في طرحك للأسئلة وبحثك عن الإجابات تكتشف أنك في سباق للموانع، ومباراة لاستعراض حجم ضخم من الخلافات التي لم تحسم، ولم يمنع عدم حسمها، نتيجة غياب الاجتهاد المستنير، أن يدعوك البعض إلى خوض التجربة، وأن يتحاشى الجميع الخوض فيها إيثارًا لراحة البال (بالهم هم)، وتجنبًا للخلاف (خلافهم هم)، وهم في كل الأحوال في مأمن، إن أعجزتهم الإجابة أفتوا بأنك لا تملك أدوات البحث في القضايا الدينية، وإن أفحمهم المنطق تنادوا بأنك عميل للإمبريالية، أو متأثر بالشيوعية، أو ناطق بلسانهما معًا.

وحتى لا تتحول القضية إلى تراشق فإنني سأحاول معك أن أستعرض بعضًا من تلك الموانع التي أشرت إليها، ولنبدأ بالحاكم، وبديهي أن أول ما سيتبادر إلى ذهنك هو الشروط التي يجب أن تتوافر فيه، وقد تتصور أن الشروط سهلة، وأنها يمكن أن تتمثل في كونه مسلمًا عاقلاً رشيدًا إلى آخر هذه الأوصاف العامة، لكنك تصطدم بشرط غريب، تذكره كثير من كتب الفقه، وهو أن يكون (قرشيًا)، وقد تتعجب من أن ينادي البعض بهذا الشرط باسم الإسلام، الذي يتساوى الناس أمامه (كأسنان المشط)، والذي لا يعطي فضلاً لعربي على عجمي إلا بالتقوى!!

وقد يتبادر إلى ذهنك خاطر غريب، وإن كان صحيحًا، يتمثل في أن هذا الشرط قد وضع لكي يبرر حكم الخلفاء الأمويين أو العباسيين، وكلهم قرشي، بل قد يتداعى إلى ذهنك ما قرأته في كتب التاريخ القريب عن الملك فاروق في أول عهده، حين قدمه محترفو السياسة إلى المصريين في صورة الملك الصالح، وظهر في الصور بلحيته ومسبحته ونصف إغفاءة من عينيه، وتسارع بعض رجال الدين (الطموحين) إلى المناداة به ملكًا (وإمامًا) للمسلمين، واجتهد الأذكياء منهم في إثبات نسبه للرسول، وتبارى الإعلام في الإعلان عن هذا النسب وتأكيده، تحقيقًا لشرط من شروط الإمامة، وسدًا للذرائع على المعترضين.

ولعلك مثلي تمامًا لا تستريح لهذا الشرط، الذي يصنف المسلمين إلى أصحاب دم أزرق وهم القرشيون الحكام، وأصحاب دم أحمر ينتظم الأغلبية، لكنهم يواجهونك بحديث نبوي مضمونه أن الإمامة من قريش، وتتبادر إلى ذهنك في الحال عشرات الأحاديث التي وضعها الوضّاعون، والتي وصلوا فيها إلى تسمية الخلفاء العباسيين وتحديد موعد خلافتهم بالسنة واليوم، وهي كلها أحاديث وضعها من لا دين لهم إلا هوى الحكام، ولا ضمير لهم ولا عقيدة، لكنك في الوقت نفسه تخشى من اتهامك بالعداء للسنة، خاصة من الذين قصروا دراستهم للأحاديث النبوية على أساس السند وليس على أساس المتن (أي المعنى والمضمون ومدى توافقه مع النص القرآني).

ولا تجد مهربًا إلا بتداعيات اجتماع سقيفة بني ساعدة في المدينة، الذي اجتمع فيه الأنصار لانتخاب سعد بن عبادة، وسارع أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح إليهم ورشحوا أبا بكر، ودار حوار طويل بين الطرفين، انتهى بمبايعة أبي بكر، وأنت في استعراضك للحوار، لا تجد ذكرًا للحديث النبوي السابق، وهو إن كان حديثًا صحيحًا لما جرؤ سعد بن عبادة سيد الخزرج على ترشيح نفسه، ولكفى أبا بكر وعمر والجراح مؤونة المناظرة، ولما فاتهم أن يذكروه وهو في يدهم سلاح ماضٍ يحسم النقاش.. ويكفي أن تعلم أن سعد بن عبادة ظل رافضًا لبيعة أبي بكر إلى أن مات، ولم يجد من يأخذ بيده إلى هذا الحديث فيبايع عن رضا وهو الصحابي الجليل ذو المواقف غير المنكورة في الإسلام، غير أن لكل ظاهرة سيئة وجهها المفيد، فقد انبرى أصحاب الرأي الآخر، الذين يؤمنون بحق الأكفأ في الحكم دون اعتبار لنسبه إلى ذكر أحاديث مضادة بمنطق "وداوها بالتي كانت هي الداء"، مضمونها أنه لا مانع من أن يحكم المسلمين عبد حبشي أسود (كأن رأسه زبيبة) فأعادوا للمنطق توازنه، وأعطوا لكثير من الطوائف الإسلامية التي نشأت فيما بعد سندًا لرأيهم المعارض لخلافة العباسيين، وإن كانت نتيجة ذلك كله، وضع المانع الأول في مسيرة الدولة الإسلامية، وهو الخلاف الفقهي حول نسب الحاكم وهل يكون بالضرورة قرشيًا أم أنه الأكفأ بغض النظر عن نسبه، ولا عبرة هنا بالمنطق أو بواقع الحال، فسيف إنكار الحديث وارد على رقاب كل من الطرفين، في قضية أتصور أنا وأنت أنها هينة سهلة، لا تستحق عناء ولا تقتضي طول بحث، ولا تنتقل منها أو تتجاوزها إلى أسلوب تولية الحاكم حتى تكتشف مانعًا ضخمًا يدور حوله الجدل إلى اليوم ولا يقنع المتجادلون فيه بمنطق بسيط وواضح وهو أن القرآن لم يترك قاعدة في هذا الأمر، والرسول لم يعرض لها من قريب أو بعيد، وإلا لما حدث الخلاف والشقاق في اجتماع السقيفة، ولما رفض عليّ قبول تولية أبي بكر ومبايعته على اختلاف في الرواية بين رفضه المبايعة أيامًا في أضعف الروايات، وشهورًا حتى موت فاطمة في أغلبها، بل إن أسلوب السقيفة لو كان هو الأصح، لاتبعه أبو بكر نفسه وترك تولية من يليه إلى المسلمين أو أهل الحل والعقد منهم، وهو ما لم يفعله حين أوصى لعمر بكتاب مغلق بايع عليه المسلمون قبيل وفاته دون أن يعلموا ما فيه، وهو أيضًا مرة أخرى ما خالفه عمر في قصر الاختيار بين الستة المعروفين، وهم "علي وعثمان وطلحة والزبير وابن عوف وسعد"، وهو ما اختلف عن أسلوب اختيار "علي" ببيعة بعض الأمصار، و"معاوية" بحد السيف، و"يزيد" بالوراثة.

نرشح لك

أهم أخبار صحافة

Comments

عاجل