المحتوى الرئيسى

للبيع.. وبأبخس الأثمان

12/15 21:48

تشارف الأزمة اللبنانية على نهاية شهرها الثانى دون أن تستجيب السلطة لمطالب الحراك الشعبيّ. وعلى رأسها تشكيل حكومة تكون مستقلّة عن زعامات الطوائف. وتعالج الإفلاس الماليّ التى تعانى منه البلاد. كذلك لم تتوافق مكوّنات السلطة على حكومة من نسيجها. بالتأكيد هذا له أسبابه، إذ ليس من طبيعة أيّة سلطة أن تتخلّى بسهولة عن هيمنتها، ولا أحد يريد أن يخضع للمحاسبة عمّا ارتكبه بحقّ المال العام الذى أؤتمن عليه ولا أحد يريد أن يدفع هو دون الآخرين أيّ ثمن.

وربّما هناك أسبابٌ أُخرى وراء هذا التقاعس والتباطؤ رغم زخم الحراك. إذ إنّ ترك أزمة الإفلاس تصل إلى أقصى مداها سيؤدّى إلى إفقار المواطنين العاديين وإشغالهم بالمعاناة للحصول على لقمة عيشهم وجعلهم يبيعون أملاكهم بأسعارٍ بخسة ويغضّون النظر عن بيع الأملاك العامّة بأبخس الأثمان. بتعبير آخر هناك من يريد للأزمة أن تتفاقم كى يأتى خلال الانهيار الكلّى ويبيع المؤسّسات العامّة الرابحة، من شركة طيران الشرق الأوسط إلى شركات الهاتف الخلوى، وقبل بيع تلك التى تراكم الخسائر، أو يشتريها مع شركاء من خارج البلاد.

وعند وصول الأزمة إلى أقصى مداها لن يتبقّى للدولة من إمكانيّات ماديّة لإعادة إطلاق عجلة النموّ الاقتصادى ودرء هروب الشباب للعمل فى الخارج. ولن يبقى من سبيلٍ لإنقاذ الدولة من الإفلاس المُعلَن ووضعها تحت وصاية المؤسّسات المالية الدوليّة سوى بيع أصولها. هكذا إنّ ما كان يتمّ التنافس عليه من حصص للتفريط بالأملاك العامة سيتحوّل إلى استحواذٍ رخيصٍ لها.

إنّ الأزمات والحروب تشكّل دوما لحظات لإعادة توزيع الثروة بشكلٍ فاضح. وهذا كان الحال فى سوريا خلال الصراع الذى يدوم منذ 2012. كثيرٌ من السوريين باعوا ممتلكاتهم بقصد الهجرة بعيدا، برضاهم أو عنوة، أو رضوخا لمشيئة أمراء الحرب الذين تفشوّا فى مختلف مناطق السيطرة. بالتوازى تخلَّت الدولة، وكذلك سلطات الأمر الواقع، لتجّار الحرب عن أمورٍ أساسيّة كانت هى تؤّمنها لأنّهم وحدهم باتوا يستطيعون نقل الأموال والبضائع عبر خطوط التماس فى إطار فوضى الصراع. هذا لأنّ الدولة استنفدت رصيدها لتأمين الخدمات الأساسيّة وضمان حركة التجارة والاقتصاد.

اللافت هو أنّ العقوبات الاقتصادية والمالية، الأمريكيّة أساسا، هى التى أعاقت عمل الدولة ومعيشة المواطنين وخلقت تجّار الحرب الذين يستطيعون التحايل عليها. بل أضحى دور تجّار الحرب هؤلاء ضروريّا للحياة الاقتصادية، ويجنون من جرّاء ذلك ريوعا كبيرة. ثم يتبَع ذلك عقوبات أمريكيّة وأوروبيّة على هؤلاء التجّار ذاتهم. هكذا حتّى يظهر غيرهم أو يغوص أهل البلاد فى الفقر والجوع والاستجداء للمعونات من الخارج.

بالطبع يقوّى دور هؤلاء التجار الطبيعة الاستبداديّة والريعيّة للسلطة الرسميّة القائمة، كما سلطات الأمر الواقع، كلٌ فى المناطق التى يسيطر عليها. هم يعزّزون هيمنة السلطة كما يستمدّون قوّتهم من رعايتها وتغاضيها عن انتهاكاتهم لأيّة قاعدة حوكمة أو قانون يرعى المصلحة العامّة.

وكما أنّ هذا كلّه لا يكفى، انطلقت آليّة الكونجرس ومجلس الشيوخ الأمريكى تنطلق لإصدار قانون جديد للعقوبات على سوريا. يستمدّ هذا القانون اسمه من شهادات «منشقٍّ» صوّر أفظع انتهاكات حقوق الإنسان فى سجون السلطة، «قيصر». ولكنّ مضمون القانون لا يذهب لمعاقبة المسئولين عن هذه الانتهاكات ضمن آليّة قانونيّة كما حدث للبعض الذين هربوا إلى أوروبا. بل يستهدف أساسا مصرف سوريا المركزيّ المتّهم أنّه «مؤسّسة مالية تقوم بشكل رئيسيّ بتبييض الأموال». ومن يحقّ له تثبيت تلك التهمة أمام مشرّعى الولايات المتحدة وخلال 180 يوما من المصادقة على القانون هو وزير المالية الأمريكيّ. كما يُمكن أن تشمل العقوبات أيّ فردٍ «يدعم بشكل ملحوظ الحكومة السوريّة ماليا أو ماديا أو تقنيا». ما يعنى من خلال التطبيق الحرفى أو الاحترازى أيّ شخصٍ يتعامل مع الدولة السورية ويدفع لها رسوما أو ضرائب. والسؤال الأساس هو ما علاقة هذه العقوبات الأمريكيّة بأولئك الذين ارتكبوا الجرائم التى وثّقت فى تقرير «قيصر»، ودون محاكمة ودفاع وشهود؟!

بالطبع، لا يريد الأمريكيوّن الذهاب إلى أيّة محكمة دوليّة، لا عن الجرائم المعنيّة «بقيصر» ولا حتّى عن جرائم داعش. فهذا موقف ثابت للولايات المتحدة، كى لا يحاكم أيّ من مواطنيها أو تتمّ محاسبتهم أو محاسبتها على مستوى دوليّ.

ولكن هناك ما هو أبعد من ذلك؛ إذ يُذكِّر هذا القانون بالعقوبات التى كانت مفروضة على العراق والتى لم تُلغَ إلاّ بعد تسع سنوات من سقوط سلطة صدّام حسين. واستمرار العقوبات سمح فقط لمن له علاقات جيّدة بالولايات المتحدة أن يرتّب أموره مع إداراتها ويتلاعب على النصّ كى يستحوذ على خيرات العراق. وهكذا تمّ نهب ثروات العراق ووصل إلى ما هو عليه الآن.

بالنسبة للعقوبات على سوريا، هناك حتما مراكز نفوذ، ضمنها تلك المموّلة من دولٍ خليجيّة، عملت وتعمل على إصدار قانون «قيصر». كما هناك سوريوّن أو أمريكيّون من أصولٍ سوريّة يعملون فى نفس المنحى. والسؤال لهم جميعا هل أسقطت عقوبات اقتصاديّة يوما سلطة قائمة؟ أم أنّها أفقرت شعوبا؟

والسؤال الأكبر هو: بافتراض أنّ العقوبات أدّت إلى سقوط السلطة أو إلى قبولها بقرارات مجلس الأمن، هل الهدف حقّا هو الاستحواذ على ما بقى من سوريا، أملاكا عامّة أم خاصّة، بأسعارٍ بخسة؟ فى ظلّ قانون غير واضح المآلات أو زمن الانتهاء حتّى فى ظلّ «هيئة حكم انتقاليّة جامعة مخوّلة بممارسة سلطات تنفيذيّة كاملة، وتعتمد فى تشكيلها على الموافقة المتبادلة، مع كفالة استمراريّة الدولة»، كما فى نصّ قرار مجلس الأمن المرجعيّ 2254، وحدهم أولئك الذين يعرفون التلاعب فى أروقة الإدارة الأمريكيّة سيتصيّدون الفرص.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل