المحتوى الرئيسى

نحن والله والكورونا

04/03 22:16

كلما اجتاح أحد الأوبئة العالم البشرى، يهرع الإنسان إلى الله متوسلا إليه لإنقاذه ونجاته منه، ولقد تكرر هذا الأمر مرات كثيرة على مدى التاريخ البشرى، وقد حاول الإنسان فى كل مرة أن يبحث عن إجابة لنفس السؤال: لماذا اجتاحنا الوباء؟! ولماذا فى هذا العصر بالذات؟ وكيف نخلص منه؟ وأول إجابة اجتهد بها معظم البشر أتباع الأديان فى مصر والدول العربية والعالم الثالث ويروج لها بكل قوة هى: أن الله هو الذى أرسل الوباء، كتأديب للإنسان بسبب فساده وابتعاده عنه، ولما اشتد غضبه على البشر أرسل الوباء لقتلهم، وهنا نجد حركة عودة لله وتوبة وتضرعا من البشر أن يرحمهم ويرفع الغمة، وكثيرون يتوبون، لكن وفى نفس الوقت نجد آخرين يقولون: إن هذا الوباء ليس مصدره الله لكن البشر أنفسهم، فالقذارة والإهمال فى توفير جو صحى بدون أدخنة وبدون تلوث هوائى، أو غذائى، ولعدم وعى البشر بذلك أو استهتارهم به يأتى الوباء.

من هنا يبدأ العلماء فى معاملهم يبحثون عن أصل الداء، وهو ما حدث فى زمن الكوليرا التى قتلت ملايين من البشر حتى تم اكتشاف المصل واللقاح لها وانتهى الأمر، وأيضا حدث مرة أخرى فى وباء إنفلونزا الطيور والخنازير وغير ذلك الكثير، وأنا أرى أن مشكلتنا هى فى تصورنا الإنسانى لله، والذى ينبع من كتب مقدسة أتى بها الأنبياء والرسل، والكتب المقدسة تربط بين الله وكل شىء فى العالم من خلال الصفات التى تذكرها له، ومن أهم هذه الصفات هى القدوس الطاهر أى أن الله كلى القداسة والطهر، وكل الأدبيات الموجودة تقدم لنا إلها مقدسا وعلى الإنسان أن يخشاه ويخاف منه.

من هنا كانت علاقة الإنسان بالله تتسم بمشاعر الرهبة أو الخوف، بل والأنبياء الذين اختبروا رؤيتهم لله بطريقة أو أخرى عبروا عنها بكلمات كلها رهبة ورعدة وإحساس بعدم القدرة على وصف ما رأوا، لذلك يترجم الإنسان هذه الخبرة بمترادفات الخوف مثل الخشية والجزع والرهبة والهيبة وغير ذلك الكثير، لكن هنا نجد أنفسنا فى معضلة أو مشكلة حقيقية فالله الذى نرهبه ونخافه هو أيضا الملاذ الذى نهرع إليه كبشر فرادى وجماعات عندما يجتاحنا بلاء مما يحيط بنا من مظاهر الطبيعة وقسوتها، ولا شك أن الخوف شعور أساسى وعميق فى التجربة الإنسانية خاصة فى علاقتها بالله، لذلك نجد أن العنصر الانفعالى هو الأساس فى الدين وفى قبول الناس له، وكل شخص يحكى عن خبرته الدينية لابد أن يحكى عن عنصر الانفعال كأساس للعلاقة مع الله، وهذه الخبرة هى التى تفسر معنى القداسة، فالقداسة تعنى النقاء الكامل ورفض الشر، وأن يقدس الإنسان نفسه بالكامل لله، من هنا وبسبب هذا ينبت الشعور بالخوف والرهبة وهذا يتفق مع الأساس النفسى للخبرة الدينية، فالجزع يقود بالضرورة إلى طلب الأمان والخلاص، لكن الله الذى نخاف ونجزع ونرتعب منه هو بذاته الذى ننشد له بصفة أخرى لا تقل إن لم تتساو مع الرهبة هى صفة الجمال، فالله جميل وطيب لذلك نحن نهرع إليه فى احتياجاتنا النفسية والروحية والمادية وهو لا يرفض أحدا، إذن الله هو المقدس وهو الجميل أيضا، وإذا كان المقدس يمثل قيمة عليا وحقيقة مطلقة، فإن الجميل يشترك معه فى ذلك، فالجمال هو الحقيقة والحقيقة هى الجمال، فالدين يصف الله بالجمال والكمال فالله هو الجميل والجليل، وقيمة الجمال بالذات ترتبط بفكرة الخلاص، والمعضلة التى تقف أمامنا هنا أن الكثير من المتدينين الذين يدّعون القداسة ومعرفة الكتب المقدسة حرفيا يبدو إيمانهم فجا يفتقر إلى الخيال بتأكيدهم على المعنى الحرفى للنصوص المقدسة وتجاهلهم الفظ للمعانى الروحية والرمزية.

إن اللاهوت أو الفقه القديم الذى يرى شعبا مختارا له كل الامتيازات، ومؤمنين يخصهم الله بعناية خاصة تختلف عن باقى المؤمنين من نفس الدين، يجب أن يذهب ويعثر على لاهوت أو فقه يحترم كل المؤمنين به على قدم المساواة مهما كان الاختلاف فى التفسير للكتب المقدسة، وإن إغفال الفن والجمال الواضح فى الكتب المقدسة لهو أمر وخيم العاقبة، ويؤدى إلى أخطاء أساسية فى التفسير، هكذا علينا أنه بمقدار التركيز على المقدس نركز على الجميل، فالمقدس والجميل حقيقتان تتشابكان وتتداخلان فيأخذ كل منهما شيئا من طبيعة الآخر، وإذا كان تفسير البعض أن المقدس هو الذى رفع يد العناية عن الإنسان، كما ذكر بعض القادة الدينيين تعليلا لوباء الكورونا لأنه رأى الإنسان وقد تجبر، فلنتذكر أن الله المقدس هو أيضا الجميل، وهذا هو إيماننا الذى يحمينا فثقتنا الكاملة تعتمد على قداسة الله وجماله، هكذا نرى عنصرا إيمانيا يعطى نوعا من الأمان يجمع بين المقدس والجميل فى قران لا ينفصم، لذلك حرص المصلحون الدينيون أن يعتمدوا فى إصلاحهم على جمال العبادة من شعر وموسيقى وتسابيح مع لوحات زيتية تشكيلية تشبه التى كانت تزين المعابد الوثنية القديمة، وعرف المصريون القدماء فكرة المقدس والجميل وعرفوا كيف يتعاملون معها من خلال الطقوس وكيف يعبرون عن تجاربهم الروحية بالرموز، ثم انتشرت من مصر إلى الشعوب المجاورة، وبعد ظهور المسيحية انتشرت فى الكنائس والتى أبدع فنانو العصور الوسطى فيها مثل ليوناردو دافنشى ومايكل أنجلو وغيرهم ليعبروا من خلال لوحات الفن التشكيلى عما هو مكتوب فى كتب الوحى المقدس عن محبة الله وعدالته وقصص الأنبياء... إلخ، ثم ظهر الإسلام فأخذ تابعوه الفن التشكيلى وسيلة لتزيين المساجد والتى اختصرت بنوعية خاصة فى الخط العربى والفن الإسلامى، وعندما وقع الإصلاح الدينى فى المسيحية عام 1517م فى أوروبا اعتمد قائده «مارتن لوثر» فى تعبيره عن هذا الإصلاح ليس فقط على الأفكار اللاهوتية كما فعل المصلح «جون كالفن» لكنه اعتمد أيضا على التراتيل الآسرة الجميلة فى كلماتها وموسيقاها للتعبير عن فكرة الإيمان والخلاص والتبرير... إلخ. إن المزامير البروتستانتية المرنمة كانت من العناصر المكملة والمتممة للاهوت وفلسفة الإصلاح الدينى الذى قدمه «كالفن»، كما كان للفن الإسلامى وخاصة الخط العربى دورا مهما فى انتشار الإسلام فى أوروبا.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل