المحتوى الرئيسى

هنا سكن وبنى مسجده.. "الوطن" تستدعي حياة المنشاوي بلسان أحفاده وجيرانه

01/20 11:02

 سيرة عطرة طيبة، تتناقلها الأجيال بحرص شديد، فتنتقل الحكابات من ألسنة الأبناء إلى الأحفاد، الذين يعكفون على جمع كل ما قيل عن جدهم، من مقالات وتسجيلات وحكاوي الجيران والمعارف، لعلهم بذلك يعوضون عدم لقاءهم بجدهم الشيخ الباكي محمد صديق المنشاوي، حتى أن نجلته جمعت العائلة ذات مرة محاولة الوصول إلى من وريث للصوت الذهبي الذي نال صاحبه بسببه أوسمة رفيعة في أسفاره المختلفة.

في شارع مصر والسودان، تجولت "الوطن" ترصد مواقف ومقتطفات من حياة الشيخ التي لا تزال تتناقلها الأجيال، ففي تلك المنطقة بحدائق القبة، كان الشيخ قد بنى منزله، حيث عاش هو وزوجتَيْه وأبنائه الاثنى عشر، ولا يزال المنزل قائمًا حتى الآن، يطل بهيئة خارجية متواضعة، ليبدو وكأن ساكنيه من البنين والبنات وأنجالهم قد تركوه على حاله، أملًا أن تنبع منه سيرة الشيخ الذي وُلد قبل مائة عام وتوفى قبل 51 عامًا، يعرفه الجميع من مارة وأصحاب المحال التجارية والمُقيمين.

تتزين واجهة منزل العائلة بلوحة ذهبية صغيرة، تحمل عنوان مشروع وزارة الثقافة "عاش هنا"، الذي يهدف للتعريف بأعلام مصر ومحال إقامتهم، وتحمل اللافتة التي تعمل بنظام "الباركود" وتم وضعها منذ شهرين، معلومات أساسية عن الشيخ كتاريخ الميلاد والوفاة، ليقوم المار بالتعامل معها عبر هاتفه الذكي ليستزيد عن القارئ الراحل.

وفي أسفل العمارة مسجد بسيط بناه الشيخ بإيعاز من صديق مسيحي، يحمل اسم أبيه القارئ الشيخ صديق المنشاوي، يَعُج بالرواد من مارة وجيران يحرصون على الإقامة به ليس فقط للصلاة، وإنما يختطفون من أوقاتهم سويعات لتلاوة القرآن، كما كان يفعل صاحبه.

ما إن سمع سيرته، حتى تباينت ملامحه بين امتلاء عينيه بالدموع وحنين وعرفان بالجميل، حتى انتابه الشعور بالندم بأنه لم ينتبه لرأي الشيخ في مسألة زواجه، لتكشف له السنوات بعد ذلك عن بصيرة المنشاوي، حين اقترح على أحمد سليم، ابن قريته الذي جاء للعمل في منزله، ألا يتزوج فتاة قاهرية لا يعرف عنها شيئًا، مُرَّغبًا إياه باستعداده لتحمل تكاليف زواجه كلها إذا تزوج من أي فتاة منشاوية الأصل، "قالي اختار واحدة نعرفها وتنفع معانا، إحنا صعايدة.. وفعلًا لما جاتلي جلطة سابتني وماهتمتش بيا زي ما الشيخ توقع"، بحسب سليم صاحب الـ71 عامًا.

ومن منزله بالمرج، يحرص سليم على القدوم يوميًا إلى الشارع الذي يحمل له عِشرة أعوام من عمره، قضى كثيرًا منها في رحاب الشيخ، يلبي احتياجات أهله المنزلية، متذكرًا في حديثه لـ"الوطن" ما أَلمَّ به، مفترضًا أن الشيخ محمد لو كان حاضرًا إلى الآن لاتصف بكثير من الكرم كعادته.

وروى، أنه عندما مرض واضطر للعودة إلى "المنشأة" في سوهاج كان الشيخ يرسل إليه أحد أفراد العائلة هناك بالطعام بشكل يومي، "لما جيت اشتغل كان يجيب لي لبس مش بس يصرف لي شهرية.. أكيد كان هيبعتني للدكتور دلوقتي".

التواضع والاحترام هما أكثر صفات الشيخ في ذاكرة سليم، فيتذكر أنه كان يقضي معظم وقته في المسجد جالسًا على كرسيه يرتل ويطرب الآذان، وكانت أذن الرجل السبعيني إحداها، لتظل تلك التلاوات تتردد على مسامعه حتى يومنا هذا، فيدعو له بالرحمة كلما سمع صوته.

في أحد أركان مسجد صديق المنشاوي، يحرص اللواء حسين توفيق، 70 عامًا، على أداء صلاة العشاء، وما إن ينتهي حتى يبدأ في قراءة جزء من القرآن، وهذه عادة واظب عليها منذ سنوات، تذكره بعادة أخرى بدأت صدفة، حين كان عمره 16 عامًا، وكان يخرج من منزله القريب من منزل الشيخ حوالي الساعة 4 عصرًا، متوجهًا إلى النادي الأهلي سيرًا على الأقدام، ففوجئ في إحدى المرات بأن الشيخ يسير أمامه، وما إن وصل إلى منطقة ما افترقا، وحين عاد "حسين" سأل بعض الجيران عن وجهة الشيخ، ليعرف أنها زيارة تتكرر أكثر من مرة خلال الأسبوع، فبدأ يتبع الشيخ عن عمد "كان مشوار تأمل بالنسبة لي.. مش بحب غير إني أبص عليه وعلى حبه للناس ولله وسكونه طول الطريق.. ماشي ماسك السبحة يذكر ربنا وبس وكنت فخور إني قريب من إنسان راقي كده".

 طالما لمس حسين تواضع جاره الشيخ محمد صديق المنشاوي، متذكرًا عادة الشيخ صباح كل يوم عند خروجه من منزله، يخلع حذائه مناولًا إياه لـ"مُلمع أحذية" الذي عكف على انتظاره أمام المنزل كل يوم، فيجلس بجواره حتى ينتهي ثم يودعه.

وظل المُلمع على حاله، يأتي كل يوم في نفس المكان على الرصيف أمام العقار، حتى بعد وفاة الشيخ، يجلس متذكرًا زبونه المفضل حتى وافته المنية هو الآخر، "الشيخ كان آية في الرقي والاحترام، ولا حد يسمع له حس غير في قراءة القرآن لما يدخل المسجد، وكنت أحب أسمعه، ولما مات جبت تسجيلاته وبشغلها في البيت وأحفادي يسمعوه معايا".

رغم أن عمره كان صغيرًا جدًا، فلم يتجاوز حسن المنشاوي، الخمسة أعوام وقت وفاة الشيخ، إلا أنه لا يستطيع أن ينسى كيف غدت قريته بين يوم وليلة في حزن شديد، أينما نظر وجد الدموع تملأ الوجوه، ولا يسمع سوى كلمات تطلب الرحمة والمغفرة لابن قريته، فيتذكر مشهد جنازته المهيب، حيث خرجت البلدة عن آخرها تودع الشيخ الذي أوصى أن يواري ثراها جسده.

وحينما انتقل إلى القاهرة، حرص "حسن" أن لا ينقطع عن الشارع الذي قطنه الشيخ، حتى بات معروفًا للجيران، وفي أسفاره عبر المحافظات يلمح غبطة كبيرة في عيون من حوله بمجرد أن يطلعهم بصلة القرابة بينه وبين المنشاوي حتى ولو كانت بعيدة.

لم يقابلوه وجهًا لوجه، فأكبر الأحفاد لم يتجاوز الثلاثينيات، لكنهم يحرصون على جمع سيرته، فلا تزال مقتطفات حياته العطرة تحيط بهم، كما حرص معظمهم على الإقامة في منزل العائلة، يجتمع جميعهم بين حين وآخر، ورغم أن اثنين من أبناء الشيخ توارثا شيئًا من الصوت العذب، فإن الأحفاد لم ينالوه، كما أن العائلة لا تزال على عهد الشيخ الذي كان لا ينقطع عن بلدته، فيحرصون على مواصلة ود العائلة في سوهاج، يقضون عيد الأضحى بها في طقس بات سنويًا.

في منزل العائلة، وكي يمنحوا أنفسهم أملًا في استمرار بعض من صوت الشيخ في التردد، يحتفظون بصورة شجرة العائلة من القُراء، التي تجمع بين الجد الأكبر صديق المنشاوي وشقيقه أحمد، اللذين ذاع صيتهما قبل 100 عام، ليحمل الاسم من بعدهما ثلاثة من أبناء صديق، أكبرهم محمد "رحمه الله"، يليه محمود، وأحمد الذي توفاه الله صغيرًا، ليأتي الفرع الثالث من العائلة القرآنية متمثلًا في الشيخ صديق محمود المنشاوي، "عمي عمر وعمي السعودي ورثوا صوت جدي الشيخ محمد، لكن ماكملوش في القراءة، وعمي صديق ابن جدي محمود مكمل وصوته جميل" بحسب علاء محمد نور، حفيد الشيخ محمد.

يروي محمود السعودي،39 سنة، حفيد الشيخ لابنه الأكبر، أنه منذ فترة وجيزة، قررت عمته فادية أن تجمع كل أفراد العائلة، تبحث عن من يحمل جينات صوتية لوالدها، لكنها حزنت كثيرًا حينما لم تجد، "أبويا وعمي عمر كان صوتهم حلو جدا، لكن ماحبوش يقرأوا علشان عندهم قناعة إن مفيش زي جدي، وأنا كان نفسي أكون زيه حتى يعوضني إني مالحقتوش.. صوته كله راجة نفسية".

بجانب شخصيته التي ملأها القرآن نورًا، فإن روح الفكاهة كانت أكثر ما يميزها، بحسب السعودي، حيث يروي أن الجلوس أمام المنزل لبعض الوقت كانت عادة جده، حتى جاءه ذات مرة شخص يسأل عن منزل محمد المنشاوي، فأرشده للدور الأول وتعامل معه  كحارس العقار كما ظن السائل، "طلع وقابله في البيت وقعد يضحك معاه"، بحسب السعودي في حديثه لـ"الوطن".

كان الشيخ حريصًا على أن يتلقى بناته فرصتهن الكاملة في التعليم، لا فرق بينهن وبين أشقائهن من الذكور، فمنهن من أصبحت طبيبة أسنان ومنهن من تعلمت حتى وصلت إلى حد الكفاية وآثرت أن تصبح ربة منزل باختيارها دون إجبار، وبحسب حفيده فإن الشيخ تمتع بشخصية طيبة يملأها الحنان "أمي كانت دايمًا تقول إنها لما تزوجت من ابنه الأكبر عاشت معاه في نفس البيت، وكان جدي يحبها ودايما يتعامل معاها كأنه أبوها مش حماها".

محب لقراءة القرآن في أي مكان، يغض الطرف عن المقابل، يسعى لإسعاد الناس بتلاوته، متخذًا من صوته طريقا لخدمتهم، كما كان يحلو له تسمية نفسه "خادم القرآن الكريم" في كارت شخصي يحمله، فكثيرًا ما كان يحيي حفلات بلا مقابل، وأخرى لا يتفق على أجره، فيتذكر السعودي واقعة رواها له والده، حين ذهب جده لأحد الحفلات وحين اختتم قراءته أعطاه صاحب الحفل 10 صاغ فأخذها وشكره، "لما صاحب الحفلة رحع البيت اتفاجئ إن الجنيه الذهب اللي كان هيديه للشيخ في جيبه وراح يعتذر له، وقال له أنا كنت عامل حسابي إن ده أجرك، لكن الشيخ رفض، وقال أنا أخدت نصيبي".

"كان مرة جدي راكب القطر وسمع زوج وزوجة شايلين طفل صغير جدًا قاعدين جنبه بس مش عارفينه، والزوجة تعاتب زوجها لأنه وعدها لما ربنا يرزقهم الذرية هيجيب الشيخ محمد يقرأ ويعمل ليلة لله"، موقف إنساني لا يستطيع أن ينساه علاء، الذي يحمل ملامح جده ويشبهه أكثر من غيره، فحين سمع الزوج يعتذر لزوجته ويطلب أن يسامحه الله لعدم قدرته على الوفاء بالنذر، تدخل الشيخ في الحديث ليطلب منهم أن يحددوا اليوم المناسب لهم كي يأتي لهم بشيخهم المفضل دون أي تكاليف، ليُفاجيء الأب والأم حديثي العهد بالذرية بأن الرجل الذي جاورهم هو نفسه الشيخ حينما زارهم في الموعد المحدد، لتعم مشاعر الفرحة والتندر على الواقعة بين العائلة الصغيرة. 

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل