المحتوى الرئيسى

الشيخ الشعراوي.. السادات..أسما شريف منير

11/30 17:59

تذكرت الحكمة الخالدة للشاعر، أمية أبن الموردي، " و نصف الناس أعداء لمن تولى الحكم هذا إن عدل بين الناس " و أنا أشاهد رئيس وزراء لبنان، سعد الحريري، وهو محمول على أعناق الثوار في وسط بيروت ، بعد أن ساعات قليلة من قيامه بتقديم إستقالته من رئاسة الحكومة . و المدهش في الأمر، أن الحريري حظي بإستقبال حافل من جانب المتظاهرين ، رغم أن الحريري وجهت له نفس الإتهامات التي وجهت لكل القادة السياسيين اللبنانيين بإفساد الحياة السياسية اللبنانية . و لم يستثني اللبنانيون سعد الحريري في أوج مظاهراتهم من مطلبهم الرئيسي بضرورة أن يعتزل الحريري الحياة السياسية مثل كل القادة السياسيين اللبنانيين بسبب تغليبهم للمصالح المذهبية و الطائفية على المصلحة الوطنية .

و سبب إستعادة ذاكرتي لحكمة إبن الموردي، الذي ولد سنة 1392 و توفى سنة 1449، في مدينة حلب ، يرجع إلى الجدل الدائر على وسائل التواصل الإجتماعي، بعد أن إتهمت المذيعة ، أسما ، إبنة الفنان شريف منير، الشيخ محمد متولى الشعراوي، بأنه كان يروج لإسلام متطرف، في معرض تفسيره للقرآن الكريم، خلافا لحقيقة الإسلام القائمة على الوسطية .

و سبب ربطي بين إستقبال الثوار اللبنانيين الرائع لسعد الحريري بعد تخليه عن السلطة ، و بين الجدل الدائر نتي إتهامات أسما شريف منير للشيخ الشعراوي بالتطرف ، يرجع إلى أن الشيخ الشعراوي، تعرض في السبعينات من القرن الماضي لنفس ما تعرض له سعد الحريري ، عندما تولي الشيخ الشعراوي المنصب الحكومي ، خلال حكم الزعيم الراحل ، أنور السادات ، ليتلقى الشعراوي الطعنات و الإتهامات من كل جانب، لدرجة أن البعض إتهمه بأنه فقد الهبة الإلهية التي منحها له الله في تفسير القرآن و ميزة القبول ، خلافا لما كان عليه قبل توليه المنصب الحكومي الرفيع . و الغريب في الأمر، أن من وجه سهام الإتهامات للشيخ الشعراوي بفقد موهبته الألهية في تفسير القرآن الكريم ، هم أنفسهم الذين عادوا ليرفعوه لمرتبة الإمام بعد أن ترك المنصب الحكومي .

و بإلقاء نظرة سريعة على مشهد سعد الحريري، و هو محمول على الأعناق عقب إستقالته ليبدو كما لو كان أحد زعماء الثوار، سيتبين لنا بوضوح، أن الشعب اللبناني، لم يكن يكره الحريري لشخصه ، رغم أنه كان متهم مثل كل القيادات السياسية اللبنانية بتشجيع الفساد، أو إغماض عينيه عن الفساد ، و لكن هذا المشهد يعكس مدى كراهية جانب كبير من أبناء الشعوب لمن يشغل منصب مهم في الدولة أو يجلس على كرسي الحكم ، في تأكيد لما قاله إبن الموردي منذ نحو 750 سنة ، أن الناس تتحول لأعداء لمن يتولى الحكم حتى لو عدل بين الناس .

و لكي أوضح سبب الربط بين وضع سعد الحريري، و وضع الشيخ الشراوي، ينبغي أولا أن أسرد القصة كما سمعتها بنفسي من فوزي عبد الحافظ ، الذي شغل منصب مدير مكتب ، الزعيم الراحل أنور السادات، في الفترة من 1970 إلى 1981 أي منذ أن تولى السادات السلطة خلفا للرئيس جمال عبد الناصر، و حتى إغتياله على يد الإرهاب ، يوم الإحتفال بنصر أكتوبر العظيم .

