المحتوى الرئيسى

بيروت حالة حب

01/22 22:03

قد تكون قصة الحب مع بيروت من أعقد القصص. قد تكون العلاقة معها من أكثر العلاقات مع الأماكن تركيبا. بيروت ليست كالمدن الأخرى، بيروت ليست كباقى الأماكن، بيروت ليست مدينة، بيروت حالة!

أن تربطك علاقة مع بيروت يعنى أن تشعر بقلبك وهو يرقص على إيقاع الهتاف فى الشارع، ثم ينقبض خوفا من صوت الرصاص، ليعود فيخفق ترقبا للأحداث، وينطفئ قلقا من التطورات، فينبض مجددا فى حب مدينة كان يفترض، لو خضعت لقدرها، أن تموت مرات بدل مرة واحدة، لكنها بعد كل اقتراب من الموت تنفض عن نفسها الأشباح وتفرك عينيها لتفتحهما على يوم جديد وقوس قزح يخترق سماءها.

لبيروت سحر يرمى شباكه من يزورها فيمشى خلفها كالأبله، يتغاضى عن مساوئها لأن مفاتنها لا تقاوم. بيروت كساحرة فى قصص الأطفال، زوجة الأب الجميلة الشريرة، تدس السم فى التفاحة وتبتسم بدلال. أنا وغيرى نقضم حبة الفاكهة دون أن نعرف أنها مسحورة.

بيروت حالة يدخل فيها من يزورها. كيفك اليوم؟ ماشى الحال، فى بيروت. كيف مزاجك؟ بيروتى. كيف هواك؟ مثل ست الدنيا. بيروت حالة حب وإحباط ورغبة فى الحياة واقتراب دائم من الموت، كمن يقود سيارة بسرعة جنونية على طريق جبلى وينجو بأعجوبة من الوقوع فى الوادى. بيروت يعنى سباقا مع الحياة وفرارا من شبح يغطى وجهه ويمسك فى يده ساطورا يرفعه فوق الرءوس.

فى تصور بيروت كثير من النوستالجيا والحنين، حتى لدى من لم يعرف المدينة فى عزها قط، فقد مرت سنوات كثيرة منذ كانت بيروت باريس الشرق الأوسط وعروس المتوسط. بيروت تحتضر منذ أكثر من أربعين عاما. بيروت تستيقظ من موت بعد موت منذ أكثر من أربعة عقود.

بيروت محاصرة داخل حلبة دائرية كتلك التى تشهد صراع الثيران، ترقص بين إله الموت وإله الأبدية، تقفز بخفة على إيقاع طبول الحرب، الحرب دائرة بين الإلهين بينما تسرع وتبطئ هى من إيقاعها فتلتقط أنفاسها تارة وتعود وتقفز تارة أخرى. بيروت حرة رغم الحصار، حرة الروح والقلب رغم أنف الجميع، ترمى همومها فى البحر وتمد يدها للغيوم من على أعلى الجبل. لا حدود لبيروت، هى حالة لا تدخل فى أى إطار.

بيروت قطعة مغناطيس تسحبنى نحوها دون أن أناقشها، أتحول إلى دبوس يلتصق بها. تتحرك فأكاد أن أقع لكن قوة السحب أقوى من قوة الدفع فأبقى معلقة بها. هى تعويذة نفثتها ساحرة فى حجاب شبكته على ظهرى فلا أصل إليه لأفكه، حجاب يربطنى بالمدينة. بيروت مدينة يشعر زائرها أنه يملك جزء منها دون أن يطلب إذن أصحابها. ربما تملك بيروت الزائر، أى أنها من يقرر أن ثمة علاقة وليس الزائر. ها هى تتباهى بحلاها وكنوزها فيفقد الزائر عقله.

زائر بيروت يتحول إلى شجرة أرز، لا يفقد أوراقه، لا يفقد ذكرياته مع المدينة. ثمة معالم اختفت من الشوارع لكنها لم تختف من الذاكرة فما زال من عرف المدينة فى عزها يحكى عن مقهى وشارع ومقر لقاءات سرى، ما زال يذكر رائحة فرن المناقيش وصوت ترامواى مزقت الحرب سكته وقاطراتها منذ عقود. زائر بيروت يعود ويعود، يرى علامات جديدة للتعب والتقدم بالعمر على المدينة فى كل زيارة ولا يهتم. يقرر أن تلك الزيارة هى الأخيرة لكنه يعود كدبوس يسحبه المغناطيس رغما عنه.

فى حب بيروت هناك حب لقصص ربما لم أعشها بنفسى إنما أعلم دون سؤال أنها حدثت. فى حب بيروت حزن عميق على شباب ضاع وعجوز شمطاء من الأجدى أن تقلل من حركتها حفاظا على ما بقى داخلها من جمال لكنها ترفض أن تنصاع لصوت العقل. فى حب بيروت حب للحياة لا مثيل له فى العالم، اقتراب من الموت حتى يكاد جوف الأرض أن يبتلع المدينة بما فيها فتركله بعزم وها هو يغلق الفجوة وتعود بيروت إلى السطح بكل من عليها. يفرك سكانها أطرافهم وينظرون حولهم فيعميهم الدخان وتدمع أعينهم. ينفضون آثار الموت من على ثيابهم ويعيدون الألوان لكل ما حولهم.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل