المحتوى الرئيسى

اتفاقيات وضغوط دبلوماسية.. كيف أدارت مصر ملف «سد النهضة»؟

05/22 00:19

"حياة أو موت"، بهذه الكلمات وصف الرئيس عبدالفتاح السيسي في أكثر من مناسبة ملف المياه بالنسبة للمصريين، وهو التصريح الذي تضعه وسائل الإعلام الدولية في صدر منتجاتها الإعلامية عن ملف سد النهضة الإثيوبي، للتدليل على أن مصر مستمرة في التمسك بحقوقها حتى آخر مدى، وأن الإدارة المصرية وإن كانت تمارس سياسة النفس الطويل، إلا أن لديها دراسة وسيناريوهات مدروسة وتسير بخطىً تصاعدية قانونية ودبلوماسية على المستويين الإقليمي والدولي.

تعود المصالح المصرية القانونية والمكتسبة في مياه النيل بحصة مقدرة بـ 55 مليار متر مكعب إلى اتفاقيات ومعاهدات قانونية مُلزمة وقعتها مصر وأثيوبيا أو من ينوب عنهما، وأبرزها اتفاقيات روما 1891، أديس ابابا 1902، لندن 1906، روما 1925، الإطار التعاوني بين البلدين 1993، حيث نصت جميع هذه الاتفاقيات على حماية حقوق دولتي المصب (مصروالسودان)، والتعهد بعدم الإضرار بمصالحهما المائية، ومنع إقامة أي سدود أو منشآت على النهر إلا بموافقة جماعية من الدول الأعضاء في الحوض.

خلال العقود الماضية، ناوشت إثيوبيا عدة مرات بنيتها إنشاء سدود على نهر النيل، إلا أن القاهرة وقفت بالمرصاد لجميع المحاولات رغم تدخل قوى خارجية لتقوية الطرف الإثيوبي، وظل الموقف الإثيوبي في طي التصريحات والمناوشات الكلامية حتى عام 2011 حين سقط النظام في مصر في أعقاب أحداث يناير، فأعلنت أديس أبابا بعد أقل من 3 أشهر بدء بناء السد بينما كانت مصر تمر بحالة من عدم الاتزان لم تعهدها حتى في فترة نكسة يونيو 1967.

رغم الضغط الدبلوماسي المصري حينها، إلا أن الآلة الإثيوبية كانت قد عزمت على المضي في بناء السد، ولم يمنع هذا الاستجابة الخجولة للضغط المصري حين وافق رئيس الوزراء الإثيوبي على تشكيل لجنة فنية ثلاثية لدراسة الأمر، لكنه لم يكن سوى مناورة لكسب مزيد من الوقف وبناء أمرٍ واقعٍ تستند عليه أديس أبابا لاحقًا، في تلك الأثناء واستنادًا إلى حالة التوازن التي عاشتها مصر في تلك الفترة، استجاب شخيصات سياسية وقادة التجمعات الثورية حينها لدعوة من السفير الإثيوبي في القاهرة آنذاك محمود دريدي جيدي للسفر إلى إثيوبيا في رحلات أُطلق عليها اسم "الدبلوماسية الشعبية لحل أزمة سد النهضة"، ولم تنجح تلك الرحلات سوى في تعزيز موقف الحكومة الإثيوبية داخليًا ومساعدتها في الحشد الشعبي للمشروع، والإيحاء كذبًا بأن في مصر قوى سياسية توافق بل وتشجع بناء السد.

بدأت أولى اجتماعات اللجنة الثلاثية الفنية في 28 نوفمبر 2011، حيث حملت مصر لغة القانون والدبلوماسية والعلاقات التاريخية، ولا ضرر ولا ضرار، ودخلت إثيوبيا بلغة فضفاضة أملًا في كسب مزيدٍ من الوقت، والتسويف وعقد عشرات الاجتماعات، والتفاوض من أجل التفاوض وليس من أجل الحل.

فطن المفاوض المصري إلى ما اتسمت به المفاوضات الإثيوبية بالشدة والتعنت الإثيوبي، فطالب بالاحتكام لبيت خبرة عالمي لتقييم السد وتحديد آثاره وتداعياته، وظلت تلك المرحلة مستمرة حتى عام 2015، حيث باختيار المكتب الاستشاري، ثم الاتفاق على تشكيل لجنة الخبراء الدوليين لتقييم المشروع، والتي ضمت خبيرين من مصر ومثلهما من السودان، وأربعة خبراء دوليين من ألمانيا وفرنسا وجنوب أفريقيا.

في عام وصول جماعة الإخوان الإرهابية إلى حكم مصر، سقط المعزول محمد مرسي في أول اختبار بعدما بدأ البناء الفعلي للسد الذي وضع حجر أساسه في 2011، وجد مرسي الذي صرح سابقًا بأن مياه النيل يمكن أن تزيد بالدعاء وصلاة الاستسقاء، وأمام هذه التطورات وبناء الهيكل الأساسي في عصر الإخواني، أوفد "مرسي" رئيس وزرائه "هشام قنديل" إلى أديس أبابا في مارس 2012، إلا أن الزيارة بدت إعلاميًا كمباركة على ما قامت به إثيوبيا، وبدا أن نظام الإخوان سقط في فخ التطمينات القادمة من الرئيس السوداني الإخواني المعزول عمر البشير، ورغم ذلك زاره "مرسي" في يوليو من نفس العام لكنها كانت الزيارة التي اتفق فيها الطرفان على عدم التصعيد مع أديس أبابا وتخفيف لهجة الخارجية المصرية تجاه إثيوبيا، حتى انتقل المشهد برمته إلى مرحلة تدفع ثمنها مصر حتى اليوم متمثلة في اجتماع "مرسي" بعدد من الشخصيات السياسية والحزبية وإذاعة تفاصيل الاجتماع على الهواء مباشرة رغم ما تضمنه من تصريحات كارثية.

30 يونيو.. وسد النهضة

فور نجاح ثورة 30 يونيو 2013 أعلنت نيتها تحريك المياه الراكدة انطلاقًا من الخيار التفاوضي القائم على أسس قوية ثوابت حاكمة وإعلاء مبدأ "الكل رابح"، وفي يونيو 2014 وعقب لقاء مطول بين الرئيس ‬عبدالفتاح السيسي،‮ ‬ورئيس الوزراء الإثيوبي،‮ ‬هايلي مريم ديسالين، صدر إعلان بتشكيل لجنة عليا تحت إشرافهما المباشر، وتضمن الإعلان عددًا من المبادئ، من أهمها احترام مبادئ القانون الدولي‮، و‬الاستئناف الفوري لعمل اللجنة الثلاثية حول سد النهضة، و‬التزام الحكومة الإثيوبية بتجنب أي ضرر محتمل على مصر. ‬‬‬

في أغسطس من نفس العام عُقد الاجتماع الوزاري الرابع انطلاقًا من الدفعة السياسية، واستمرت الجولات خلال 2014-2015، حتى صدور إعلان المبادئ مارس 2015.

كيف أصبح اتفاق المبادئ أحدث الأوراق الرابحة؟

يمكن اعتباره الاتفاق الأحدث في سلسلة الاتفاقات التي تستند إليها مصر في موقفها القانوني للحفاظ على حقوقها في مياه نهر النيل، حيث ألزم إثيوبيا بقصر غرض السد على توليد الطاقة وليس احتجاز المياه، وعدم القيام بأي عمل من شأنه التسبب في ضرر للنيل الأزرق أو النهر الرئيسي، وكذلك إلزامها بمبدأ التعاون في الملء الأول وإدارة السد وليس بالإرادة المنفردة، وإخطار دولتي المصب بأية ظروف غير منظورة، مع وضع إطار زمني لتنفيذ تلك المبادئ بما لا يتجاوز 15 شهرًا.

الاتفاق يُلزم الحكومة الإثيوبية بصفتها، بما وقعت عليه من اتفاقات تتسق مع القواعد العامة وتحميها مبادئ القانون الدولى، كما أنه نجح في سد ثغرات قانونية وفنية سابقة كانت تتذرع بها إثيوبيا.

الاتفاق كذلك، يُلزم إثيوبيا في مادته العاشرة المعنية بتسوية المنازعات، على إحالة الأمر لرؤساء الدول أو الحكومات، أو القبول بوساطة أو طلب توفيق، وعلى هذا الأساس ضمنت مصر ثابتًا ترتكز إليه في تدويل الملف عند الحاجة.

منذ توقيع إثيوبيا على اتفاق المبادئ في مارس 2015، عقدت وزراء الخارجية والري بدول مصر والسودان وإثيوبيا، وكذلك اللجان الفنية عشرات الجولات والاجتماعات في القاهرة وأديس أبابا والخرطوم، لكنها جميعًا اتسمت بالعند الإثيوبي، وإصرار مخالف لاتفاق المبادئ على تنفيذ الدراسات الفنية الإثيوبية الخاصة بالسد، حتى تم الاتفاق في فبراير 2016 على تولي شركتين فرنسيتين متخصصتين لإعداد الدراسات الخاصة بتأثيرات سد النهضة الإثيوبي على مصر والسودان، بالتزامن تواصل اللجان الثلاثية عملها مع استمرار التعنت الإثيوبي، حتى اقترحت مصر 2018 مشاركة البنك الدولي في أعمال اللجنة الثلاثية، فبادرت إثيوبيا بالرفض، فيما بدا الرئيس السوداني المعزول عمر البشير غير متفاعلًا مع المبادرة المصرية.

ورغم الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء الإثيوبي آبيي أحمد إلى مصر يونيو 2018 والاتفاق على تبني "رؤية مشتركة"، إلا أنه واصل السياسة الإثيوبية المتبعة منذ 2011 بالمماطلة والتسويف.

أكتوبر 2019، رحبت مصر وعلى لسان المتحدث الرئاسي بوساطة الولايات المتحدة الأمريكية في الملف ودعوة مصر والسودان وإثيوبيا للاتفاق على قواعد ملء وتشغيل سد النهضة الأثيوبي بما يحقق المصالح المشتركة للدول الثلاث.

لم تمض سوى أيام قليلة حتى صدرت تصريحات عدائية من رئيس الوزراء الإثيوبي تنطوي على تناول لخيارات عسكرية تجاه مصر، وهو يكشف عن تصعيد خطير كان من الممكن أن يُنذر بعواقب وخيمة إذا لم تكن الإدارة المصرية تتمتع بعقلانية وتقدير وحساب لما لديها من قدرات وإمكانات عسكرية هائلة تضعها في مصافِ الدول كواحدة من أقوى 10 دول عسكريًا في العالم.

عقب اجتماع لوزراء الري في مصر والسودان وأثيوبيا بالقاهرة نهاية 2019، قال الرئيس عبد الفتاح السيسي في منشور على حسابه الرسمي على مواقع التواصل الاجتماعي "إنه لم ينتج عن الاجتماع أي تطور إيجابي وأن الدولة المصرية بكل مؤسساتها مُلتزمة بحماية الحقوق المائية المصرية في مياه النيل، ومستمرة في اتخاذ ما يلزم من إجراءات على الصعيد السياسي وفي إطار محددات القانون الدولي لحماية هذه الحقوق وسيظل النيل الخالد يجري بقوة رابطًا الجنوب بالشمال برباط التاريخ والجغرافيا".

بدأت جولات المباحثات بين الدول الثلاث في واشنطن بوساطة أمريكية في 6 نوفمبر 2019، بحضور ممثلي البنك الدولي، وهي المحادثات التي وصفها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأنها سارت بالشكل الجيد على طريق التوصل إلى حل مرض لجميع الأطراف المعنية، كما دعت وزارة الخزانة الأمريكية مجددًا إلى اجتماعات يومي 9 ديسمبر و12 يناير 2020.

في 16 يناير، نقلت الخارجية المصرية تفاصيل الاجتماعات الأمريكية التي تشمل القواعد المنظمة لملء وتشغيل السد، وكذلك الإجراءات الواجب اتباعها للتعامل مع حالات الجفاف والجفاف الممتد، بما يؤمن عدم الإضرار بالمصالح المائية المصرية، واتفاق الوزراء على آلية للتنسيق بين الدول الثلاث لمتابعة تنفيذ الاتفاق، بالإضافة إلى آلية لفض المنازعات.

12 فبراير2020، استضافت واشنطن، جولة جديدة من المفاوضات، وتم التوصل إلى الاتفاق الشامل الذي يحقق مصالح الدول الثلاث ويؤسس لعلاقات جديدة، كما تم الاتفاق على وضع اللمسات الأخيرة التوقيع على الاتفاق في اجتماعات أخرى بواشنطن 27-28 فبراير 2020، لكن تغيبت عنها إثيوبيا.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل