المحتوى الرئيسى

المملكة المتحدة.. بين المطرقة والسندان

04/03 22:16

لا تبكى مصيرك يا بريطانيا.. فالحقيقة هى أن الاتحاد الأوروبى لن يتركك أبدا.. حيث يسعى الأخير للتوصل إلى اتفاق معك قبل نهاية 2020، وهو على استعداد لتمديد هذه الفترة لعامين آخرين حتى لا يتركك وحدك. ففى حين يسعى الاتحاد الأوروبى جاهدا للتوصل إلى اتفاق يحقق مصلحة الطرفين، فإن المملكة المتحدة قررت الخُلع والطلاق بالثلاثة دون محلل. وتقف اليوم المملكة المتحدة بين المطرقة والسندان فى مواجهة العملاقين التجاريين. فدول الاتحاد الأوروبى مجتمعة كأكبر اقتصاد فى العالم تمثل 25٪ من الناتج الإجمالى العالمى و17.0٪ من التجارة الدولية، تليه الولايات المتحدة بـ21.6٪ من الناتج العالمى و13.4٪ من التجارة الدولية. وسيتبع عدم التوصل إلى اتفاق مع الاتحاد الأوروبى تداعيات سلبية بعيدة المدى على الاقتصاد البريطانى، حيث إن ما يقرب من 50٪ من صادرات المملكة المتحدة تذهب إلى الأسواق الأوروبية، مما يجعل التوصل إلى اتفاق تفضيلى مع الاتحاد الأوروبى أمرا لا يمكن الاستغناء أو الحياد عنه.

وعلى صعيد آخر، لا يخفى علينا اهتمام المملكة المتحدة بإبرام اتفاقية تجارة حرة شاملة مع الولايات المتحدة، لما يعنيه ذلك بالنسبة لها من سوق مفتوحة لمنتجاتها وخدماتها لكل من كندا والمكسيك فى إطار اتفاقية التجارة الحرة التى تربط الدول الثلاث. وعلاوة عن ذلك، فإن اندلاع الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين فى صيف 2018 وانتشار فيروس كورونا جعل هذا المعسكر أكثر قوة وجاذبية فى ضوء أن المكسيك أصبحت فى مقدمة دول العالم المرشحة لأن تكون بديلًا محتملا للصين والبديل المرجح لاستيطان جديد للشركات الأمريكية. فقد كان فيروس كورونا بمثابة لحظة كاشفة عن مخاطر الاعتماد على الصين كمركز للتصنيع العالمى واهتمام الشركات الدولية عامة والأمريكية بصفة خاصة بتحويل أنشطتها من الصين إلى دول أخرى. وارتباط المملكة المتحدة بمعسكر الولايات المتحدة يعنى اندماجها فى سلاسل إنتاج جديدة تعويضا عن الاتحاد الأوروبى.

وتعيش الآن المملكة المتحدة مرحلة من عدم اليقين لا يمكن الجزم بمقتضاها بما سيكون عليه شكل علاقاتها مع الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة وتسود عملية شد وجذب بين العملاقين التجاريين للفوز بالمملكة المتحدة بعدما أقحمت الولايات المتحدة نفسها فى المعادلة.

وإن كان أكثر ما يهم المملكة المتحدة الآن هو مغازلتها للولايات المتحدة والرغبة فى عقد قرانها عليها من خلال اتفاقية تجارة حرة. وهو ليس بالأمر اليسير، لما بين الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة من تفاوت حاد وتناقضات فى القوانين والمعايير والقواعد التى لا تتسق وبعضها البعض، الأمر الذى كثيرا ما دفعهما إلى الذهاب إلى المحاكم. فإن النزاعات والقضايا التجارية بين العملاقين متعددة أمام آلية فض المنازعات بمنظمة التجارة العالمية إلى جانب التهديدات المتوالية التى يوجهها كل منهما للآخر. وجاء آخر هذه النزاعات التى بدأتها فرنسا مؤخرا من خلال فرض ضريبة على مكاسب شركات التكنولوجيا العملاقة أمثلة جوجل وأمازون، وتهديد الولايات المتحدة باتخاذ إجراءات رادعة فى المقابل بفرض تعريفة جمركية مرتفعة على الواردات الفرنسية، لا سيما بالنسبة للنبيذ الفرنسى والكحوليات. أضف إلى ذلك الفجوة بين العملاقين فى مجال حماية خصوصية مستخدمى الإنترنت وحماية البيانات الشخصية، وهو ما سيحتم على الشركات المبنية على البيانات الشخصية، مثل جوجل وفيسبوك، إلى تغيير نماذج عملها مستقبلا.

أضف إلى ذلك المشاكل التى ظهرت بين العملاقين بالنسبة لما يُعرف بالغذاء المعدّل وراثيا، حيث يستمر المستهلك الأوروبى فى رفض استيراده وعدم السماح بإنفاذه إلى أسواقه. وفى حين لا تفرق الولايات المتحدة بين نوعية الغذاء المعدّل وراثيا وغير المعدل، وتعتبر ذلك بمثابة سياسات حماية مقنعة وفرض حواجز فنية غير مبررة ودون أى إثبات علمى، فإن هذا الموضوع يعد إحدى أكثر القضايا المثيرة للجدل فيما يتعلق بمعايير الصحة والصحة النباتية. وتباع هذه الأغذية بمطلق الحرية فى محال السوبر ماركت الأمريكية، بينما يكاد لا يتم بيعها فى المتاجر الكبرى فى الاتحاد الأوروبى. ويستند الاتحاد الأوروبى إلى ما يُعرف بمبدأ الحيطة، وعلى السلطات المعنية إثبات أنه لا ضرر من الغذاء المعدّل وراثيا للسماح له بالنفاذ إلى الأسواق، وهو ما يتعارض مع قواعد المنظمة العالمية للتجارة التى تنص على استخدام القواعد الفنية بناء على إثباتات علمية صحيحة وليس بناء على مبدأ الحيطة.

وفى ضوء احتياج المملكة المتحدة إلى الشريكين التجاريين، فإن حنكة رئيس الوزراء البريطانى هنا على المحك. وعليه أن يثبت قدرته على المناورة ما بين الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة حصولا على أفضل صفقة من الشريكين، وهو ما قد يعنى تحميل نفسه وشعبه مخاطر غير محسوبة. فإذا ما رجح كفة الاتحاد الأوروبى وقام بمدْ فترة المفاوضات ضمانا للوصول إلى صفقة متوازنة، فإن ذلك سيعوق حتما إبرام اتفاق تجارة حرة مع الولايات المتحدة، الأمر الذى قد يؤدى إلى انقلاب الرئيس الأمريكى على بوريس جونسون ويفقد الأخير ورقة رابحة يعوّل عليها الكثير لموازنة علاقات المملكة المتحدة والتخفيف من تداعيات خروجها من الاتحاد الأوروبى وما قد ينجم عنه من مثالب. وتواجه المملكة المتحدة خيارًا استراتيجيًا للبقاء فى الاتحاد الجمركى للاتحاد الأوروبى ويستمر جزء منه وتواصل فى تطبيق التعريفة الخارجية المشتركة بينهما. وهذا طبيعى لا يتناسب مع ما ترمى إليه المملكة من تعزيز علاقتها مع الولايات المتحدة والمعسكر الأمريكى.

ويقف الاتحاد الأوروبى بالمرصاد إزاء أى تلاعب من جانب رئيس وزراء المملكة المتحدة ولن يتهاون أمام محاولاته التقرب من الولايات المتحدة على حساب الاتحاد الأوروبى.

ولنتساءل ما وقع هذا كله علينا وعلى غيرنا من الشركاء التجاريين للمملكة المتحدة؟ فمن المعروف أنه فى غير استطاعتنا فى المرحلة الانتقالية تغيير شروط الاتفاقيات مع المملكة المتحدة أو إدراج موضوعات جديدة فى هذه المرحلة. وأن ما تبرمه المملكة المتحدة من اتفاقيات هى بُغية الحفاظ على علاقاتها التفضيلية مع شركائها ضمانا لاستمرارية العلاقات التجارية. وقد ترغب مصر وغيرها من الشركاء التجاريين فى تغيير شروط اتفاقياتهم مع المملكة المتحدة، غير أن ذلك لن يتسنى إلا بعد انقضاء الفترة الانتقالية سواء كان ذلك فى يناير 2021 أو بعدها إذا ما تم تمديدها لمدة عامين آخرين.

ويتعين على مصر التعجيل من توقيع اتفاقها مع المملكة المتحدة والتصديق عليه من قبل البرلمان ضمانا لاستمرارية سلاسة التجارة فيما بين البلدين على ذات الأسس التفضيلية السائدة بين مصر والاتحاد الأوروبى، حيث تمثل المملكة 41٪ من إجمالى تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى مصر. كما تشير الأهمية المتزايدة لتجارة الخدمات إلى ضرورة إدراجنا التجارة فى الخدمات كأولوية، غير أن هذا أيضا لن يتسنى لنا إلاّ بعد الفترة الانتقالية. وإن يمكن لنا خلال هذه الفترة الاتفاق مع المملكة المتحدة على تطوير قطاعاتنا الخدمية والتى قد تمكننا من الدخول إلى الأسواق الإفريقية فى إطار اتفاقية التجارة الحرة القارية الإفريقية.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل