المحتوى الرئيسى

نكون أو لا نكون 4.. فرج فودة يكتب: الشباب والتطرف

05/28 19:58

ليس فى العنوان ما يثير، وليس فيه تناقض يدعو إلى الدهشة، أو‮ ‬غرابة تدفع إلى قراءة المقال، فالشباب والتطرف صنوان، ذلك إذا فهمنا التطرف بمعناه الدارج، وهو‮ (‬الاندفاع‮)‬، بيد أن التطرف فى السنوات الأخيرة قد أصبح مرادفا لمعان أخرى، لعلها لم‮ ‬ترد فى أذهاننا، أو قل‮ ‬غير مبالغ‮ ‬أنها لم ترد فى أحلامنا ذات يوم‮.

أن يعلن أحد الشباب عن اعتناقه للفكر السياسى الإسلامى، فهذا رأى فى تقدير البعض، واندفاع فى تقديرى، لأننى أرى أن الدين أعز من أن يقحم فى السياسة، وأنزه من أن يلوث بمغامرات الساسة، وأبعد ما يكون عن تمثيله لنظرية سياسية متكاملة، لأن ساحته مختلفة، وهى ساحة أرقى وأبقى، ولأن أصحاب هذه الدعاوى لم يقدموا لنا دليلا أو برنامجا متكاملا يرضى أذهان البسطاء من أمثالى على الأقل، بيد أن هذا مجال حديث أخر، ويكفينا الآن أن يتراوح حكمنا على الشباب بين الرأى والاندفاع، وأن نراقب هذا الشاب وهو يتجاوز الإيمان بما يقول، إلى نعت المخالفين له بالكفر والجاهلية، الأمر الذى قد يدفع من وصفوا موقفه الأول بالرأى إلى وصف موقفه الجديد بالاندفاع، بينما يدفعنى هذا الموقف إلى وصفه بالتطرف، وإلى مراقبته وهو يتطور أو يتطرف فيمتشق سلاحا، ربما كان سيفا إذا كانت أصوليته نقية أو مدفعا رشاشا إذا أخضع أصوليته لمواءمات العصر، وها هو يحل دم المختلفين معه، طاعنا إياهم بالسيف، أو مطلقا عليهم الرصاص، دافعا من وصفوا موقفه السابق بالاندفاع إلى ما وصف موقفه الجديد بالتطرف، ودافعا لى إلى وصف موقفه الجديد بالإرهاب لا أكثر ولا أقل‮.. ‬

جذور التطرف فى نفوس الشباب‮: ‬

لا بأس أن نختلف حول تقييم هذه المواقف، فالتطرف مدخل إلى الإرهاب والإرهاب تعبير عن التطرف، وكلاهما اندفاع، وكلاهما شر بلا شك، إثم بلا ريبة‮. ‬

من أين يبدأ مثلث الفزع السابق‮ (‬الاندفاع‮ - ‬التطرف‮ - ‬الإرهاب)؟ لا شك عندى فى أن نقطة البدء كامنة فى مناهجنا التعليمية التى يتلقاها النشء، وأننا بالتالى أصحاب الفضل‮ (‬إن سمى ذلك فضلا‮) ‬فى ‬غرس جذور التطرف فى نفوسهم، وأمامى نموذج حى على ذلك ساقته الأقدار إلى حين تعثر أحد أبنائى فى امتحان أحد الشهور فى اللغة العربية، فتناولت الكتاب قاصدا مساعدته‮ (‬وهو كتاب القراءة والمحفوظات المقرر على الصف الخامس الابتدائى‮) ‬وبدأت بالدرس الأول وعنوانه‮ (‬نشيد النصر‮) ‬وكان نص ما ورد تحت هذا العنوان ما يلى‮ (‬من واجب مصر‮ ‬أن تشكر الله، وتعرف فضله عليها، لقد نصرها فى حرب رمضان وكان النصر عظيما، وقد جاء هذا النصر ثمرة الإيمان الصحيح، والعزم القوى، والصبر، مع العمل المتصل‮. ‬

لقد عبر جنودنا وانتصروا وتغلبوا على يكل صعب ودخلوا سيناء وكان النداء الذى يتردد: الله أكبر، الله أكبر، وقد قضى هذا العبور على خط بارليف، وقضى على ما أذاعه من الكذب عن قوته، فمن حق مصر أن تردد دائما‮: ‬الله أكبر، الله أكبر‮‬، وواضح أن الحديث هنا عن حرب عام‮ ‬1973‮ ‬وبالتحديد عن عبور القوات المصرية لقناة السويس وتدميرها لخط بارليف، وهو انتصار مجيد بلا شك، بيد أن الدرس المشار إليه يرجعه إلى أربعة أسباب، تم ترتيبها وفقا لأهميتها على النحو التالى‮: ‬

‮ (‬1‮) ‬الإيمان الصحيح‮. ‬

‮ (‬2‮) ‬العزم القوى‮. ‬

‮ (‬4‮) ‬العمل المتصل‮. ‬

وينتهى الدرس باستخلاص النتيجة أو الدرس المستفاد من المعركة، وهو ترديد مصر دائما الله أكبر، الله أكبر‮.. ‬

وواضح من الترتيب أن العامل الأساسى والحيوى والجوهرى فى النصر، قد احتل المرتبة الأخيرة عن عمد، وأنه ذكر وكأنه كتب سهوا، وبديهى أن ترتيب أسباب النصر بهذه الصورة سوف يدعو المدرس والطالب إلى إغلاق أذهانهم وحجبها عن التفكير، الذى سوف يقودهم إلى أسئلة تعنى إجابتها رفض الدرس بما يحتويه‮.. ‬

إن الطالب سوف يعجز عن تفسير ثغرة الدفرسوار، لأن حدوثها يعنى أن المصريين قد فقدوا إيمانهم الصحيح لفترة، أو انهارت عزائمهم أو تخلوا عن فضيلة الصبر، وسوف يعجز أيضًا عن تفسير هزيمة‮ ‬1967‮ ‬إلا بتفسير واحد، هو كفر آبائه الصريح، وربما تمادى فتصور الأمر من جانبه الآخر على أنه نصر إلهى لليهود، ورضا منه على فعالهم، ولعل البعض الآن قد تحفز للرد على، متصورا أننى أحاول الالتفات بمهارة للتوصل إلى نتيجة مؤداها رفض الإيمان أو استنكار الاستعانة بالله، وأنا أستغفر الله لمن يشطح به الخيال إلى هذا الظن، لأننى أعتقد أن ما ورد فى الدرس السابق يمثل منهجا يأباه الإسلام كل الإباء، بل إنه يطرح فى الحقيقة منهجا عكسيا له على خط مستقيم والتاريخ ملىء بالنماذج الدالة على ذلك، وما لنا نذهب بعيدا وأمامنا درس‮ ‬غزوة أحد‮. ‬

كان يسيرًا على الله ان ينتصر المسلمون فى أحد، وكان الإسلام أحوج ما يكون إلى هذا النصر، وما كان للمشركين أن يحتجوا فى أحد بما أاحتجوا به فى بدر من مباغتة المسلمين لهم، ولو ثنى المسلمون على نصر بدر بنصر أحد لانتهى أمر الشرك أو كاد، وعلى مستوى العقيدة والإيمان كانت الظروف ممهدة لانتصار لا شك فيه، فالمسلمون المحاربون هم السابقون الأولون، وأولئك هم المقربون، وقائد الجيش هو النبى العظيم، أى أنه خير قادة التاريخ، ولم يكن المسلمون فى حاجة إلى صيحة الله أكبر، لأنها كانت محور حياتهم، بل هى دعواهم التى نفروا خفافا وثقالا للدفاع عنها، ونضيف إلى ذلك كله ما هو ثابت بالنص القرآنى من مساندة الملائكة للمسلمين فى أحد، ‬ورغم ذلك كله‮ (‬جيش الصحابة وقيادة النبى، صدق الإسلام ومساندة الملائكة‮) ‬انهزم المسلمون وانتصر المشركون، وكانت هزيمة أحد أثقل الهزائم، وفسر لنا القرآن وكتب السيرة سبب الهزيمة وهو ترك المسلمين لمواقعهم سعيا وراء الغنائم، أى بتعبير العصر نتيجة لخطأ فنى‮.. ‬هذا الموكب الإيمانى كله، يلقى هزيمته فى أحرج الظروف، بسبب خطأ فنى أجاد المشركون استغلاله‮.. ‬

أى دلالة أوضح من هذه الدلالة على منهج الإسلام؟ الاستعداد الجيد للحرب إذن هو الأساس والتدريب الجيد على مواجهة المواقف الممكنة هو الفيصل، واتخاذ القرارات المناسبة، وفقا لسير العمليات هو المنهج، وإذا اختل هذا فلا يشفع للجيش أن يكون قائده أعظم الخلق، أو أن يكون جنده خيار الصحابة، أو أن يكون سنده ملائكة الرحمن، أو أن تكون صيحته: الله أكبر أو لا إله إلا الله‮.. ‬

ألا يدرك كاتبو الدرس الآن، أنهم يعكسون القصد ويقلبون الحقائق وأكثر من ذلك أنهم يمهدون الأرض للتطرف‮.. ‬

الإيمان بالعقل مرشدا للعمل‮: ‬

نعم‮.. ‬فسوف يستقر فى ذهن النشء أن مدخلهم للحاق بالحضارة ومواجهة تحديات العصر، يبدأ بالنصيحة، وينتهى بالبركة، أما العلم والعمل والتدريب فتأتى جميعا فى النهاية، أو لا تأتى فلا ضرر ولا ضرار‮.. ‬

نعم‮.. ‬فسوف يتدرب النشء على إلغاء العقل، وعلى استبعاد التساؤلات وعلى تجاهل المنطق، وعلى قبول الرأى، أى رأى، بالتسليم وليس بالتمحيص وسوف يتبع البعض فى المستقبل رأيا شاذا لمجرد أنه مكتوب فى تراث ابن تيمية، أو منطوق على لسان أحد أمراء الجماعات الإسلامية‮.. ‬

فكرة خاطئة عن الدين‮: ‬

ويبقى ما هو أخطر، وهو ما تيقنت منه وأنا أسأل ابنى عن تصوره ومعلوماته عن الإسلام من خلال ما تلقنه من دروس الدين فى المدرسة، فإذا بثلاثة أرباع حديثه، إن لم يكن أكثر، منحصرا فى ‬غزوات الرسول، بدر وأحد والخندق وخيبر، وإذا بالدين الإسلامى وقد تحول فى ذهن الفتى بقدرة مناهج التدريس إلى دين حرب، وإذا بهم يلقنون النشء مفهوما حربيا عن الإسلام، ما أسهل استلهامه فيما بعد، حين يمتشق الفرد منهم سلاحا، ويستحل دم المخالفين له، ويتبنى الجهاد المسلح ضد مواطنيه، ويرى فى ذلك ركنا من أركان العقيدة‮. ‬

والغريب أن هذا المنهج‮ (‬المنهج الحربى‮)، قد شاع مؤخرا لدى الكبار أيضا، حتى وجدنا من يتنادون بتدريس فنون الكر والفر فى الغزوات فى الكليات العسكرية، وحيث تقدم البحوث فى كلية أركان الحرب عن عبقرية الفن العسكرى فى ‬غزوة كذا أو‮ ‬غزوة كذا، وقد ينذهل الكثيرون حين يعلمون أن مجموع قتلى المسلمين والمشركين‮ (‬ونكرر‮: ‬مجموع‮) ‬فى جميع الغزوات التى تمت فى عهد الرسول‮ (‬ونكرر‮: ‬جميع الغزوات‮) ‬من واقع سيرة ابن هشام يبلغ‮ ‬251‮ ‬قتيلا‮ (‬مائتان وواحد وخمسون قتيلا فقط‮) ‬منهم‮ ‬139‮ ‬شهيدا‮ (‬بنسبة‮ ‬55٪‮) ‬يمثلون شهداء المسلمين، و112‮ ‬قتيلا‮ (‬بنسبة‮ ‬45٪‮) ‬يمثلون قتلى‮ ‬المشركين، وواضح أن‮ ‬إجمالى عدد القتلى يقل عن ضحايا سقوط طائرة واحدة فى أيامنا هذه، وتفصيل شهداء المسلمين‮: (‬بدر‮ ‬14، أحد‮ ‬7‮ ‬، الخندق‮ ‬6‮ ‬، بنو المصطلق‮ - ‬خيبر‮ ‬19، مؤتة‮ ‬14، حنين‮ ‬4، الطائف12، تبوك‮) ‬بينما تفصيل قتلى المشركين‮ (‬بدر‮ ‬7، أحد‮ ‬22، الخندق‮ ‬3، بنو المصطلق‮ ‬3، خيبر‮ - ‬مؤته‮ ‬14، حنين‮ -‬، الطائف‮-‬، تبوك‮-) ‬وواضح أيضًا أنه لم تكن هناك حرب ولا ضحايا فى تبوك‮. ‬

وواضح أيضًا أن المسلمين قد انتصروا فى ‬غزوتين‮ (‬بدر وبنوالمصطلق). وانهزموا فى ‬غزوتين‮ (‬أحد ومؤتة‮) ‬وأفشلوا حصارا‮ (‬الخندق). ونجحوا فى حصار‮ (‬خيبر‮) ‬وفشلوا فى حصارين‮ (‬حنين والطائف‮) ‬وأن الغزوات قد بدأت بانتصار فى بدر وانتهت بهزيمة فى مؤتة، وأن الغزوات قد بدأت بانتصار فى بدر وانتهت بهزيمة فى مؤتة، وأن عظمة الرسول لم تكن فى انتصاراته المستمرة، فهذا لم يحدث، وإنما تمثلت فى تحويله لسجل اختلطت فيه الانتصارات بالهزائم حتى كادا يتعادلان إلى انتصار نهائى، وتاريخى، ومستمر، وهو ما لا أعتقد أنه قد حدث على مدى التاريخ‮. ‬

غياب النظرة الشاملة إلى الإسلام‮: ‬

ودلالة ما اضطررنا إلى سرده فيما سبق، أن مفهوم الإسلام الحقيقى قد‮ ‬غاب عن الأذهان، فكان ما كان، فهو فى أذهان البعض دين حرب، وهو فى خيال البعض موسوعة طب، وهو فى عقول البعض منهج اقتصاد، وآخر ما يفكر فيه الجميع أنه عقيدة وعبادة، وقيم ومثل، وتعامل بالمعروف، وموعظة بالحسنى وفيض إحسان، وسبيل إيمان، وأن الرسول قد تمثل فى أذهان البعض وكأنه فارس حرب، أو عالم طب، دون التفات إلى أن عظمته الحقيقية كامنة فى إنسانيته، وأنه مبلغ‮ ‬أمين لرسالة عظيمة، ويا حسرة على ولدى الصغير وعلى جيله كله، ذلك الذى يقارن فى خياله بين الرسول وبين نابليون، ولا يعرف من الإسلام إلا سيفا مشهورا، وكفانا منشورا، وقبرا محفورا، ويا أسفا على من مهدوا للتطرف بإخفاء الحقائق، وأوقروا فى النفوس أن دين السلام سبيل حرب، وأن جيوش المسلمين سيوف بلا قلب، وربما بلا عقل أيضا. ‬

تنويعات على أنغام شاذة‮: ‬

لا بأس هنا أن نقطع رتابة السرد بحوار نجريه مع القارئ، سائلين إياه عن رأيه فيما سنقصه عليه من أحداث حقيقية حدثت فى مصر فى العام الأخير وكلها موثقة بالأسانيد والمصادر، وليس لها علاقة بخيال أو احتمال، وجميعها تختلط فيها المأساة بالملهاة، ويربط بينها جميعا خيط رفيع، يمكن تسميته بالجنوح، أو الجموح، لكن أصدق وصف لها، أنها تنويعات على أنغام شاذة، ولعلنا نستأذن القارئ فى استعارة أسلوب كتاب السيناريو فى الأفلام السيناريو فى الأفلام السينمائية فلربما كان أصدق فى التصوير، وأدق فى التعبير‮.. ‬

‮ (‬بعض شباب الجامعات الإسلامية فى جامعة أسيوط يرفضون الذهاب إلى الجامعة فى سيارة أو على دراجة ويفضلون تأكيدا للأصولية أن يذهبوا ممتطين‮ (‬دابة‮).. ‬حجتهم فى ذلك أن السيارة والدرجة ينطبق عليها وصف‮ (‬لتركبوها‮)، ‬أما الدابة فينطبق عليها وصف لتركبوها وزينة‮ ‬وتزداد جرعة الأصولية لدى البعض فيفضل امتطاء‮ (‬الناقة‮). ‬

أمير إحدى الجماعات، يرتدى جلبابا أبيض قصيرا، ويمتطى ناقة تتهادى به بينما الكاميرا تتابعه‮.. ‬تقترب الكاميرا من وجهه فتظهر لحيته السوداء الكثيفة وبقايا من شاربه الحليق، وتبدو عيناه مكحلتين بكحل الأثمد، تمر الناقة وتقترب الكاميرا من ظهره فتظهر الذؤابة المتدلية من عمامته، وشعر رأسه المنسدل على كتفيه، ومن بعيد يظهر مبنى حديث،

تقترب الكاميرا من لافتة على باب المبنى مكتوب عليها‮ (‬كلية الطب‮). ‬ستوب‮... ‬

المشهد الأول‮.. ‬محطة السكة الحديد، تقترب من الكاميرا من لافتة المحطة يظهر اسم المحطة بعرض الشاشة‮ (‬المنيا‮)... ‬

المشهد الثاني‮: ‬شاب من الملتحين يرتدى جلبابا أبيض أمامه صحيفة يومية ملقاة على الأرض تقترب الكاميرا من يده وهو يشير إلى الصحيفة حيث يظهر العنوان الرئيسى بعرض الشاشة‮ (‬ألف مليون جنيه للإنفاق على المجارى). تعود الكاميرا إلى وجه الشاب وتقترب منه فتظهر على وجهه ملامح الضيق والاشمئزاز‮.. ‬

المشهد الثالث‮: ‬جماعة من الملتحين بثيابهم البيضاء يسيرون صوب الصحراء فى تثاقل وبخطوات شديدة البطء وأيديهم متشابكة تقترب الكاميرا من ظهورهم التى تبدو منحنية ومن بعيد تظهر الشمس وهى فى سبيلها للغروب‮... ‬

صوت المذيع ينطلق‮: ‬ها هم يذهبون لقضاء حاجتهم فى الخلاء مصداقا لبيانهم الشهير‮: (‬سلوك الجهلاء وآداب قضاء الحاجة فى الخلاء‮) ‬ما أروع القصد، وما أرشد السبيل‮... ‬

المشهد الرابع‮: ‬إضاءة قوية نفس المجموعة تعود وهى مسرعة الخطو وأفرادها يتقافزون فى خفة وسعادة، تقترب الكاميرا من وجوههم فتبدو عليها مشاعر الراحة والصحة وملامح الغبطة والابتسام يربت كل منهم على كتف زميله فى سرور وحبور مرددا‮.. ‬شفيتم‮.. ‬شفيتم‮.. ‬ستوب‮.. ‬

‮ (‬أعلن بعض مدرسى الألعاب الرياضية فى محافظة سوهاج رفضهم لتحية العلم فى الصباح ولترديد هتاف‮ (‬تحيا جمهورية مصر العربية‮) ‬واستبدلوا به هتافات دينية، وفى إحدى المدارس طرد بعض المدرسين المتطرفين مدرس الموسيقى، واضطرت مديرية التعليم لتعيينه فى وظيفة إدارية بالمنطقة‮). ‬

المشهد الأول‮: ‬طابور الصباح فى إحدى المدارس الابتدائية يقف الطلاب على هيئة ثلاثة أضلاع مربع، عشرة مدرسين يقفون فى الضلع الرابع يتوسطهم مدير المدرسة وجميعهم بالملابس الإفرنجية‮.. ‬فى منتصف الساحة يرتفع علم مصر خفاقا مرفرفا، وبجواره مدرس التربية الرياضية مرتديا ملابس تدريب رياضية، يهتف ويردد الطلبة وراءه‮.. ‬تحيا جمهورية مصر العربية‮.. ‬تحيا جمهورية مصر العربية‮.. ‬تحيا جمهورية مصر العربية‮.. ‬

المشهد الثانى‮: ‬خريطة بحدود مصر مكتوب عليها جمهورية مصر العربية‮.. ‬تشتعل النار فى أحد أطرافها ثم تمتد لتلتهم الخريطة بأكملها‮.. ‬

المشهد الثالث‮: ‬لوحة مكتوب عليها بخط جميل‮ (‬حدود الوطن لدى المسلم محدودة بالعقيدة وحيث يوجد المسلم يكون الوطن، أما الوطنية فهى إرث الاستعمار‮.. ‬أبو الأعلى المودودى‮). ‬

المشهد الرابع‮: ‬نفس المشهد الأول عدا اختفاء العلم وارتداء مدرس التربية الرياضية جلبابا أبيض قصيرا، تحته سروال طويل من نفس اللون ترتفع يده اليمنى ممسكة بالمصحف ويهتف ويردد وراءه الطلبة‮.. ‬القرآن دستورنا‮.. ‬الرسول زعيمنا‮.. ‬الموت فى سبيل الله أحلى أمانينا‮.. ‬الله أكبر‮.. ‬الله أكبر‮.. ‬الله أكبر ولله الحمد‮.. ‬ستوب‮. ‬

المشهد الأول‮: ‬لوحة بعرض الشاشة‮: ‬العرض القادم‮ - ‬وغدا تتحطم الأصنام‮.. ‬

المشهد الثانى: ‬تمثال رمسيس‮. ‬تقترب الكاميرا من وجهه ببطء‮. ‬

المشهد الثالث‮: ‬تمثال سعد زغلول‮. ‬تقترب الكاميرا من وجهه ببطء‮.. ‬

صوت‮: ‬وغدا تتحطم الأصنام‮. ‬

المشهد الرابع‮: ‬لوحة بعرض الشاشة‮: ‬النهاية‮.. ‬ستوب‮.. ‬

البحث عن سبيل للحوار‮: ‬

ونتساءل معا‮: ‬تحت أى بند من البنود يمكن أن نصنف الأحداث السابقة وكلها حقيقة وموثقة‮ (‬ركوب الدابة فى أسيوط‮: ‬مجلة المصور، قضاء الحاجة فى الخلاء فى المنيا‮: ‬منشور للجماعة الإسلامية استبدال النشيد الوطنى وتحية العلم بالهتافات الدينية فى سوهاج‮: ‬جريدة الأهالى‮) ‬وهل هو الاندفاع أم التطرف، أم الإرهاب، أم كل هذا مضافا إليه‮ ‬غياب العقل والوعى معا؟

أى أسلوب يجدى يا ترى مع هؤلاء وأمثالهم، هل هو المجادلة بالتى هى أحسن، أم المجادلة بالتى هى أسوأ؟ وما الأسوأ مما نسمعه عنهم ونراه منهم؟

هذه أسئلة لا تغنى عن محاولة استعراض أسباب المشكلة، وسبل الحل، وهى محاولة صعبة أمام تيار يمرح أفراده فى مساحة واسعة تبدأ بالرفض وتنتهى بالخبال، وتمر بينهما على العنف لفظا ويدا وسيفا ومدفعا‮.. ‬

ونبدأ بالأسباب‮: ‬وهى متعددة ومتشابكة، وبعضها تاريخى وبعضها حديث‮ ‬غير أنا نحاول وضع أيدينا على بعض الأسباب ونطرحها فى صورة تساؤلات‮.. ‬

‮* ‬هل السبب هو‮ ‬غياب القضية الوطنية، بعد الحصول على الاستقلال، وانتكاس القضية القومية بالهزيمة، وابتعاد الخطر الخارجى بالمعاهدة، وهل نحن حقا على عكس الشعوب المتقدمة، لا بد أن نطمئن لقيادة‮ (‬كاريزمية‮) ‬أو نتجمع فى مواجهة عدو خارجى، أو ننفعل بأهداف كبيرة، فإذا تضاءل ذلك كله فوجئنا بأننا عارون حتى من دفء الشعارات واندفعنا فى أحضان أول وعد بالدفء حتى ولو كان وهما؟ ‮.. ‬

‮* ‬هل السبب كامن فى أننا لم ندفع ثمنا للحضارة وإنما انتقلت إلينا على يد الرواد، فسهل علينا خلعها لأنها لم تكن إلا قشرة واهية، وخارجية، وأنه قد آن الأوان لدفع الثمن، ربما مضافا إليه فوائد التأخير؟

‮* ‬هل انسحقنا جميعا لهزيمة يونيو‮ (‬حزيران‮) ‬1967، فتعاملنا مع العالم والحضارة بمنطق المهزوم، الذى ينسحق إلى داخله عند التحدى، ويفضل الارتداد خلفا بدلا من التقدم، عن إحساس عميق بالعجز، وثقة‮ ‬غائبة بالنفس‮. ‬

‮* ‬هل كنا ضحية تزييف التاريخ، حيث نقله إلينا الرواد مصطفى من شواذب القهر والاستبداد والانحلال، حتى هيئ إلينا أننا فقدنا حلم الجنة واستبدلناه بحجم الواقع المتردى، وأننا فى هذا وذاك، لم نتخل عن طبيعتنا الشرقية، التى تميل إلى التجريد، فتجرد الواقع من كل مزية، والحضارة من كل فضيلة والتاريخ من كل شائبة؟

‮* ‬هل ترهلت عقولنا حتى عز عليها التفكير وتفرقت أفكارنا حتى عز عليها التجديد، وترفعت طاقاتنا عن الإبداع وقدراتنا عن تصور النسبية فى الصواب والخطأ، وأذهاننا عن استيعاب مفهوم الفكرة والنقيض، فاسترحنا إلى أول طارق يعد بإلغاء كل ذلك، وإحالة كل أمر إلى أعلى، وعز علينا عجز القدرة فاستبدلناه بقدرة العاجزين؟

‮* ‬هل هى الأزمات الاقتصادية التى نعانيها، والتى كانت تنبئ باليسار فإذا هو عاجز، بل إذا ببعض رموزه تتساقط كالثمار الناضجة فى ساحة التطرف، وتراهن على الحل فى الفردوس، وتعد من لا يملك كوخا يؤويه بقصر فى الجنة، ومن لا يجد عدلا يحميه بالميزان العادل فى الآخرة، وتقرن بين تجمد الحركة وانسيال البركة؟

‮* ‬هل هى مزايدات السياسة، حين أصبح هم قياداتها ذقنا تطول أو توبة تعلن أو حجج تنقله وكالات الأنباء، بينما فى النفس ما فيها من طمع إلى أصوات أكثر ومن توسل إلى قلوب خافقة، ومن مخاطبة لعقول مغلقة، وليس مهما من يدفع الثمن، المهم أن يحصلوا هم على مقدم الأتعاب؟

نرشح لك

أهم أخبار صحافة

Comments

عاجل