المستشار لبيب حليم لبيب يكتب: خطاب شكر

المستشار لبيب حليم لبيب يكتب: خطاب شكر

منذ 4 سنوات

المستشار لبيب حليم لبيب يكتب: خطاب شكر

حزب الشعب يشكر إسماعيل صدقى بعد تقديم استقالته من مجلس النواب\nالمعارضة ترحب برئيس الوزراء الجديد محمد توفيق نسيم\nالملك يدعو لتشكيل وزارة قومية لتسيير أمور المواطنين\nتوقيع «معاهدة 36».. نصر كبير لحزب الوفد\nاستمرت الوزارة الجديدة فى خطتها، وقربت الدورة البرلمانية على الافتتاح، وأشيع أن إسماعيل صدقى سيرشح نفسه لرئاسة مجلس النواب، وثارت ثائرة الوزارة وغضب دولة رئيسها لأن إسماعيل أحب أن يتبع وكيل حزب الشعب فى حكومته الجديدة نفس سياسة رئيس الحزب فى وزارته السابقة!\nوراحت الحكومة تناوئ الرجل وتحاربه، وكرهت أن يكون إسماعيل صدقى رقيبا عليها، وأن يقعد فى مقعد رئاسة النواب، وعلم «صدقى» بمساعى الحكومة فى سبيل إحباط ذلك الأمر، وخشى أن يحدث انقسام خطير فى الحزب، فلم يجد إلا أن يصدر بيانا لأعضاء الحزب، وأن يرسل إلى الحكومة هو الآخر صورة منه ليزيد طمأنينته، ويؤكد له أنه لن يفكر فى ترشيح نفسه لرئاسة المجلس!\nودعا البرلمان إلى الاجتماع وبدأت الدورة أعمالها، وأحس إسماعيل صدقى أن فى وجوده ما لا يتفق ورأى الحكومة ورغبتها، فلم يجد إلا أن يستقيل من عضوية مجلس النواب، ولما كانت الاستقالة من عضوية مجلس النواب من اللازم أن يستتبعها إجراء دستورى آخر، وهو الاستقالة من رئاسة حزب الشعب، فقد أسرع إسماعيل صدقى بتقديم استقالته من حزب الشعب، ثم أعلن «صدقى» اعتزاله العمل السياسى، واجتمع حزب الشعب، وأصدر قرارا جماعيا بقبول استقالة منشئه وموجده وتوجيه خطاب شكر إليه!!\nصدر خطاب الشكر بعد أن اجتمع نائب رئيس حزب الشعب وأعضاء الحزب فى جلسة خاصة حضرها وزير المعارف، وفى هذه الجلسة هدد الرئيس وجميع الأعضاء من النواب بأنهم إن لم يؤيدوه على طول الخط، ويقبلوا استقالة رئيسهم السابق من الحزب ومجلس النواب دون كلمة أو معارضة فسيقضى على النظام الحالى، ويحل البرلمان.\nوصدرت الصحف وفيها إشارة إلى ذلك التهديد، ووجد إسماعيل صدقى أن الحكمة توجب معالجة الأمر، وسد الطريق على الساعين فى القضاء على النظام، ولم يجد إلا أن يعود مرة أخرى وأسرع يكتب إلى رئيس مجلس النواب يسترد استقالته التى كانت لم تعرض بعد على أعضاء المجلس!\nوكان طبيعيا أن تفاجأ الوزارة بنبأ استرداد الاستقالة وأن تروعها الوقائع التى أوردها «صدقى» فى كتاب الاسترداد، وأن يسارع دولة رئيسها بمحاولة تغطية موقفه الذى أشار إليه إسماعيل صدقى إشارة صريحة لا لبس فيها ولا غموض!!\nواتصل دولة الرئيس بالصحف، ووزع عليها بيانا رد به على كتاب استرداد الاستقالة، ونفى فيه الوقائع التى نسبها إليه صدقى. كما نفى وزير المعارف ما نسب إليه هو الآخر، ولكن هذا الإنكار لم يغير من الأمر شيئا، إذ قدم نواب الحزب الوطنى إلى الحكومة استجوابا فى هذا الشأن.\nويبدو من مطالعة التاريخ أن «صدقى» وقف أمام أحزاب لها خطورتها، ثم طلق الحزبية والتحزب، ويحكى «صدقى» فى مذكراته: إننى لم أكن أريد أن أؤلف حزبا، أو أصبح رئيسا لحزب يوما من الأيام لأننى لا أميل إلى الحزبية، وليس من طبيعتى التشيع لشخص من الأشخاص، ولو كان شخصا ولكن ظروف الحكم والحياة الدستورية اضطرتنى إلى تأليف حزب الشعب، لأستند إلى تأييده، وبعدما تخلى عنى جانب ذوو شأن من حزب الأحرار، وانضم إلى الوفد لمعارضتى ومحاربة دستور سنة 1930.\nحتى إذا تركت الحكم، وسايرت التيار الحزبى بعض الوقت، لمست أن لا فائدة من اتصالى بحزب معين، واستقلت استقالة مسببة بينت فيها أن الحزبية فى مصر ليست من النوع الذى يحقق منه للبلاد نفع، لأنها عندنا ذات صفة شخصية، أى أنها تتصل بالأشخاص، لا بالمبادئ، وذلك شأنها فى البلاد التى لم تنضج فيها الحياة النيابية، ولم تستقر فيها مبادئ الحكم الديمقراطى حيث يجتمع الناس حول أشخاص لا حول مبادئ!\nفالأحزاب عندنا أفراد جمعتهم وحدة حال أو صداقة أو ذكريات مشتركة، أو أقسام من أحزاب انفصلت عن حزبها الأول، لاختلاف فى بعض وجهات النظر، فكونوا من الأحزاب أحزابا ولست أدرى لهذا كله من فائدة غير تلك التى تهيئ للمتحزبين أسباب الحكم!\nمن أجل هذا طلق إسماعيل صدقى الحزبية التى طالما جاهر بكراهيتها وعدد مساوئها!! ومرت الأيام وتبدل الناس وذهبت الوزارة وزال عنها جلال الحكم، وخلع من فيها طيلسان الجاه، وطوى الزمن صفحة حياتها القصيرة، وجاءت إلى الحكم وزارة جديدة على رأسها سياسى من طراز قديم هو محمد توفيق نسيم.\nورحبت المعارضة برئيس الوزراء الجديد، وأشارت الصحف إلى ما يمكن أن تفيده البلاد على يديه، ومرت الأيام، ولم يطل بالناس انتظارهم للمفاجأة المنتظرة،\nومؤدى ذلك أن إلغاء دستورى سنة 1930 كان معناه العودة إلى الماضى، إلى الأوتوقراطية الحزبية التى كانت البلاد لا تزال تقاسى منها!!\nوفى 20 أبريل سنة 1935، كتب توفيق نسيم إلى الملك كتابا ذكر فيه ما أنجزته الحكومة من الأعمال التى يرتجى منها للبلاد خيرا، وأشار إلى إعادة دستور سنة 1923 منقحا، ولو رأى جلالة الملك تنقيح شىء فيه أو وضع دستور جديد تقره جمعية تأسيسية ترضاها البلاد، وتمثلها تمثيلا صحيحا.\nوختم «توفيق» كتابه بأن بعض العناصر غير المسئولة تتدخل فى شئون الحكم تدخلا قد يترتب عليه أن يبطئ النجاح فى معالجة الأمر أكثر مما أبطأ، راجيا التغلب على الصعوبات واستكمال النجاح بمساعدة جلالة الملك وحسن رعايته.\nوأجاب الملك وزيره الأول بكتاب أرسله إليه بعد ثلاثة أيام يؤكد فيه تأييده لتحقيق المهمة العظمى التى اختاره لها، ويذكر أنه يؤثر إعادة دستور سنة 1923، على أن يعدله ممثلو الأمة بما تدعو إليه الأحوال ويرجو الله فى ختامه التوفيق والسداد.\nومرت الأيام مدة طويلة وتولى أنتونى إيدن وزارة الخارجية البريطانية وأعلن أنه معنى بالمسألة المصرية، ولكن ليس قبل دراستها دراسة كاملة، وحل الوقت المرتقب وأبدت إنجلترا استعدادها لفتح باب المفاوضات مع هيئة مسئولة جامعة للزعماء والأحزاب.\nووجد الملك أن الصالح القومى العام يوجب تنحى وزارة توفيق نسيم عن الحكم، والأمر بتشكيل وزارة قومية تتولى السير بمطالب البلاد، بروح التفانى والإخلاص، لتصل بها إلى بر الأمان ودعا الملك فؤاد أعضاء الجبهة لمقابلته بقصر عابدين قائلا لهم:\nإن أمامكم صعابا جمة، فلا بد من الاستعانة عليها بالأناة والحكمة والحزم مع نسيان كل اعتبار غير اعتبار الغاية الكبرى التى نسعى إليها، وها هو موضوع المفاوضات مع دولة انجلترا فقد أصبح من الشئون العاجلة الحالة مما يدعو لاشتغالكم بها اشتغالا جديا.\nوأضاف جلالة الملك، الآن وقد عرضت دولة بريطانيا المفاوضة من جديد فالفرصة قائمة لبذل ما يستطاع من جهود فى سبيل إنجاز المهمة الكبرى التى تتطلبها منكم البلاد، وهى فرصة جميلة تلك التى يتاح بفضلها أن يشترك زعماء البلاد جميعا فيما يحقق رغبات الأمة كلها.\nولم تفت جلالة الملك الإشارة فى نطقه إلى الوزارة القومية التى تجمع الزعماء، كما جمعتهم الجبهة الوطنية، وكان من نتيجة هذا التضامن الخير الذى تبدت فى الأفق السياسى تباشيره.\nوأضاف الملك: أن وزارة توفيق نسيم باشا لا تمثل أحزاب البلد، فإن دولة رئيسها قد أعرب بعد تفاهم معى بالأمس عن رغبته فى إخلاء مركزه ما يدعونا الآن لتكوين وزارة ائتلافية، ولقد بحثت الأمر قبل حضوركم مع دولة النحاس باشا، وأظننا قد اقتربنا من أن نتفاهم، لقد اتفق دولته 99٪ على ذلك وبقى 1٪ وأنا متمسك به أيضاً.\nوبعدها ألف على ماهر وزارته المحايدة القصيرة الأمد، والتى استطاعت برغم قصر مدتها أن تحقق أهدافا مثالية، وأن تعمل أعمالا مفيدة للغاية.\nوعلى ماهر - من سردى لوقائع التاريخ وفهمه وتأمله - فهو رجل زكى فطن، رجل له قلب، بل وقلب كبير، وهو رجل برنامج، عملى كان يعرف جيدا مهمته، وهدفه وغايته.\nكان يعرف أن أول خطوة إيجابية فى برنامجه هى المفاوضة وأنه فى سبيلها وبعد حوالى أسبوعين من توليه الحكم أرسل إلى المندوب السامى شاكرا استعداد الحكومة البريطانية للدخول فى محادثات فى شأن المسألة المصرية، مشيرا إلى صدور مرسوم بتاريخ 13 فبراير سنة 1936\nطالبا فى النهاية إبلاغه ببيان أسماء المندوبين الذين سيمثلون الحكومة البريطانية وتهيأ الجو، وأصبح المسرح معدا لإظهار المسرحية التى سيكون فى ظهورها ما يعزز العلاقة بين مصر وبريطانيا، فقد كان على ماهر هو على ماهر، أعصاب مشتعلة، وذكاء وقاد وعمل متصل، فقد قام بالدور التمهيدى للمفاوضات خير قيام وأداه فى صالح قضية بلاده خير أداء.\nوفى 13 فبراير سنة 1936\nوأن من آيات اليمن ودواعى الاستبشار أن البلاد - بفضل إرشاد جلالتكم - تستقبل هذا الدور متحدة الكلمة، متسقة الإرادة، وأنها قد أجمعت على المبادرة إلى معالجة وضع اتفاق يوثق ما بين البلدين من صداقة ويقر علاقاتها على أساس متين.\nثم عرض على ماهر على جلالة الملك المرسوم الخاص بتعيين هيئة المفاوضة من كل من: مصطفى النحاس رئيسا ومحمد محمود وإسماعيل صدقى وعبدالفتاح يحيى وواصف غالى والدكتور أحمد ماهر وعلى الشمس وعثمان محرم ومحمد حلمى عيسى ومكرم عبيد، ومحمود فهمى النقراشى وحافظ عفيفى وأحمد حمدى سيف النصر.\nواعتبروا جميعا مندوبين فوق العادة وخول لهم الملك السلطة التامة فى إبرام المعاهدة وتوقيعها.\nوفى 14 فبراير سنة 1936 أقسم دولة رئيس الهيئة الرسمية للمفاوضات وحضرات أعضائها اليمين الآتى نصه أمام الملك:\n"أقسم بأن أكون مخلصا للملك وللدستور ولقوانين البلاد وأن أؤدى ما هو معهود وما قد يعهد إلى به من الأعمال فى مهمتى بالذمة والشرف".\nوبدأ العمل وبلغ من شدة الاهتمام به والسرعة فى وضع قواعده أن ردت دار المندوب السامى على كتاب رئيس الوزراء فى نفس اليوم، مؤكدة فيه أن حكومة جلالة ملك بريطانيا لها وطيد الأمل بل إنها فى الواقع موقنة أن كلا من الفريقين سيبذلان قصارى جهدهما للوصول إلى اتفاق وأنه لم يصله أسماء الذين سيمثلون حكومة جلالة الملك فى المحادثات، وأنه بمجرد علمه سيبادر إلى إحاطة دولته.\nوأسرع على ماهر فاستصدر مرسوما بإجراء الانتخابات وتحديدها وبدأت الأمور تسير سيرها الطبيعى، وهدأ مسرح السياسة لأن الشعب والوزارة كانا يعرفان أن الوزارة وزارة انتخابات.\nأما فى معسكر الأحزاب، فقد حدثت اتصالات ومشاورات ومد وجذر وتجاذب ثم استقرت الأمور فى النهاية بعد عملية توزيع الدوائر والاتفاق عليها، وخاصة بين الوفد والأحرار.\nوبدأ يقترب موعد الانتخاب الذى أعدت له الأحزاب عدتها، وما لديها من قوة ووسائل دعاية، ثم لم يكن يقترب الموعد المضروب حتى اهتزت البلاد بفاجعة مروعة، وهى فقد مصر عاهلها الملك فؤاد الأول.\nكانت مصر تعرف على ماهر جيدا، وتعرف من هو، عرفت به الذكاء والقلب الكبير والقدرة على تنفيذ ما يؤمن به، وما يؤمن بصلاحيته وفائدته لمصر، ومات الملك وسرعان ما أعلن على ماهر تولية فاروق على عرش مصر، وجلالته وقتها فى انجلترا يتأهب للعودة على عرش آبائه وأجداده.\nوكان إعلان الولاية ضربة للرجعيين والنفعيين وأصحاب المصالح، وكان تيارا وطنيا دافقا ما تجاسرت قوة على الوقوف أمامه، فسار فى مجراه الطبيعى الذى رضيه الشعب.\nوتمت الانتخابات بعد ذلك، وفاز الوفد بالغالبية العظمى، فتولى رئيسه الوزارة وسارت المفاوضات وتقدمت نحو الغاية وفى النهاية سافر الوفد الرسمى ليوقع فى لندن وسط مظاهر الترحيب المعاهدة التى عرفت باسم معاهدة 1936.\nولا جدال فى أن توقيع معاهدة 1936، يعتبر نصرا مؤزرا لـ«الوفد»، وفتحا مبينا ومجدا ما تطاول إليه أى حزب، ولا حاول أن يسمو إليه سياسى فى الوجود.\nهذه كانت فكرة الوفد، وذلك كان مدى إيمانه بالمعاهدة، التى أطلق عليها معاهدة الصداقة والشرف، وأطلق الوفد فى سبيل الدعاية لها ما أطلق، وقال عنها دعاته ما قالوا حتى مرت فى سلام عاصفة النقد القوية التى وجهت إليها من بعض كبار أعضاء هيئة المفاوضة.\nمرت العاصفة بسلام، واستقر حزب الوفد فى الحكم، فخطا خطوة ثانية فى سبيل التحرر من الربقة الأجنبية وسلطان الدخلاء، فكان أن أبرم معاهدة إلغاء الامتيازات وهى المعاهدة التى عرفت بعد ذلك باسم معاهدة مونتريه.\nوبدأت مصر تجني ثمار معاهدة مرموقة آمن  الشعب بأن وراءها الخير كل الخير والفلاح كل الفلاح  والرقي الاجتماعي كل الرقي.\nوحددت البلاد مركزها من الأجانب وغيرهم وأصبحت مصر فى النهاية حليفة لبريطانيا تقف إلى جانبها موقف الند للند، والصديق من الصديق، وألغيت امتيازات ممثل الإنجليز فى مصر، فلم يعد أكثر من سفير شأنه فى الحياة السياسية شأن غيره من سفراء الدول الأخرى.\nومرت قافلة الحوادث، وتخطت الحدود والسدود وألقت وراءها عاما بعد عام، ثم وبعد صفاء وائتلاف حزبى سادت أجواء العلاقات الحزبية سحب قاتمة، وراعت الشعب حوادث مخالفات وجد فيها افتئاتا من حماة الدستور على الدستور، وكانت أزمة، وكانت أقسى ما فيها أن انشق على حزب الوفد نفر من أخلص أعضائه، وأشدهم جرأة وكونوا حزبا أسموه الهيئة السعدية رأسها أحمد ماهر واستفحل أمر الأزمة وتطور تطورا غريبا كان من جرائه أن أقيلت الوزارة النحاسية، وصدر أمر ملكى بعدها إلى محمد محمود بتشكيل الوزارة!

الخبر من المصدر