المحتوى الرئيسى

إيران وتداعيات اغتيال قاسم سليمانى

01/23 23:30

كان اغتيال الجنرال قاسم سليمانى قائد فيلق القدس التابع للحرس الثورى الإيرانى، بعملية مخابراتية جوية أمريكية، صدمة كبيرة على جميع المستويات الرسمية والشعبية بصفة عامة، والمرشد الأعلى آية الله/ على خامنئى، بصفة خاصة، والذى لم يستطع حبس دموعه من شدة الصدمة وهو فى وداع سليمانى فى جنازته، فقد كان ذراعه اليُمنَى، بل كان ينظر إليه على أنه الرجل الثانى فعليا فى إيران بعد المرشد الأعلى خامنئى متخطيا كل الاعتبارات المراسمية والسياسية، وكان مهندس ومنفذ الانتشار الإيرانى فى عدة دول عربية ابتداء من العراق، إلى سوريا، ولبنان، واليمن.

ومن دواعى صدمة الإيرانيين أن قواعد الاشتباك التى كانت سائدة فى الصراع الأمريكى ــ الإيرانى لا تتجاوز ضرب طائرة أو باخرة أو أحد المواقع العسكرية، وفرض عقوبات اقتصادية، وإدراج على القوائم السوداء لقيادات إيرانية، أما عمليات الاغتيالات فلم تتجاوز بعض العملاء سواء السريين أو المزدوجين، وكان اغتيال القيادات الإيرانية على أيدى المخابرات الأمريكية احتمالا مستبعدا دائما لإبقاء الصراع فى دائرة معينة لا تتجاوز الفعل ورد الفعل وعلى نفس المستوى.

ولكن حدة التصعيد بين طهران وواشنطن قد وصلت إلى درجة عالية وغير مسبوقة خلال عام 2019 بفرض مزيد من العقوبات الاقتصادية على إيران وخاصة ما يتصل منها بالبترول الإيرانى والغاز والنظام المصرفى، كما صعدت إيران من تحديها للوجود الأمريكى فى منطقة الخليج، خاصة فى العراق وشن هجمات على بعض المناطق العسكرية الأمريكية سواء عن طريق الحشد الشعبى العراقى، أو جماعات وأجهزة أخرى، وقامت القوات الأمريكية بعملية جوية قتلت فيها 27 عنصرا من الحشد الشعبى العراقى ردا على مقتل أحد المتعاونين مع الولايات المتحدة فى هجوم على منطقة عسكرية أمريكية، ومن هنا ازدادت حدة التصعيد وإثارة العداء لدى المتظاهرين العراقيين ضد الوجود الأمريكى فى العراق، والرد عليه بإثارة العداء ضد الوجود الإيرانى فى العراق.

وقد كان لحصار المتظاهرين العراقيين للسفارة الأمريكية فى بغداد، وأغلبيتهم من الحشد الشعبى العراقى المتعاون مع الحرس الثورى الإيرانى وقاسم سليمانى، دور كبير فى قيام المخابرات الأمريكية باغتيال قاسم سليمانى، حيث رأت الإدارة الأمريكية أنه تخطى كل الحدود بالنسبة لها ولهيبة الولايات المتحدة الأمريكية بحصار سفارتها فى بغداد وإحداث أضرار مادية بالغة بها. كما أن هذا الحصار قد أعاد إلى الأذهان كابوس حصار السفارة الأمريكية فى طهران فى أعقاب الثورة الإسلامية الإيرانية، واحتجاز 52 دبلوماسيا أمريكيا داخل السفارة لنحو عام ونصف العام، وإخفاق العملية العسكرية الأمريكية لفك الحصار وهو ما أدى إلى عدم إعادة انتخاب الرئيس الأمريكى جيمى كارتر، وأن الرئيس ترامب وهو فى عام انتخابات حاسمة وما يواجهه من اتهامات لتقديمه للمحاكمة أمام الكونجرس لن يسمح بمجرد احتمال تكرار ما حدث مع الرئيس كارتر وأعضاء السفارة الأمريكية فى طهران، ومن ثم قام بالاتصال بالرئيس العراقى ورئيس الوزراء عادل عبدالمهدى طالبا بحزم إنهاء حصار السفارة الأمريكية، وهو ما حدث فعلا خلال 24 ساعة، كما أمر بإرسال 750 جنديا وضابطا أمريكيا إلى بغداد لتوفير الحماية اللازمة للسفارة والتصدى بكل حزم لمن يعتدى عليها أو على القوات الأمريكية. كما قرر ترامب إعطاء درس قاسٍ لإيران بالأمر باغتيال الجنرال قاسم سليمانى.

ويبدو أن ما حققه الجنرال سليمانى من نجاح وانتشار إيرانى فى عدة دول، قد أصابه بثقة مفرطة قد تصل إلى درجة الغرور، فمن المفترض فى حالات اشتداد العدائيات بين الخصوم، أن يتخذ قادة كل منها الحذر، ومن ثم كان من المنتظر أن يعمل سليمانى بهذه القاعدة الذهبية، ولكنه على العكس من ذلك سافر من مطار دمشق إلى مطار بغداد بصورة يصعب إخفاؤها ومن هنا كان من السهل جدا اصطياده لدى وصوله بغداد وتدمير وحرق سيارته بطائرتين مسيرتين أمريكيتين ومعه نائب رئيس الحشد الشعبى العراقى وخمسة آخرون.

وجاء رد إيران على اغتيال سليمانى بإطلاق عدة صواريخ على قاعدة عين الأسد الأمريكية قرب بغداد، والقاعدة الأمريكية فى أربيل، متوافقا مع مطلب الرئيس ترامب بألا يكون مبالغا فيه حتى لا يدخل البلدان فى دائرة من الفعل ورد الفعل مما يؤدى إلى تصعيد لا تؤمن عواقبه. ومن هنا قامت إيران بإبلاغ الحكومة العراقية بعملية إطلاق الصواريخ على القاعدتين الأمريكيتين قبلها بساعات والتى قامت بدورها بإبلاغ الحكومة الأمريكية لاتخاذ الاحتياطيات الكفيلة بعدم وقوع خسائر بشرية بين جنودها. وكانت الخسائر الأمريكية مادية إلى جانب إصابة نحو ١١ شخصا حسب المصادر الأمريكية ووصول رسالة بأن إيران قادرة على ضرب القواعد العسكرية الأمريكية ولن تحول أجهزة الرقابة ولا مضادات الصواريخ دون ذلك. وقد أعلن وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف أنه قد تم الرد على اغتيال سليمانى وانتهى الأمر. وهو ما يعنى الاكتفاء بهذه العملية ولو مؤقتا. 

وقد أدت حالة الارتباك الإيرانية فى تناول حادث إسقاط طائرة الركاب الأوكرانية بعد إقلاعها بدقائق من مطار طهران والذى تزامن مع ضرب القاعدتين الأمريكيتين إلى نتائج وتداعيات سلبية للغاية على المستويين الداخلى فى إيران والخارجى ــ فبعد إعلان المسئولين الإيرانيين أن الطائرة سقطت لأسباب فنية أو بشرية، عاد رئيس الجمهورية حسن روحانى وأقر بأن الطائرة أسقطت بالخطأ بصواريخ إيرانية وأنه ستجرى محاسبة من ارتكب هذا الخطأ وقدم الاعتذار والعزاء لأهالى الضحايا من الإيرانيين والأوكرانيين والجنسيات الأخرى. ولكن الإعلام الخارجى بل وشرائح عريضة من المتظاهرين الإيرانيين ركزوا على حادث الطائرة المأساوى بما غطى على عملية الهجوم بالصواريخ على القاعدتين الأمريكيتين فى العراق. بل أكثر من ذلك بدأت مظاهرات عراقية وكبار المسئولين العراقيين يطالبون بانسحاب القوات الأمريكية وغيرها من العراق خاصة إيران لأنهم حولوا أرض العراق إلى مكان للصراع بينهما. وتصاعد اتهام إسقاط طائرة الركاب الأوكرانية من أنه قد يكون جرى بالخطأ إلى اتهام بأنه يشتبه أن يكون إسقاطها كان متعمدا. واتخذت عدة شركات طيران أوروبية قرارات بعدم التحليق فى الأجواء الإيرانية إلى أن يتوفر لها الأمان وهو ما يمثل مقاطعة مؤقتة مستترة وراء حادث الطائرة الأوكرانية.

كما بدأت بوادر واضحة لاقتراب موقف كل من ألمانيا وبريطانيا وفرنسا من الموقف الأمريكى بمطالبة إيران بالتفاوض من أجل التوصل إلى اتفاق جديد بديل للاتفاق النووى الموقع 2015 بحيث يتضمن الاتفاق الجديد برنامج إيران النووى، وبرنامج الصواريخ الباليستية، وانتشار إيران فى المنطقة. وقد ردت إيران على ذلك بأن الدول الأوروبية تجارى الولايات المتحدة بدلا من اتخاذ موقف منها لخروجها غير المبرر من الاتفاق النووى، وفرض عقوبات أحادية على إيران.

والحقيقة أن الدول الأوروبية تجد أن إيران أصبحت محاصرة ليس فقط من جانب الولايات المتحدة، وإنما أيضا من معظم دول الخليج العربية وأن تيارا عريضا من الرأى العام العربى أصبح يرى فى إيران قوة تسعى إلى التدخل والسيطرة وليس على أساس المشاركة والتعاون وخير مثل على ذلك الموقف الشعبى فى العراق الذى انقسم بصورة حادة بين مطالبين بخروج إيران والراغبين فى استمرار التعاون معها.

وعلى المستوى الداخلى فى إيران فلا شك أن اختفاء سليمانى من المشهد يقوى موقف التيار الإصلاحى والمطالب الشعبية التى انقسمت فى المظاهرات عقب الاغتيال سواء بمهاجمة النظام والمرشد الأعلى نفسه، أو المطالبة بالاهتمام بالشئون الداخلية الإيرانية بدلا من الإسراف فى الإنفاق على الانتشار الخارجى. وهذا التفاوت الداخلى يتزامن مع تغيرات إقليمية ودولية لديها توافق على العمل على الحد من دور إيران فى سوريا والعراق ولبنان واليمن وكلما أمكن إخراجها من بعض هذه الدول. 

وقد اختلفت آراء المراقبين بشأن آثار اختفاء سليمانى من المشهد على سياسة إيران بشأن الانتشار فى المنطقة ودعم أنصارها فى عدة دول، فثمة من يخشى من زيادة التطرف وحدة ردود الفعل المتوقعة انتقاما لاغتيال سليمانى، وأن الجماعات الموالية لإيران هى التى ستقوم بهذه العمليات سواء ضد المصالح الأمريكية أو حلفائها بينما يرى آخرون أن ضربة اغتيال قاسم سليمانى، وطبيعة رد الفعل الرسمى الإيرانى، تشيران إلى أن إيران أصبحت فى موقف سيكون أكثر مرونة فى الاستجابة للضغوط الأمريكية والأوروبية للتفاوض على تعديل الاتفاق النووى أو صياغة اتفاق جديد.

ولكن سيبقى أى تغيير محتمل فى السياسات الإيرانية مرتبطا باتجاه المرشد الأعلى/ على خامنئى والذى قد يستمر فى سياساته الحالية خشية أن يظهر النظام بالضعف وعدم القدرة على المبادرة، ولكن ذلك كله مرتبط بالدرجة الأولى بالأوضاع الداخلية فى إيران والتى تزداد سوءا وترتفع درجة الغليان خاصة بين الشباب لسوء الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وتفاقم البطالة.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل