المحتوى الرئيسى

مصطفى عبيد يكتب: معركة الإسماعيلية ذروة الكفاح المسلح ضد الاحتلال

01/23 01:01

التاريخ أيد موقف فؤاد سراج الدين فى مقاومة غطرسة الإنجليز

50 شهيداً مصرياً يحفرون أسماءهم فى لوحة الخلود

وهذا يوم من أيام المصريين، يوم كرامة حقيقية، رسم فيه شهداء أبطال معانى الفداء والبطولة، وجدد فيه مصريون نبلاء معانى الوطنية.

فى 25 يناير سنة 1952 جهر رجال الأمن المسئولون عن محاربة الجريمة بعدائهم للمحتل، وأثبتوا أنهم غير خاضعين للسلطة المستعمرة، بل هم خصومها إلى جوار الشعب.

لم تكن الشرطة المصرية التى عانت عقودا طويلة خلال سنوات الاحتلال البريطانى بمعزل عن الناس، وعن روح مصر المثابرة، بل كانوا فى أوقات عديدة حراباً موجهة إلى المُحتل نفسه الذى ظن أنه سيطر عليها وحيدها.

وليس دليلا على ذلك من يوم الشرطة المصرية الذى وقفت فيه موقف البطولة تجاه المستعمر تحت قيادة وزير داخلية وطنى هو فؤاد سراج الدين. فى هذا اليوم خاض رجال الشرطة معركة كرامة ضارية واشتبكوا بشكل مباشر مع الجيش البريطانى فى الإسماعيلية رافضين بإباء تسليم المدينة.

تقول الحكاية إن الوفد جاء إلى الحكم بعد انتخابات برلمانية فاز فيها بأغلبية كاسحة سنة 1950 بعد أن شاع تصور غير حقيقى بتراجع شعبية الوفد، وتولى فؤاد سراج الدين وزارة الداخلية فى أوقات عصيبة أعلن فيها الكفاح المسلح وقررت حكومة الوفد برئاسة مصطفى النحاس إلغاء معاهدة الصداقة مع بريطانيا بعد مماطلات طويلة للتهرب من منح البلاد استقلالها.

ويمكن القول إن فؤاد سراج الدين وقتها كان واعيا بحتمية التحول للكفاح المسلح ضد الإنجليز وهو ما كشفته محاكمته من قبل محكمة الثورة سنة 1953 حيث كان يستغل منصبه لتزويد الفدائيين المصريين بالأسلحة لمقاومة الاحتلال فى مدن القناة.

إن وزارة الداخلية فى عهد الرجل قد تحولت من وزارة مسئولة فقط عن الأمن بشقيه الاجتماعى والسياسى، إلى وزارة حرب ضد الاحتلال. وفيما قبل كانت الشرطة دائما مُسخرة لحماية المسئولين والساسة، وفى بعض الأحيان كانت أداة بطش ضد الخصوم والمعارضين. ولا شك أن منشورات ثورة 1919 المجهولة التى نشرها مؤخرا الدكتور رفعت السعيد تكشف أسماء ضباط الشرطة الذين وقفوا مع الاحتلال ضد الثورة، وعلى رأسهم الضابط سليم زكى، الذى أشاد به الضباط الإنجليز فيما بعد فى مذكراتهم.

كانت رؤية فؤاد سراج الدين واضحة فى هذا الشأن، فوزارة الداخلية اسمها وزارة داخلية مصر، وتعبر عن مصالح وأمن المصريين، وتعمل من أجلهم. وهكذا بدأ الرجل منذ تولى مسئولية الداخلية دعمه المباشر لحركة الفدائيين فى قناة السويس، فسهّل باعتباره وزيرا للداخلية مهمة نقل السلاح إليهم، وهو ما شهد به وجيه أباظة فيما بعد فى محاكمة فؤاد سراج الدين بعد يوليو 1952.

لكن لماذا كان ذلك الدعم وتلك التسهيلات؟ ببساطة لأن الرجل مصرى ووطنى، ولو كان الوفد باعتباره حزبا سياسيا حريصا على إرضاء القصر والإنجليز، لما قدم كُل إمكاناته لدعم حركة الفدائيين. ويمكن القول إن الشرارة الأولى للحركة انطلقت بعد قرار مصطفى باشا النحاس التاريخى بإلغاء معاهدة عام 1936 والتى سحبت بريطانيا بمقتضاها قواتها إلى منطقة القناة فقط، وعندما أطلق النحاس باشا عبارته الأشهر «باسم مصر وقعت معاهدة 1936، وباسم مصر اليوم أطالبكم بإلغائها» انطلقت الجماهير فى شلالات تأييد مذهلة وتوحدت جهود الشعب والحكومة لبدء الكفاح المسلح ضد الإنجليز.

وقررت الحكومة دعم حركة الفدائيين من خلال مراكز تدريب حقيقية للشباب فى مدن القناة وانسحب أكثر من 90 ألف عامل مصرى من خدمة تلك المعسكرات، وأصبح الاحتلال البريطانى يعانى

ولا شك طبقا لشهادة اللواء مصطفى رفعت وكان وقتها يوزباشى تلقى تعليمه فى إنجلترا فى مدرسة البوليس، لكنه عاد إلى مصر ليعمل فى بلوكات النظام بالإسماعيلية، فإن رجال الشرطة جميعا كانوا محملين بحماس حقيقى للمشاركة فى المقاومة الوطنية ضد الاحتلال فى ذلك الوقت، وأن كثيراً منهم كانوا يطلبون نقلهم للعمل فى مدن القناة للمشاركة فى استهداف الإنجليز.

وهكذا لم يكن غريبا أن تكشف الوثائق البريطانية قيام قوات الاحتلال التى كانت تتركز فى منطقة قناة السويس بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية برصد مشاركة ضباط شرطة فى الخدمة فى إمداد الفدائيين بالسلاح، وهو ما دفعهم إلى إصدار قرار بتفريغ منطقة القناة من جميع أفراد الشرطة المصرية ومصادرة أسلحتهم.

وذلك ما دفع بريطانيا إلى إعلان سحب أسلحة الشرطة المصرية فى مدن القناة، وبدأوا بالإسماعيلية وقام الجنرال «اكسهام» قائد الجيوش البريطانية فى يوم 25 يناير سنة 1952 بإرسال خطاب رسمى إلى محافظ الإسماعيلية يطالبه فيه بتسليم الشرطة لكامل أسلحتها (وفى ذلك الوقت كانت المحافظات تابعة لإدارة الداخلية) فما كان من اللواء أحمد رائف قائد بلوكات النظام، وعلى حلمى وكيل المحافظة ومصطفى رفعت ضابط الاتصال المصرى أن اجتمعوا معا وقرروا رفض القرار.

ووصل الأمر إلى فؤاد سراج الدين فى القاهرة، وقام بالاتصال بالإسماعيلية وتحدث مع مصطفى رفعت ضابط الاتصال وسأله عن الموقف، ثُم سأله عن رأيه الشخصى وآراء زملائه، فكانت الإجابة بأن الشرطة المصرية لا تتلقى أوامر من أى جهات غير مصرية، وأن الإنذار جرح للكرامة الوطنية. وأكد أنهم يرفضون القرار لأنه صادر من جهة معتدية ومحتلة، ووافقه سراج الدين وحيا شجاعته وطلب منه القتال حتى النهاية.

ذلك الموقف تحديدا كان محل اتهام لاحق لسراج الدين من قبل ضباط يوليو حتى أن أنور السادات نفسه ذكر فى كتاب «من أوراق السادات» للكاتب أنيس منصور أن سراج الدين دفع بالشرطة المصرية إلى عملية انتحار. وقال بالنص إن «للوفد أخطاء كثيرة ليس أقلها أن يصدر وزير الداخلية فؤاد سراج الدين أمراً إلى البوليس أن يقفوا فى وجه الإنجليز وكانت نكتة مبكية أن يستخدم هؤلاء بنادق الرش فى مواجهة مدافع الإنجليز».

 لكن المناقشة الهادئة للأمر تؤكد أن ما فعله سراج الدين كان متسقا مع روح المصريين الحماسية التى قطعت كافة طرق الاتصال السلمى مع حكومة الاحتلال واعتبرت الكفاح المسلح أمرا حتميا. كما أن الرجل لم يُلزم قوات الشرطة بالانتحار أو الدخول فى معركة غير متكافئة وإنما سألهم فى البداية عن مواقفهم، وتلقى الإجابة التى كان يتوقعها وينتظرها فأقرها وشجعها باعتباره وزيرا مسئولا عن الشرطة المصرية.

ولم يكن ممكنا بشكل عملى اتخاذ أى قرار آخر فطبقا لشهادة مصطفى رفعت نفسه، فإن محاربة الإنجليز وقتها كانت شرفا يسعى إليه كافة المصريين، وأن الناس جميعا، شرطة ومواطنين اصطفوا فى ذلك اليوم لقتال الإنجليز. وهكذا لم يكن هناك

وإذا كان السادات يرى ذلك تهورا فإن الاستسلام التام وقتها لا يمكن تسميته إلا بالخيانة، ومتى كانت الحكومة تمثل الشعب تمثيلا حقيقيا، فإنها تسبق طموحاته وأحلامه وترى أن مهمتها هى ترجمتها واقعيا، وهذا ما فعلته حكومة الوفد، وهذا ما أقره سراج الدين، وهو بالمناسبة ما ذهب إليه كثير من محللى التاريخ الأكفاء مثل عبدالعظيم رمضان، وصلاح عيسى.

دارت المعركة ساعات وساعات، واستبسل المصريون شرطة ومواطنين فى حماية مدينتهم ورغم الفارق الكبير فى العتاد والسلاح، فقد بقوا صامدين يواجهون الموت بصدور مفتوحة، ويقاتلون فى شجاعة وإباء ملحقين بعدوهم خسائر لم يتوقعها.

 وطبقا لشهادات موثقة كان عدد جنود الشرطة المصرية يقترب من الألف، وحشد الجنرال «اكسهام» نحو سبعة آلاف جندى بريطانى ليحاصروا مبنى المحافظة ويطلقوا نيرانهم العنيفة تجاهها، ودفعه حنقه وغطرسته إلى إطلاق النيران صباح الجمعة الخامس والعشرين من يناير بكثافة من كافة الجهات، ودافعت الشرطة المصرية بحما، وقاتل الضباط والجنود بفدائية وروعة، واستمرت المعركة ستة ساعات كاملة، وسقط 50 شهيدا وعشرات الجرحى، وتم هدم جدران المبنى. وصرخ الجنرال «اكسهام» فى مكبرات الصوت داعيا رجال الشرطة لتسليم أنفسهم، لكنهم رفضوا واستمروا يقاومون حتى آخر طلقة رصاص.

وسقط 13 بريطانياً قتيًلا، فضلا عن جرح 15 آخر، وأبدى ضباط الجيش البريطانى إعجابهم بفدائية وشجاعة رجال الشرطة فقدموا لهم التحية العسكرية بعد أن نفدت ذخيرتهم، وتوالت المظاهرات فى محافظات مصر تأييدا لحكومة النحاس، مُطالبة بالثأر والقصاص، وتوالت العمليات الفدائية ضد معسكرات البريطانيين فى مُدن القناة.

ولم يكُن هُناك أمام الإنجليز ورجال القصر سوى إجهاد الثورة التى أعلنها الوفد ضدهم، لذا فقط تم تدبير حريق القاهرة فى اليوم التالى مُباشرة واشتعلت النيران فى عدد من دور السينما ومحلات اليهود، ومقار الأجانب واضطرت الحكومة إلى إعلان الأحكام العرفية، لكن كان الوقت قد تأخر حيث وجد الملك فاروق مُبررا لإقالة الحكومة لتدخل مصر مرحلة تخبط وفوضى حتى ليلة 23 يوليو عندما استولى الضباط الأحرار على السلطة.

ورغم أن بطولة رجال الشرطة وفخرهم بوقوفهم ضد جنود الاحتلال، إلا أن بعض خصوم الوفد حاولوا تشوية العمل، وكان ذلك مبكرا حيث شهدت محاكمة سراج الدين ضمن محاكمات الثورة عام 1954 اتهامه بالتسبب فى استشهاد رجال الشرطة المصريين، وفوجئ الحاضرون بواحد من الضباط الأحرار هو وجيه أباظة يصر على تقديم شهادته مؤكدا أن «سراج الدين» كان أكبر داعم لحركة الفدائيين، وهو ما دفع رئيس المحكمة أن يقول وقتها لـ«سراج الدين»: «نحن لا نشك فى وطنيتك».

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل