المحتوى الرئيسى

اعترافات جريئة.. حق اللجوء إلى الحدود | المصري اليوم

12/07 00:17

أنا يا سيدتى إمرأة فلسطينية، وٌلدت مهاجرة أحمل قدرى فوق كتفى وأفر من عاصمة عربية إلى أخرى، بحثا عن الإحساس بالآمان، وسعيا خلف عمل شريف..

طفولتى قضيتها أغفو على إيقاع القصف اليومى وأصحو عليه، وشبابى أتقنت فيه أن أرتدى ثوبا أبيض، وأطلق زغرودة كلما أتانا خبر «شهيد».

كنت أكتفى بـ «اللبنة والزعتر» زادا، وإعتدت ألا أسرف في أحلامى، أو حتى في دموعى.. كنت مصرة أن أظل مغروسة بالأرض، مثل شجرة زيتون عفية.. لم يتسلل إلى الإحساس بكونى «شريدة».. كنت أغذى شرايينى بالشعر.. وأجمل عقلى الصغير بفكرة :«الوطن».

إقتربت من عامى العشرين بروح مناضلة، أقاوم هزيمة الوطن، وأغزل شالا منقوشا ببصمة المكان.. رئتى الضعيفة لم تكن تحتمل رائحة البارود، لم يكن قطار «السلام» قد دهس الأهل والأرض.. لم يكن لسماسرة الأوطان مكانا في عالمى الصغير.

حتى جاءنى إبن العم بتأشيرة هجرة، ربما يسمع العالم صوت «القضية» من هناك.. لأصبح واحدة ضمن جالية فلسطينية كبيرة، تضمها «عاصمة عربية».

أكذب لو أدعى أننى عشت سوية نفسيا، صوت المدافع لايزال يحتل ذاكرتى، وصور المذابح تطاردنى ليل نهار. من قلب «بغداد» خرجت صرختى مدوية: «لا لكامب ديفيد».. كان الصراخ يزيح عن روحى المجهدة بعض آثار الحرق.. لكن ما أعتبرته «خيانة» آنذاك إكتشفت أنه الحل الوحيد فيما بعد، حتى أسرتى كلها إنضمت إلى «السلطة الفلسطينية».. لم أكن أدرك – ساعتها- أن العرب «ظاهرة صوتية».. وأن النضال «حالة حنجورية».. وأن فلسطين مزادا للريادة والقيادة بين عواصم الإستبداد!.

كنت أعيش حالة «رومانسية-سياسية»، أتعرف للمرة الأولى على دورى كإمرأة.. بين رجال يتبارون في القمار، ويقايضون الأوطان بأجساد العاهرات!.

قررت أن أنجب ربما تزيدنى «الأمومة» صلابة في الدفاع عن الوطن الغائب.. ومن بغداد إلى الكويت إلى عمان.. كنت أتنقل من منفى لمنفى.. أهاجر خلف لقمة العيش مع أسرتى، وأبى يلحق بنا كل مرة بزوجته الجديدة!. لم أشعر أكن بالغيرة من زوجة أبي، فلا وقت لمشاعر النساء!.

ولم أتمرد على الأب، الذي يستولى على أجرى.. كنت أصمت حين يهين ذكرى أمى ..كنت أشعر أن خسارتى أكبر من أب أنانى.. أو زوج لاه.. وكأننى في خيمة مهترئة بين الحدود العربية، يخترقها أي عابر سبيل.. وأنا أفتش عن الآمان الضائع بين حبات الرمال !!.

كان لابد أن أنهار حين رأيت زوجة أبي في فراش زوجى.. لكنى تحررت من سلطة الأب والزوج معا.. ما أشبه الأب بـ «السلطة».. والزوج بـ «المقاومة»!.

أكثر من نصف قرن «من القهر» ننتظر تحرير فلسطين لنترك «ثقافة المخيمات» ونعود بشر أسوياء، فلم يطل علينا إلا الأشباح.. وأنصاف الآلهة.. وكانهم فقدوا القدرة على الألم.. ينتظرون قصيدة عصماء لـ«زهرة المدائن».. ليرفعون أصواتهم المجروح بمرثية للقدس.

ومع الوقت إكتشفت أن «التاريخ» مجرد «خدعة» لتخدير الشعوب.. وتخليد البطولات الوهمية للحكام.. حتى آن الأوان لأبكي «خرافة» المقاومة.. تلك التي لم ترفع السلاح إلا على الأشقاء!.. وأعترف لنفسى: ( كل الأشقاء خانوك.. يا فلسطنى )!.

سلمونا «عزلا» لمحترفي السياسة، يحرضوننا صباحا برهان المقاومة.. ويودعونا مساء بوعود السلام.

تخيلى أن الأيام جعلتنى أعيش إجتياج الكويت، ثم أنتقل لبغداد لأعيش مرارة سقوط بغداد، تنقلت بين سوريا ولبنان وكأنى أجرب كل أشكال الإحتلال !.

رأيت المهانة والمذلة بكل الأشكال، تزوجت أكثر من مرة وأنجنبت مرتين، ورغم صدمات الزواج من «الأشقاء العرب» كنت أشتغل على نفسي، أتعلم كل يوم شيئا جديدا وأصر على أن يكون لى «مهنة» أتمرس فيها لأستغنى عن رجال العالم وأربى أبنائى في صمت.

حتى جئت إلى القاهرة، نحجت في الإستقرار وعملت أكثر من 15 عاما، وساعدت ولداى في الزواج وهما صغارا بالسن، إعتبرت أن هذا هو «الإنجاز» الذي يمكن أن أضيفه للحياة.. وكنت أسيردائما وبداخلى فراغ هائل يشل حركتى أحيانا، إخوتى مشردون بين العواصم العربية وأبنائى منذ بدأوا حياتهم الجامعية إستقلوا عنى.. وبشكل أو بآخر كنت ولازلت «الممول» الرئيسى لأسرتى!.

لا يوجد رجلا تزوجته إلا وكان طامعا في راتبى الهزيل وشبابى وصحتى وقوت أولادى.. وفى القاهرة كنت قد تحققت وأصبحت صاحبة مركزا مرموق وشقة فاخرة ورصيد بالبنك.. ولم أتصور أن «بنت المخيمات» لا تزال مطمعا للرجال وهى في منتصف العقد السادس من عمرها.. لكن هذا ما حدث.

تزوجت وطلقت في أقل من عام، وقررت أن أعيش لعملى وأولادى وأهلى في الأرض المحتلة فحسب.. وقبل ثلاثة أعوام خسرت عملى أيضا بسبب المنافسة الشديدة في مجالى وقله العمل.

أصبحت «وحيدة» خفت صوت النضال والكفاح، مضت سنوات الأمومة بحلوها ومرة، كل رجل تزوجته أخذ من قلبى قطعه ومن شبابى سنينا.. حتى الأصدقاء كانوا يتندرون على لترددى على «طبيب نفسي».. لم يعد في حياتى إلا المهدئات وليالى الخوف والظلام البارد.. حتى أحفادى لا أراهم كثيرا.

الآن لا يرن صوت الهاتف إلا إذا كان أحدهم يحتاج خدمة أو مالا ؟.. وكأننى دفعت وحدى ثمن «قضية الوطن».. وسددت من عمرى وأعصابى وصحتى ثمن إستقرار أهلى وأسرتى الصغيرة.. ولم يبق بين يدى إلا «الندم والحسرة» على العمر الذي ضاع وعل واقعى الخالى من أنفاس البشر.

أعلم يا سيدتى أننى مكتئبة كما هو الحال دائما فهل تساعدينى في حربى الجديدة على الإكتئاب ؟.

سلامة عقلك المستنير من الإكتئاب، أنت «محاربة» من طراز نادر لا تحتاج إلى «سند» بل بالعكس نقدم تجربتها في الحياة عبرة وعظة للآخرين علهم يتعلموا القضاء على مخاوفهم وبناء حياتهم.

عهدى بكل من ترك أرضه ووطنه أنه «جاد ومكافح ومثابر»، فالهجرة تجعل الإنسان يتشبث أكثر بذاته وبأسرته، يحدد هدفه جيدا ولا يتنازل عن تحقيقه.

لكن أحيانا ما يختلط الهم العام بالهم الخاص، فيأتى إلينا من البشر من نحلم بالإستقرار معه «بالزواج» لنجد أنفسنا في متاهة هجرة جديدة من أرضه!.

أعلم – يا صديقتى- أن الظروف تآمرت عليك، وسطر القدر لك حياة فيها من القهر والتجارب المؤلمة ما يحرك الجبال من مواقعها.. ورغم ذلك إستطعت أن تظلى «صامدة» وقادرة على مواصلة المشوار، كلما إنتقلت من مهجر إلى آخر أو من رجل إلى آخر.

وقد توجه الله كفاحك –كما أرى- بأبناء وأسرة كبيرة تعتبرك العمود الفقرى لها، وكان لابد أن تسثمرى فرصة وجود أولاد وأحفاد وتسعين إليهم.

شخصية قيادية –مثلك- قد يصعب على المقربين منها إقتحام عزلتها وفض وحدتها.. لابد أن تفتحى الباب بنفسك، أن تدعى الجميع إلى حياتك الجديدة فأنفاس الأحباء هي التي تشعرنا بالدفء.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل