المحتوى الرئيسى

الرئيس التونسى الجديد فى مواجهة التحديات

12/13 21:16

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب «توفيق المدينى» تناول فيه السيناريوهات المحتملة لتشكيل الحكومة التونسية الجديدة... ونعرض منه ما يلى:

فى تونس، تغيَّر رئيس الجمهورية بفَوز قيس سعيّد فى الانتخابات الرئاسيّة، لكنَّ النظام السياسى والاقتصادى والاجتماعى الذى أسَّسه الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة وسار على خطاه الرئيس الراحل زين العابدين بن على وعمره أكثر من ستّين سنة، لا يزال قائما، فهل يشكِّل فوز الرئيس سعيد الخطوة الأولى لخَوض معركة إعادة بناء الدولة الوطنيّة الديمقراطيّة التعدديّة فى البلاد التونسيّة؟

فى خطاب اليمين الدستوريّة لتولّى مَهامّه كرئيس لتونس، أكَّدَ الرئيس قيس سعيّد أنَّ ما يعيشه التونسيّون اليوم أذهل العالم، باحترام الشرعيّة وقيادة ثورة حقيقيّة بأدوات الشرعيّة. وأردف: «كسب التونسيّون بأطيافهم كافة احترام العالَم ودهشته».

واعتبر قيس سعيّد أنَّ أحد أهم واجباته كرئيس جديد للبلاد هى الحفاظ على الدولة التونسيّة والتأكيد على حياد مَرافقها كافّة دونما التأثّر بأى حسابات سياسيّة. ويتابع: «لن أتسامح مع أى فلس يخرج من أموال التونسيّين من دون وجه حقّ».

إنّ أهمّ تحد سيُواجهه الرئيس قيس سعيّد هو الاختلاف فى الانتماء السياسى بينه وبين رئيس الحكومة، الذى سيكون من قيادات حركة النهضة، ولاسيّما أنَّ سعيّد لا يستند إلى حزب سياسى ولا تدعمه كتلة برلمانيّة ولم يقدِّم برنامجا سياسيّا واقتصاديّا عمليّا يخوض به غمار السلطة ويمكّنه من إطلاق مُبادراتٍ واقعيّة تُسهم فى تغيير الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة الصعبة.

ومن الواضح أنَّ رئيس الجمهوريّة يدعو الأطراف السياسيّة التى لها كُتل وازنة فى البرلمان إلى تعميق الحوار فى ما بينها لكى يتوّج بصياغة برنامج للحكومة المُقبلة على أن تكون الأخيرة حكومة كفاءات لا مُحاصَصة حزبيّة، وفى إطار الالتزام الكامل بمُقتضيات الدستور. ويبدو أنَّ الرئيس يمضى بهذه المُشاورات باتّجاه تشكيل مُبادَرة رئاسيّة تتوَّج بما أطلق عليه «حكومة الرئيس»، وهذا مقترح لـ«حركة الشعب» طبقا للمادّة 89 من الدستور، والتى تنصّ على أن يضطلع رئيس الجمهوريّة بتكليف شخصيّة سياسيّة ــ ومستقلّة وتحظى بالإجماع ــ بتشكيل الحكومة أمام مؤشّرات انسداد أُفق تشكيلها فى ضوء مَشهد برلمانى جديد متكوّن من فسيفساء من الكتل البرلمانيّة الضعيفة المُختلفة فكريّا وأيديولوجيّا إلى حدِّ التناقض، حيث يلى حزب النهضة حزب «قلب تونس» الذى يترأّسه نبيل القروى بنحو 38 مقعدا، الذى شاطر «النهضة» العداء فى الانتخابات، علاوةً على احتماليّة مُحاكمة القروى، فليس من المُحتمل أن يكون ثانى أكبر الأحزاب تمثيلا داخل البرلمان فى مَوقع يسمح له بالعمل مع النهضة؛ ثمّ حزب «التيّار الديمقراطى» الاجتماعى بـ22 مقعدا، الذى يشترط تمكينه من ثلاث وزارات، الداخليّة والعدل والإصلاح الإدارى، وحيث تفادى محمّد عبو، زعيم «التيّار الديمقراطى» التحالُف مع النهضة، لأنَّه يرى أنَّ ذلك لا يدعم إقامة دولة «مُحايدة». و«ائتلاف الكرامة» ذو التوجُّه السلفى بـ21 مقعدا، يليه «الحزب الدستورى الحرّ» ذو المرجعيّة البورقيبيّة الذى تقوده المحامية عبير موسى بـ17 مقعدا، ويقعان على أقصى طرفَى الطيف الأيديولوجى. لذا لن يبدأ بهما النهضة مُطلقا فى هذا التحالُف؛ ثمّ «حركة الشعب» ذات المنحى القومى الناصرى بنحو 16 مقعدا، والتى أعلنت رفضها المُشارَكة فى حكومة النهضة، وحزب «تحيا تونس» الخاصّ برئيس الوزراء الأسبق يوسف الشاهد 14 مقعدا، وذلك بالإضافة إلى قائمة لا تُعَدُّ ولا تُحصى من الأحزاب المُستقلّة التى دخلت المشهد.

وبينما يرى الشيخ راشد الغنّوشى أنّ من حقّ «حركة النهضة» أنْ تتولّى رئاسة الحكومة، بوصفها الفائزة الأولى وصاحبة الأغلبيّة (52 مقعدا)، تجد النهضة نفسها فى ظلّ وضعيّة التشتّت، عاجزةً بمفردها عن تشكيل الحكومة بمنأى عن مبدأ التعايُش، والمضى فى نسْج تحالفات مع المكوّنات السياسيّة الأخرى الأقرب إليها، فحركة النهضة لا يُمكنها أن تحكم بمفردها، أى برئيس حكومة منها، لتتحمّل المسئوليّة كاملة خمس سنوات.

فضلا عن ذلك، فهى التى تريد أن تترأّس الحكومة الجديدة وتستفرد بكامل لوحة التحكُّم فى المشهد السياسى التونسى، لا تمثِّل سوى خمس الناخب التشريعى و15% فقط من الناخب الذى شاركَ فى التشريعيّة والرئاسيّة و12% من جملة التونسيّين المُسجَّلين، ما يجعل حركة النهضة مُلزَمة باعتماد شىء من التواضُع تجاه نظرائها من الأحزاب والحركات، وأنّها على الرّغم من بقائها فى المشهد السياسى منذ العام 2011، فإنَّها فى تراجُع مطّرد، إذْ إنَّهَا خَسِرَتْ أكثر من مليون ناخب منذ انتخابات 23 أكتوبر 2011 حين حصلت على 89 مقعدا (أى حوالى 1.450000 من أصوات الناخبين).

فمقابل تراجُع النهضة فى الانتخابات التشريعيّة، حقَّقت أحزاب أخرى تقدّما كبيرا، كالتيّار الديمقراطى وحركة الشعب والحزب الدستورى الحرّ وائتلاف الكرامة وقلب تونس الذى نال النصيب الأوفر ممَّن كان يصوِّت لنداء تونس؛ فالقول إِنَّ الشعب صَوَّتَ ضدّ الفساد الذى تحاول حركة النهضة أن تختزله فى حركة «قلب تونس» (38مقعدا) وضدّ الاستبداد الذى تسعى لأن تلصقه فى الحزب الدستورى الحرّ (17مقعدا) هو قول مجانب للصواب، فكيف للناخب التونسى أنْ يُبَوِّئَ «الفاسد» ثانيا و«المُستبِد» خامسا بمجموع 55 عضوا فى البرلمان متجاوزا النهضة «النظيفة» (52 عضوا)! وإذا قاوم التيّار الديمقراطى وحركة الشعب وباقى الأحزاب أساليب الترغيب والترهيب التى تعتمدها حركة النهضة تجاهها فستسعى هذه الأخيرة إلى الحُكم مع مَن تنعته بالفساد، وربّما مَن تنعته بالاستبداد إنْ رَضِيَا عنها وإنْ قَبِلا َالحكم معها.

على نقيض النزعة التفاؤليّة لزعيم حركة النهضة الإسلاميّة راشد الغنّوشى بشأن قدرته على تشكيل الفريق الحكومى، يستشعر رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد حالة الاستعصاء فى تشكيل الحكومة الجديدة من قبل حركة النهضة. لذا يسعى إلى استغلال الشرعيّة الشعبيّة التى حظى بها وأصبحت تشكّل له حزاما سياسيّا قويّا، وبوصفه الضامن لوحدة الدولة والحامى للدستور، وخصوصا وهو المستقلّ عن كلّ التشكيلات السياسيّة، والآخذ المسافة نفسها منها جميعا، والذى حصد من الأصوات لوحده فى الانتخابات الرئاسيّة (حوالى 3 ملايين) ما يُضاهى ضعفَى الأصوات فى الانتخابات التشريعيّة، لكى يطرح مُبادرته الرئاسيّة للإسراع بتشكيل الحكومة الجديدة لإنقاذ البرلمان من التشتّت والتشرذم، والبلاد كذلك، من سيناريو إعادة الانتخابات. ويقتضى هذا التمشّى أنْ تُقَدِّمَ حركة النهضة تنازلات، وأهمّها تخلّى رئيسها راشد الغنّوشى أو غيره من قياداتها عن رئاسة الحكومة، على الرّغم من أنّه حقّها الدستورى ومحلّ إجماع من مجلس شورى الحركة.

وإذا فشلت حركة النهضة فى الوصول إلى المقعد رقم 109 السحرى، حيث يصل عدد المقاعد فى البرلمان إلى 217 مقعدا، فإنَّ رئيس الدولة، فى هذه الحالة، سيكون مُجْبَرا على تكليف شخصيّة وطنيّة من اختياره لتشكيل الحكومة. وإذا فشل هذا الأخير فى تشكيل الحكومة فى مدّة لا تتجاوز الشهرَين، فإنَّ رئيس الجمهوريّة ووفقا للدستور التونسى، سوف يدعو آنذاك إلى إجراء انتخابات تشريعيّة مبكّرة.

لقد عبَرَّتْ الثورة التونسيّة عن مَوقفها من التطبيع مع الكيان الصهيونى والمتمثّل فى تجريم التطبيع كفصلٍ ثابتٍ فى الدستور التونسى، لكنّ الطرف السياسى الذى رفض تنصيص ذلك هو حركة النهضة. وإذا كان الشعب التونسى يُحَيِّى المَوقف الإيجابى لرئيس الجمهوريّة من التطبيع بوصفه «خيانة قوميّة»، فإنَّ المَوقف الوطنى والقومى الحقيقى المعبِّر عن حقيقة الثورة التونسيّة، يجب أن يكون فى اعتبار اتّفاق أوسلو الموقّع فى 13 سبتمبر 1993 بين قيادة منظّمة التحرير الفلسطينيّة بزعامة الرئيس الراحل ياسر عرفات ورئيس الحكومة الصهيونيّة آنذاك إسحاق رابين، بمنزلة صفقة القرن الحقيقيّة التى قادت على ما يبدو إلى تصفية القضيّة الفلسطينيّة.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل