المحتوى الرئيسى

د.عثمان الخشت: تفكيك سلطة الكهنة والمتحدثين باسم الألوهية

01/31 21:55

القسم الثانى من الفصل الأول

٤- الشك المنهجى للخروج من دوامة التضليل لا من أجل فوضى الأفكار

إن التفكير المنهجى الذى يتبعه ديكارت هو من أجل الهروب من دوامة الخداع والتضليل أيًا كان احتمال مصدرها، وهو يشك فى القديم ليبحث عن يقين جديد، ولذا فإن الشك المنهجى ليس شكًا مطلقًا من أجل التشكيك المغرِض، واللاأدرية المعرفية، وفوضى الأفكار، وفوضى الواقع، بل كل ما يطلبه هو الدليل الرصين الحاسم ضد منظومة فكرية راسخة فى بنية تضليلية متكاملة الأركان! ومن هنا فهو ليس شكًا مَرضيًا، ولا شكا فوضويًا، وليس ترددًا بين نقيضين لا ترجيح لأحدهما على الآخر. إنه فحسب خطوة على «طريق» نحو الحقيقة القائمة على الأفكار الواضحة والمتميزة لا على أقوال القدماء ولا سلطة قياس الحاضر على الماضى!

ويجب عدم الخَلْط بين الشك المنهجى والإلحاد، فالإلحاد خاص بإنكار العقيدة الدينية، وموقف الملحد هو موقف المنكر بيقين لا موقف المتشكك الباحث عن البرهان المبين. ومن المعروف أن الشك على أنواع، أشهرها الشك المذهبى أو المطلق، وهو شك عقيم مرفوض قال به المذهب الشَّكِّى Skepticism، ويتخذ أنصاره الشك منهجًا فى التفكير ومذهبًا فلسفيًّا فى الحياة، فهم يؤكدون عدم إمكانية معرفة حقيقة الأشياء كلها، ويؤكدون عجز العقل الإنسانى عن معرفة أى أمْرٍ مهما صَغُر معرفة يقينية، لأن الحواس عاجزة ولا تقدم لنا الحقيقة، بل المظهر فقط، والحواس غير متفقة فيما بينها فى الحكم على الأشياء، وفى أحيان كثيرة تقدم لنا الكبير على أنه صغير مثل الشمس والقمر.

ويختلف الشك المنهجى كخطوة علمية عن الشك المطلق، فالأول مؤقت وهو وسيلة لا غاية، لأنه ربما يعقبه التوصل إلى الحقائق، والثانى دائم وتام ودائرة مغلقة. وقديمًا استخدم سقراط وأرسطو- من أجل الوصول إلى المعرفة- نوعًا قريبًا منه فى دَحْض شبهات السوفسطائيين القائلة بالنسبية المطلقة.

واستخدم الشك المنهجى كبار المفكرين الدينيين، مثل القديس أوغسطين (ت ٤٣٠م) الذى مر بمرحلة شكية قبل أن يصل إلى منظومة دينية جديدة بمقاييس عصره.

ويُعد «أبو حامد الغزالى» نموذج الشك المنهجى فى الحضارة الإسلامية فى كتابه «المنقذ من الضلال»، لأنه حدد معالمه، وعاش تجربته كاملة معايشة واقعية، على نحو مؤقت، ثم وصل إلى اليقين على طريقته. وقد سبقت مرحلةُ «الشك المنهجى» عند الغزالى مرحلةَ «إحياء علوم الدين»، وكأن الشك المنهجى مرحلة ضرورية تسبق الوصول إلى مرحلة التجديد، وكأن عنوان هذا الفصل يطل من جديد فى متنه (الشك المنهجى وتأسيس عصر دينى جديد).

وفى عصر النهضة الأوروبية كان من أبرز دعاة الشك: الفيلسوف الفرنسى «مونتانى» Montaigne (١٥٣٣-١٥٩٢م)، وكان له دور فى زعزعة اللاهوت والكهنوت. وفى القرن السابع عشر، جاء «ديكارت»، والشك عنده منهجى وليس مذهبيًّا، والشك المنهجى الديكارتى على مستوى المنهج كان شاملًا، لكنه على مستوى المذهب استثنى ما يشاء (الدين المسيحى، الأخلاق، النظام السياسى)، وهنا إحدى نقاط ضعف مذهب ديكارت. ومن قبل الفلاسفة جميعًا استخدمه أبو الأنبياء ضد عقائد قومه حتى تظهر معالم عصر دينى جديد.

ويمكن القول إن الشك المنهجى موقف علمى رصين، بينما الشك المطلق موقف متهافت هش يعجز عن تكوين معرفة علمية، ويعكس حالة من التدهور العامة فى التفكير. ويمكن بيان تهافُت حُجَج الشكية الجذرية بكل سهولة، لكن يكفى فى هذا السياق بيان التناقض الجوهرى فى أساس موقفها العام، ومن ثَم فإن إظهار هذا التناقض يهدم كل الحجج الشَّكِّية المبنية عليه، ومن ثَم تنهار الفلسفة الشَّكِّية كلها. ويتمثل هذا التناقض الجوهرى فى أن الشكاك الجذريين «موقنون» من أن الإنسان لا يمكن أن يصل إلى علم يقينى. والتناقض هنا «أنهم موقنون» من سلامة موقفهم الشكى من إنكار المعارف اليقينية، مع أن موقفهم هذا ينطوى على معرفة يقينية بعدم يقينية المعرفة! فهم يعتبرون موقفهم الشكى «يقينيًّا» على الرغم من أنهم ينكرون المعرفة اليقينية! (أزعم هذه حجة جديدة ضد الشكية الجذرية).

وليس معنى هذا النقد فى تصورى أن القرآن يرفض الشك بكل أنواعه ومستوياته، إنه يرفض فقط الشك بصفته مذهبًا شاملًا ومتكاملًا وجذريًّا، لكنه يدعو إلى الشك المنهجى بصفته مرحلة من مراحل التفكير من أجل الوصول إلى الحقيقة. ويتجلَّى هذا بوضوح فى عرض القرآن الكريم لقصة «إبراهيم» عليه السلام.

إذن لا يوجد فى الشك المنهجى أى تثريب على من يفعله فى القرآن الكريم، بل هو موضع تبجيل وتقدير شديدين كخطوة على طريق موصل إلى الحقائق، حتى لا يظل الإنسان مغفلًا أو غافلًا. ولست بحاجة إلى أذهب بعيدًا، فالقرآن واضح جدًا ومباشر فى هذا الأمر، أليس هو كتابا جاء بلِسَان عَرَبِيّ مُبِين؟ ألم يقل الله عنه: «قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ» (المائدة: ١٥)؟

فما هو إذن هذا الموقف المبين الذى أوضحه القرآن الكريم من التفكير المنهجى. ولماذا يعد الشك فى القديم إحدى خطواته الضرورية التى تسبق الخطاب الدينى الجديد؟

٥- طرق الخروج من حالة الشك المنهجى

فى التفكير الدينى المنضبط الذى يلح عليه القرآن الكريم، وأيضًا فى التفكير العلمى الدقيق الذى تقدمه لنا مناهج البحث العلمى، يكون الخروج من حالة الشك المنهجى، بدليل عقلى برهانى أو بدليل استدلالى تجريبى أو سلطان حسى مبين، وليس بقول «ولى» أو «داعية» أو «أمير جماعة».

مرة أخرى نجد أمامنا تجربة أبى الأنبياء إبراهيم فى رفض وصاية البشر وفى عدم الاحتجاج إلا بدليل عقلى برهانى أو بدليل استدلالى تجريبى أو بسلطان مبين من الوحى أو الحس، فعندما أراد كبار القوم والكهنة فرض وصايتهم عليه، شككه عقله فى معتقداتهم المستقرة، ورفض ذهنه رؤيتهم للعالم التى تنسب العلل إلى غير مصدرها، ولم يستطع أن يهضم فكرة الأصنام أو تأليه مظاهر الطبيعة أو تأليه البشر أو الحاكم.

لكنه لم يقف عند هذا الشك على أنه أمر نهائى، مثل أتباع مذهب الشك فى العصر الهيلينستى، وإنما واصل السَّعْى نحو الحقيقة، وبالفِعْل وصل إليها حينما أدرك أن هناك إلهًا واحدًا لا شريك له، منزهًّا عن كل ما لا يليق بجلالـه وعظيم سلطانـه.

فالتفكير المنهجى فى القرآن الكريم فرض عين، والخطأ يظهر زيفه بإعمال العقل والاستناد إلى دليل يقينى من الوحى أو الواقع الخارجى، وليس بسلطة الماضى ولا سلطة الكهنة ولا الظواهر الصوتية التى تنعق ليل نهار.

انظر كيف يتحدث القرآن ولا تزد عليه شيئًا من عندك أو من عند الكهنة:

«وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّى فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ. فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّى فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِى رَبِّى لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّى هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّى بَرِىءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّى فِى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّى شَيْئًا وَسِعَ رَبِّى كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ. وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ. وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» (سورة الأنعام: ٧٤-٨٣).

لاحظ هنا ديالكتيك العقل والاستدلال التجريبى وهداية الوحى، ولا تدخل فى جدال عقيم مثل ذلك الجدال الذى صنعه بعض علماء الدين وبعض فلاسفة العصور الوسطى: مَن قبل مَن: الوحى أم العقل؟ الفرخة أم البيضة؟!

إنه ديالكتيك متفاعل متبادل «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» (العنكبوت: ٦٩)، «قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ» (البقرة: ١٤٤). وفى الحديث القدسى: «مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّى شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّى ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِى يَمْشِى أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» (حديث صحيح رواه البخارى ومسلم وغيرهما مع اختلاف فى اللفظ).

المهم أن إبراهيم عليه السلام شك فى عقائد قومه، وتوصل إلى عقيدة التوحيد الإلهى، ومن معانى التوحيد عدم إشراك أحد مع الله فى علاقتى به، فعلاقتى به مباشرة دون وسيط من بشر أو كهنوت أو غيرهما، وهو وحده الذى يملك الحقيقة المطلقة، وهو وحده الذى يفصل بين عباده. ومن هذه العقيدة التوحيدية الخالصة يخرج تصور كامل للعالم، بعيدًا عن الرؤية السحرية أو الخرافية أو الشركية بكل أنواعها، فليس الشرك فقط هو عبادة غير الله من أصنام أو أوثان أو بشر أو ظواهر طبيعية، بل الشرك أيضًا أن أضع الكهنة وسطاء بينى وبين الله تعالى، أو بينى وبين الحق والحقيقة، فالله هو الحق وكتابه هو الحقيقة.

وتحرير الإيمان من الشرك يستلزم رفض الوسطاء، وهنا يكمن أحد أهم مداخل تكوين خطاب دينى جديد. فلقد رفض إبراهيم سلطة الكهنة والمتحدثين باسم الألوهية، وهنا وجد الحقيقة الإلهية وجهًا لوجه. وبعد أن وصل إلى حقيقة «وجود» الله عن طريق ديالكتيك التفكير المنهجى، والهداية الإلهية، والشك فى عقائد قومه ورؤيتهم للعالم، ونظره فى الوقائع الخارجية التجريبية، بقيت عنده مسألة قدرة هذا الإله سبحانه، يقص القرآن ذلك بوضوح:

«وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِى قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (البقرة: ٢٦٠).

انظر كيف يريد إبراهيم عليه السلام أن يؤسس إيمانه على يقين تجريبى، وانظر إلى أتباع دعاة الضلال والتضليل الآن: كيف يأخذون من زعمائهم أخذ التسليم المطلق دون تمحيص ودون مناقشة، فالمسألة عندهم مسألة ثقة عمياء، ومسألة عصبية فكرية، فالعصبية تحولت معهم من عصبية الدم والقبيلة إلى عصبية الأيديولوجية والجماعة!

٦- من إحكام قيادة العقل إلى إحكام رؤية العالم

لا تكمن عظمة دعوة إبراهيم فقط فى «العقائد» التى آمنت بها ودعت إليها، وإنما أيضًا فى «طريقة البحث» عن الحقيقة، وبدون «منهج» إحكام قيادة العقل الذى اتبعه عليه السلام لم يكن ممكنا الوصول إلى تلك «الرؤية للعالم».

من أكثر الأمور الجاذبة لى فى إبراهيم عليه السلام أنه صاحب عقل منضبط، لا يؤمن إلا بدليل من الوقائع الخارجية التجريبية، مثل حالة: «... خُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا» (البقرة: ٢٦٠)، أو بدليل من الاستدلال العقلى المسنود بالتدبر فى الظواهر الكونية: «وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» (الأنعام: ٧٥)، أو بحجة عقلية خالصة: «قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ. أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ» (الأنبياء: ٦٦-٦٧).

أضف إلى ذلك قدرته على إبطال مغالطات أصحاب العقول العنكبوتية (ومثلهم كثير فى عصرنا)، من أقصر طريق وفى كلمات قليلة. وهذا نجده، علاوة على ما سبق من حججه ضد قومه، فى ذلك النقاش الذى دار بينه وبين ذلك الملك الواهم:

«ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِى رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّىَ الَّذِى يُحْيِى وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِى وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (البقرة: ٢٥٨).

انظر مرة أخرى إلى الفرق بين طرق الحجاج التى يوظفها إبراهيم ضد المغالطين، وطرق الحجاج التى ينتهجها المتحدثون زورًا باسم الحقيقة الإلهية فى عصرنا، انظر كيف يُعمل إبراهيم أدوات ومناهج الاستدلال العقلى والتجريبى، وكيف يُعمل الواهمون فى عصرنا أدوات ومناهج النقل غير الدقيق والحفظ والتسليم المطلق بأقوال السادة قادة «الحقيقة المطلقة»!

لقد رفض إبراهيم النقل والتقليد وهو فى ريعان الشباب، وحاج قومه حجاجًا عقليًا خالصًا، بينما ردوا عليه بحجاج نقلى موروث، إبراهيم يستند إلى البرهان العقلى وهم يستندون إلى البرهان النقلى، انظر قصته مرة أخرى من «كادر» مختلف يلتقطه القصص القرآنى: «إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِى أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ. قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ. قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِى ضَلَالٍ مُبِينٍ. قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ. قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِى فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ. فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ. قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ. قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ. قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ. قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ. قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ. فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ. ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ. قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ. أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ» (الأنبياء: ٥٢-٦٧).

وهكذا فإن «منهج» أبى الأنبياء منهج منضبط. ومن أسف فإن الكثيرين يخلطون بين المنهج والمذهب، أو بين المنهج والعقيدة، ويقع فى هذا عدد غير قليل من العلماء والمفكرين أنفسهم! ولذا لا بد أن نحدد المعنى الذى نقصده بالمنهج Method. المنهج عبارة عن «مجموعة من القواعد والفرضيات والإجراءات والأمثلة لتحديد مدى وحدود الموضوع وإنشاء طرق مقبولة للعمل ضمن هذه الحدود للوصول إلى الحقيقةtruth»، أو بعبارة أبسط: «المنهج هو الطريقة التى نسير عليها وفق قواعد ومعايير للانتقال من المجهول إلى المعلوم ومن الشك إلى المعرفة». يقول ديكارت: «ما أقصده بكلمة (المنهج) هو تلك القواعد التى يُعَوَّل عليها ويسهل تطبيقها، وأنه فى حال إتباع هذه القواعد بواسطة الفرد على نحو صحيح، فإن الفرد لن يقبل ما هو زائف على أنه صحيح، ولن يبدد جهوده الذهنية، بل سينجح فى زيادة معارفه تدريجيًا وباستمرار حتى يصل إلى فهم صحيح لكل شىء فى نطاق قدرته».

فالمنهج ببساطة هو الوسيلة، هو الطريقة، هو الخطوات التى يجب أن يتبعها التفكير، هو القواعد التى يجب اتباعها للوصول إلى نتيجة صحيحة. إنه أسلوب الاستدلال، هو السنارة وليس السمكة، بل هو أكثر من السنارة، هو الفن أو الطريقة التى تستخدم بها السنارة. ليس هو الطعام الجاهز الذى تأكله، ولا المواد التى صنع منها الطعام، ولكنه «طريقة» الصنع نفسها. ليس هو السيارة، ولكنه فن القيادة. معك سيارة رائعة ومع صديقك سيارة رائعة أيضًا، أنت تقود بفن وقواعد وخريطة سليمة للطريق فى ذهنك فتصل إلى هدفك، وصديقك يقود برعونة أو بخريطة أو قواعد خاطئة فيضل الطريق!

والخلاصة إذا أردنا أن نوصّف «منهج» أبى الأنبياء نجده قائمًا على شك منهجى فى البداية، ثم استدلال عقلى محكم مستند إلى ظواهر كونية تارة، ومستند إلى دليل من (وقائع تجريبية) تارة أخرى، ومستند إلى حجة عقلية برهانية تارة ثالثة، وفى كل مرة الوحى حاضر مثل الضوء الذى ينير الطريق أمام العقل والحواس والبصيرة.

لكل هذا لن ندخل عصرًا دينيًا جديدًا بدون إصلاح مناهج التفكير لإحكام قيادة العقل نحو الصواب.

٧- الحقيقة وحدها لا تكفى

إن مشكلة اضطراب «الإدراك العام» عند جماعات التطرف غير منفصلة عن مشكلة الإدراك الدينى، وغير منفصلة أيضًا عن مشكلة الإدراك السياسى، كلها محكومة بعقل «منفصل» عن الواقع! وفى أحيان كثيرة تحمل عقلًا منفصلًا عن التاريخ وتجاربه، ولا تتدبره حتى فى «الوحى الإلهى العظيم» الذين يزعمون اتباعه!

وإذا أردنا تجديدًا دينيًا يحل «مشكلة الإدراك العام» ويرفع «العدسات المضللة» التى يرى العقل من خلالها، لا بد من تغيير «ماكينة التفكير» أولًا! لا بد من تعليم الناس ليس المعلومات الصحيحة فقط، ولكن أيضًا تعليمهم طريقة التفكير السليمة، وتدريس مناهج التفكير.

ومن الضرورة بمكان إعادة بناء المواد العلمية المختلفة: الرياضة، الفيزياء، الكيمياء، الأحياء... إلخ، على أساس: «كيف تم التوصل إلى الحقائق والنظريات؟»، وعلى أساس الشك العلمى المنهجى، وليس على أساس تلقين الطلاب الحقائق «جاهزة ومعلبة»! والأمر فى تعليم العلم الرياضى والطبيعى هو نفسه الأمر فى تعليم الدين والعلوم الشرعية، فالقرآن الكريم لم يعطنا الحقائق جاهزة، بل عللها، وحثنا على تعقلها وفق قواعد التفكير المنضبط، بل حثنا على اكتشافها بأنفسنا سواء فى النفس أو فى الأرض أو فى الآفاق.

ومن نماذج الإيمان الدالة على هذا المعنى التى قدمها القرآن الكريم نموذج إبراهيم خليل الرحمن، فما من حقيقة كبرى فى دعوته إلا ومعها «طرق التوصل إليها»!

فالحقيقة وحدها لا تكفى، بل لا بد من معرفة المنهج الذى أوصل إليها. والعلم ليس هو سوى المعلومات عند أهل الحفظ، أما أهل العلم فالعلم عندهم ليس المعلومات فقط، وإنما العلم هو المنهج، هو الطريقة، فالمنهج هو ما يصنع العلم وهو ما يصنع العلماء، وهذا هو ما نحتاجه ليس فقط لتأسيس عصر دينى جديد، بل كذلك لتأسيس عصر علمى جديد. ولذا تُدرس مناهج التفكير الدقيق فى كل مراحل التعليم فى مقررات الدول المتقدمة، سواء كجزء من كل علم، أو كمقرر منفصل.

ومع أن ديكارت صار قديمًا تجاوزته المناهج المعاصرة، لكن قواعد منهجه لا تزال عاملة كقواعد عامة ضمنية، فلا يزال التحليل خطوة لا يمكن للعلم أن يقفز عليها، وقل مثل ذلك فى إعادة التركيب والمراجعة والإحصاء، وقبل ذلك كله ألا يقبل العقل إلا ما كان واضحًا ومتميزًا. وأيضًا على الرغم من أن دعوة إبراهيم موغلة فى القدم، لكن الإسلام تضمنها وترجمها ترجمة صحيحة فى العقول، فظهرت معه كدعوة للتوحيد والتفكير والانضباط العقلى وإلوهية تسع العالمين. أما الجناح الآخر من نسل إبراهيم فقد ترجمها ترجمة خاطئة فتحولت معه إلى ديانة قبيلة بنى إسرائيل، وعقيدة شعب الله المختار، وفى العصور الحديثة تحولت إلى صهيونية بغيضة.

إن المنهج عند ديكارت، ليس تجريبيًا، لكن ميزته أنه يرفض التسليم- على الأقل فى حدود المنهج وليس المذهب- بأقوال السابقين غير المبرهنة، مثله فى ذلك مثل إبراهيم، ولا يقبل إلا ما كان واضحًا ومتميزًا، مثله فى ذلك أيضًا مثل إبراهيم، ويقوم بتحليل الفكرة أو الأفكار، ويسير من البسيط إلى المركب، ثم يراجع كل ما قام به من خطوات سابقة حتى يتأكد أنه لم يخطئ وأنه لم يغفل شيئًا. ففى كتابه «مقال عن المنهج لإحكام قيادة العقل وللبحث عن الحقيقة فى العلوم» يضع أربع قواعد يجب مراعاتها فى كل منهج يبحث عن الحقيقة، وتكفى هذه القواعد، إذا ما تم اتباعها بدقة، للوصول إلى اليقين. وتُعرف هذه القواعد على التوالى باسم: البداهة، التحليل، التركيب، الإحصاء والمراجعة. ويحدد ديكارت مضمون هذه القواعد الأربع بقوله:

الأولى: ألا أقبل شيئًا ما على أنه حق، ما لم أعرف يقينًا أنه كذلك، بمعنى أن أتجنب بعناية التهور، والسبق إلى الحكم قبل النظر، وألا أُدخل فى أحكامى إلا ما يتمثل أمام عقلى فى جلاء وتميز، بحيث لا يكون لدىّ أى مجال لوضعه موضع الشك.

الثانية: أن أُقسّم كل موضوع من الموضوعات التى سأختبرها، إلى أجزاء على قدر المستطاع، على قدر ما تدعو الحاجة إلى حلها على خير الوجوه.

الثالثة: أن أُسيّر أفكارى بنظام، بادئًا بأبسط الأمور وأسهلها معرفة، كى أتدرج قليلًا حتى أصل إلى معرفة أكثرها تركيبًا، بل وأن أفرض ترتيبًا بين الأمور التى لا يسبق بعضها الآخر بالطبع.

أخيرًا: أن أعمل فى كل الأحوال من الإحصاءات الكاملة والمراجعات الشاملة ما يجعلنى على ثقة من أنى لم أغفل شيئًا.

إن هذا المنهج أو القواعد العقلية لليقين يمكن تعريفها كأساس للتطور والحداثة وإنتاج معرفة علمية أدت إلى زعزعة عرش المعرفة اللاهوتية والكهنوت والأسرار التى يحتكرها سدنة الفكر الدينى المزيف.

نرشح لك

أهم أخبار صحافة

Comments

عاجل