المحتوى الرئيسى

سيرجي جنابري.. أهم شيء غير مهم في الحياة

05/25 19:35

لن أنسى أبدا المرة الأولى التي قابلت فيها أرسين فينجر.

بلغت 16 عاما وقتها، بل بالكاد أكملت عامي السادس عشر، عانيت من القلق في ذلك الوقت لأني تركت حياتي بأكملها في ألمانيا حتى أنضم إلى أرسنال.

من الجلي أن ترك قرية يبلغ عدد سكانها 6000 نسمة والانتقال إلى نادٍ بهذا الحجم كفيل بالتسبب في صدمة لي.

وحتى أعطيكم فكرة عما أتحدث، فإني أتذكر أول رحلة طيران لي إلى لندن من أجل الخضوع للاختبار، النادي أرسل سائقا لاصطحابي أنا ووالدي من المطار، والرجل حضر في سيارة BMW، وأنا فوجئت بالطبع.

وتذكّروا أنني قادم من ألمانيا، أي أننا نمتلك سيارات BMW في كل مكان، لكن هذه السيارة كانت معتمة ولامعة، مما دفعني إلى النظر نحو أمي كما لو أننا نعيش فيلما.

شعرت أن الأمر رائع.. على أي حال، أول مرة قابلت فيها أرسين كانت...

حسنا، دخلت مكتبه رفقة أمي وأبي، وأرسين قال جملة بسيطة مثل "مرحبا سيرجي، كيف حالك؟"، وأنا لم أستطع التوقف عن الابتسام، عقلي ظل يخبرني أن أتوقف عن الابتسام لأن الوضع ازداد إحراجا.

لكني لم أستطع، ربما لم أنطق سوى بـ10 كلمات طوال المقابلة، كنت أفكر: "يا إلهي، أرسين فينجر يعرف اسمي".!

مجرد تكرار اسمي بصوتٍ عالٍ كان يدفعني إلى الدهشة، لم أصدق أن الأمر حقيقي.

أتذكر أنه ظل يتحدث عن الممر، لأن ملعب تدريب أرسنال يقسمه رواق بين فريق الشباب والفريق الأول.

أرسين طلب مني العمل بجد حتى أعبر إلى الجانب الآخر، لكن الطريقة التي كان يتحدث بها كانت كالمخدر، كان يشير إلى مكان الفريق الأول ويخبرني أنه هناك، وأنني أستطيع أن أرى كل اللاعبين الذين شاهدتهم على التلفاز وألاحظهم أثناء دخولهم غرفة خلع الملابس، لكني لم أحقق ما يشفع لي بالعبور إلى هناك بعد.

وحتى أمر إلى النصف الآخر من الممر، فيتوجب علي أن أضاعف من تدريبي.

وبينما تحدث أرسين، نظرت إلى أبي ووجدت وجهه وكأنه يقول: "نعم، صحيح، هذه حقائق، أخبره يا أرسين، أخبر ابني".

ظللت أبتسم وأومئ برأسي فقط، وأبقي لم يستطع منع نفسه وقال بصوتٍ عال: "نعم لقد كنت أخبره ذلك يا أرسين، عليه أن يعمل بقوة أكبر، أخبرته ذلك مرارا".

هاهاهاهاها، شعرت بإحراج شديد، أردت أن أقول لأبي: "ماذا تقول؟؟؟ لماذا لا تبقى صامتا فحسب!".

ولكن عليكم أن تفهموا طبيعة شخصية أبي. من الجلي أنني أنحدر من أصلين مختلفين.

أنا فخور للغاية بأصلي الألماني والذي هو عن طريق أمي وعائلتها.

لكن أبي هو الجانب الإيفواري القوي، لقد انتقل إلى ألمانيا في شبابه، وأعتقد أن هذا أعطاه منظورا مختلفا للحياة.

في كل ليلة خلال طفولتي، كان يتحدث لساعتين مع أشقائه وشقيقاته في كوت ديفوار، تلك كانت متعته قبل حتى أن نمتلك هواتف جوالة.

ولذا كنت أحيانا أتحدث في الهاتف الأرضي مع بعض أصدقائي، لأجده قد دخل إلى غرفتي حتى يخبرني أن أغلق الهاتف لأن عمتي ستتصل بنا.

ثم أسمعه يتحدث بالفرنسية في اللغة الأخرى ويضحك طوال الليل، ولم أتخيل أبدا ما يعنيه الأمر بالنسبة له.

ولذا عندما تخوض تجربة الهجرة في هذا الجيل الحالي، فالعقلية مختلفة، وأحد الأشياء التي أخبرني والداي بها في طفولتي هو أنه يتوجب عليّ أن أفعل أكثر من الآخرين دائما بسبب لون بشرتي.

لقد سئمت ترتديهم تلك العبارة على مسامعي مرارا وتكرارا بصراحة. كنا نعيش في قرية صغيرة خارج شتوتجارت، ولم أختلط أبدا بالعنصرية خلال ترعرعي هناك، بدوت مختلفا بعض الشيء عن بقية الأطفال في المدرسة، لكني لم أشعر بالاختلاف.

أبي تحديدا أخبرني دوما: "لو أردتهم أن يتقبلوك، عليك أن تعمل أكثر منهم بالضعف، لا تدعهم يعتقدون أنك كسول".

لا يزال في مقدوري أن أسمعه يردد علي هذه الكلمات.

وقد اعتقدنا الذهاب إلى ملعب تدريب في قريتنا عندما بلغت 11 و12 عاما، وكان يجعلني أنطلق بالكرة من الطرف ثم أدخل للعمق وأسدد في المقص، في الزاوية البعيدة، اعتدنا عمل ذلك آلاف المرات على ذلك العشب الصناعي.

كان يخبرني دائما أنني لو أتقنت هذه المهارة، فإني سأسجل العديد من الأهداف.

وكلما سجلت بشكل مثالي، كان يطلب مني التكرار، نفس الأمر، أن أسدد في المقص العلوي، ثم أكرر الأمر مجددا.

والأباء يمتلكون هذا الحدس أعتقد، هل تفهمون ما أتحدث عنه؟ إنهم يستطيعون رؤية المستقبل، فهذه واحدة من تحركاتي التي أمتاز بها، أقطع إلى الداخل وأسدد، عضلاتي تتحرك بذكرى التسديد في ذلك الملعب الصغير من طفولتي.

لقد قمنا بهذا الروتين منذ أن كنت في التاسعة حتى بلغت 15 عاما، أنا وهو فحسب، وحدنا في الملعب مع مجموعة كرات، وبالطبع حدث أن رفضت فعل ذلك، فأنا في الخامسة عشر وأريد أن أتسكع مع أصدقائي، وأن أذهب إلى السينما، أردت حياة طبيعية.

ولكن في نفس اللحظة، من أعماقي، ما الذي أريده حقا؟ أريد أن أعيش حلمي بالطبع، وأنت في حاجة إلى شخص يذكرك بما يتطلبه الأمر، خصوصا عندما تكون مراهقا.

لو لم أمتلك أبي، لما وصلت إلى النجاح، والأمر لا يتعلق بكرة القدم فحسب، بل بشخصي أيضا.

ومن الصعب للغاية أن أشرح شعور أن تبلغ 15 عاما وتلعب في فريق محلي صغير ولا تمتلك مالا في حافظتك، ثم فجأة تصير في السابعة عشر وتلعب في الدوري الإنجليزي وتمتلك الكثير من الأموال والضجيج والاهتمام يملأن المحيط حولك، من 0 إلى 100 بسرعة رهيبة.

تشاهد قدوتك ميسوت أوزيل على التلفاز مع رفاقك، وبعد عامين، تتناول القهوة معه. اعتدت أن تشاهده في رهبة وهو يمرر الكرة الحاسمة إلى كريستيانو رونالدو في الكلاسيكو، والآن بات جالسا أمامك، يسأل عن حالك، هذا أمر سريالي، ومن الصعب ألا تتغير مع كل ما يحدث حتى أكون صريحا.

من الصعب أن تتذكر من أنت!

أذكر أن بير ميرتساكر اعتاد أن يقسوا جدا عليّ، ولكن بدافع طيب، كان شقيقي الأكبر في أرسنال، ولا يهم بأي قدر من القوة تدربت وبأي جودة لعبت، فإنه اعتاد دوما أن يقول...

حسنا، دعونا نتوقف هنا، لأنه يتوجب عليكم أن تعرفوا بير أولا، عليكم أن تسمعوا صوته، وأن تروا وجهه.

بير هو ألطف شخص في العالم، لكنه أيضا أكثر شخص ألماني في العالم، كل ما يقوله يتميز بالحدة، وهو يتحلى بطول فارع، ينظر إلى أسفل نحوك لإخافتك، لكنه أيضا طيب وودود.

لا أعلم إن كان هناك كلمة إنجليزية لوصف ذلك، ولكن تخيلوا أرنولد شوارزنيجر يتحلى بالود معك، إنه أمر مشابه.

هذا هو بير، ولا يهم المجهود الذي أبذله في التدريب، فإنه يصرخ عليّ دوما: "سيرج، من أين أتيت! أنت من شتوتجارت!!! عليك بالتواضع، عليك أن تصير متواضعا".

أول 5 دقائق تمر ولا يهم ماذا قدمت، فإنه يصرخ: "سيررررررجي".

ثم يعود ليكون لطيفا للغاية في بقية اليوم.

وبير أدرك كيف تتغير كل الأمور بسرعة رهيبة، من عمر الخامسة عشر حيث تطلب الأموال من أبويك، ثم تتحول فجأة إلى شخص يجني أموالا أكثر من عائلتك بأكملها وأنت لا تزال في السابعة عشر أو الثامنة عشر.

تخيل ذلك، لن تقدر على التأقلم مع ذلك، أتذكر عندما تم تصعيدي للفريق الأول، بدأت في إنفاق أموالي على الكثير من الأمور غير المهمة.

وهذا ما أفقد والديّ صوابهما، ودفعهما إلى التحدث معي، فقد شعروا أن شيئا سيئا سيحدث، أمي قالت لي: "سيرجي، أتدرك أن هذا قد لا يدوم للأبد؟ لا يمكنك أن تواصل الإنفاق بهذا الشكل، عليك أن تتواضع بعض الشيء، لأن كلنا نسقط عند نقطة معينة".

وحرفيا، بعد عدة أسابيع من هذه المحادثة، سقطت، كل شيء انهار حولي، تعرضت لإصابة في الركبة، ولم أستطع فعل أي شيء لمدة 8 أسابيع، وكأن الزمن تجمّد، وعندما عدت أخيرا للملعب، لم أستطع دخول قائمة الفريق.

فجأة خرجت في إعارة إلى وست بروميتش، وكأن أمي رأت المستقبل!

لكن دعونا نتحدث عن وست بروميتش.

هل تعرفون ما المضحك في الأمر؟ أنه وبالرغم كل ما كُتب عني في الصحف وعن رأي المدرب في وقتها، فإني لا أزال مشوشا.

عندما انتقلت إلى هناك، تحليت بالإيجابية في كل شيء، اخترت وست بروميتش لأن المدرب أرادني بشدة، بالطبع لم أكن جاهزا بنسبة 100% بعد إصابة طويلة.

لكني لاعب هجومي، ووست بروميتش أرادوا اللعب بطريقة مختلفة، لماذا إذا أحضرتوني؟ حظيت بـ15 دقيقة من الركض في نهاية مباراة تشيلسي، ثم لم أتواجد في القائمة مجددا، قبعت في المدرجات لمدة 6 أشهر مشككا في قدراتي، ولم أتلق تبريرا أبدا.

لم أكن لاعبا مثاليا، كنت في التاسعة عشر من عمري، ربما كنت أرتكب أخطاء في التدريبات، ولكن بكل صراحة فقد أعطيت كل ما عندي، أستطيع أن أصارح نفسي بذلك أمام المرآة اليوم.

بعدها بدأت أقرأ أنني كسول، وأنني غير لائق بدنيا، وأني لا أرقى للمستوى، كانت أمورا مثيرة للغضبة.

أن يتم تصنيفي كـ "كسول" بعد كل ما وضعه أبي داخل رأسي منذ صغري، فقد غيرني ذلك حقا. لقد فجّر ذلك شعورا امتلكته في داخلي في صغري:

عندما تمر بمرحلة مماثلة، فإنك تتلقى عددا أقل من المكالمات على هاتفك، تبدأ في رؤية معاملة مختلفة من الناس، إنه موضع تشعر فيه بالوحدة، وهذا مهم لأي لاعب كرة قد شاب، لأنك تتعرف حينها على الأشخاص الحقيقيين حقا في حياتك: أبي وأمي، أصدقائي المقربين، لم يخذلون أبدا، ولكن الكثيرين توقفوا عن مهاتفتي.

تذكرت كيف ظل أبي يخبرني في الملعب الصغير بوجوب أن أعمل أكثر من الآخرين، وكيف أن أمي أخبرتني بعدم استدامة ما أعيشه، وعندما أخبرني بير أن أظل متواضعا، وأرسين يخبرني عن الممر، تسمع كل هذه الكلمات بشكل مختلف عندما تنتكس.

توجب علي أن أتراجع خطوة إلى الخلف حتى أنتفض إلى الأمام، عدت إلى ألمانيا ولعبت لـ فيردر بريمن وهوفنهايم، كانت خطوة غيرت حياتي كشخص أكثر من لاعب كرة قدم، العودة للوطن بعد أن تركت أصدقائي في عمر الـ16، وأن ألعب في أندية ترغب في خدماتي بالفعل، كان أمرا رائعا.

اللعب هو كل ما يريده لاعب كرة القدم، لعل الناس لا يفهمون حقا ما نشعر به عندما لا نلعب، الزمن يتجمد، وفي الواقع، فإن آخر شهرين بالحجر الصحي بالنسبة لي كانت بمثابة استرجاع لتلك الذكريات.

أن أقاتل ضد كل شيء كما فعلت، ثم أوقّع لـ بايرن ميونيخ وأثبت نفسي تحت ضغط رهيب، أن ألعب في دوري أبطال أوروبا، وتصبح في قمة العالم، ثم ماذا؟ بووووف، كل ذلك اختفى!

جميعنا الآن نجلس على الأريكة، نقوم بتدريبات بايرن ميونيخ عبر تطبيق زووم، الأمر سريالي ولا يُصدَق!

في بعض اللحظات عندما كنت أتدرب وحدي في المنزل، كنت أفكر فجأة: "لحظة! هل ألعب في بايرن ميونيخ حقا؟!".

ومجددا، هذا الجزء من القصة حيث يتوجب علينا أن نتوقف فيها، لأنكم يجب أن تفهموا أن "اللعب لـ بايرن كانت حلما أصبح حقيقة" ليست مجرد عبارة عابرة، بل تحمل معنى أعمق.

أتذكر عندما بلغت 9 سنوات، اعتدنا الارتحال إلى دورتموند وميونيخ لخوض بطولات مصغرة، وفي إحدى المرات واجهنا بايرن ميونيخ وقد دخلوا مرتدين هذه الأقمصة الحمراء، كنا مذهولين، كان مشهدا خلابا، وقلت لنفسي إنني سأرتدي هذا القميص يوما ما.

في العام التالي، وبينما كنت عائدا إلى المنزل رفقة أبي وأمي بعد المشاركة في إحدى هذه الدورات، أخبرني أبي أن مدرب من بايرن ميونيخ تحدث إليه وأنهم يريدون ضمي، وقبل أن أنطق بكلمة، وبوجه صلب، قال أبي :"لكنك ستبقى مع والديك، لديك 10 سنوات، ونحن لن ننتقل إلى ميونيخ".

ظللت أبكي طوال طريق العودة إلى المنزل.

أهم أخبار الرياضة

Comments

عاجل