يقول عبد الحافظ ، الذي يرتبط بصلة قرابة مع والدتي رحمة الله عليها ، أن السادات إستدعاه في بداية سنة 1976 ، و قال له يا عبد الحافظ و هو بصدد متابعة الشيخ الشعراوي في البرنامج الديني نور على نور، ، " إيه رأيك في الشيخ الشعراوي ؟ و لم يعط السادات الفرصة لعبد الحافظ للإجابة ثم تابع قائلا " الراجل ده ممكن ينفعني جدا في المرحلة الهامة التي ستمر بها مصر خلال العامين القادمين" .

و يضيف عبد الحافظ " و عندما سألت السادات عما يمكن أن يقدمه الشيخ الشعراوي لمصر ، و هو رجل متخصص في تفسير القرآن الكريم، و لا دخل له بالسياسة ، و لا يتولى أي منصب حكومي أو وزاري، ....إجاب السادات و هو يواصل متابعة الشيخ الشعراوي بإهتمام بالغ "حتعرف يا عبد الحافظ لكن مش وقته دلوقت " .....و إسترسل السادات بعد تفكير قائلا " الراجل ده فعلا علامة في الدين ، و بيفسر القرآن الكريم ، بطريقة مختلفة عن الآخرين ينجذب إليها المستمع ، لكن مشكلته أنه بيتحدث دائما بطريقة تروق لنا كمسلمين، يعني يتحدث دائما عن تفوقنا دينيا عن الأمم الأخرى، دون شحذ همم الناس لنتفوق علميا ، لأن دور الواعظ ينبغي ألا ينحصر فقط في الجانب الديني ، لكنه مع ذلك واسع الأفق و قادر على مساعدتي في تقديم مصر مثلما أريد أن تكون دولة " العلم و الإيمان " .

ثم عاد السادات وطلب من عبد الحافظ تكليف الأجهزة بعمل تقرير دقيق و مفصل عن شخصية الشعراوي ....وبعد مرور شهرين وضع عبد الحافظ ملخص تقرير من مختلف أجهزة الدولة عن الشيخ الشعراوي أمام السادات حيث كان أهم ما جاء في هذا التقرير أن الشعراوي شيخ متمكن تماما من عمله ، و يحظى بشعبية هائلة ، و يتميز عن الآخرين بأنه لا يردد نفس الكلام الذي يردده المشايخ من مئات السنين . و برر التقرير تزايد شعبية الشيخ الشعراوي بأنه يفسر القرآن الكريم بطريقة تروق للسامعين ، لكن كل ما يتمناه في الحياة هو أن يتولي مشيخة الأزهر ...و هنا إعتدل السادات على مقعده و قال" و أنا عندي له منصب أهم من مشيخة الأزهر ، الراجل ده بإتساع أفقه ممكن يساعدني في إقامة دولة العلم و الإيمان، لكن ينبغي أن يقبل تطوير مظهره، بمعني إرتداء البدل و الكرافتات في بعض المناسبات ، لإعطاء صورة لامريكا و أوروبا أن مصر تمتلك مشايخ مطورين قادرين على تحديث الخطاب الديني ، مش زي ما بيقول اليساريين أني بدعم التيار الإسلامي لضرب التيار اليساري و الشيوعي " ....المهم أن الرئيس السادات إستدعى الشيخ الشعراوي و عرض عليه منصب وزير الأوقاف و أضاف له منصب شئون الأزهر في وزارة ممدوح سالم التي تشكلت سنة ١٩٧٦ ، فوافق الشيخ الشعراوي، ليحقق السادات بذلك للشعراوي أمنيته في قيادة الأزهر من خلال كرسي الوزارة ....و شعر السادات بأن الشيخ الشعراوي بدا في سعادة غامرة، رغم أنه كان حريصا على ألا ترتسم على ملامح وجهه ، أي علامات تعكس هذا القدر الكبير من هذه السعادة ...و يقول التاريخ ، أن الشيخ الشعراوي ظل محتفظا بمنصبه في الوزارة التي أعاد تشكيلها ، ممدوح سالم في ١٩٧٧. و تميز التشكيل الوزاري الجديد لممدوح سالم، الذي كان يشغل من قبل منصب وزير الداخلية ، بإعادة الأمن و الإستقرار للبلاد في أعقاب المظاهرات الحاشدة التي جرت في ١٨ و ١٩ يناير ١٩٧٧ إحتجاجا على رفع أسعار بعض السلع الأساسية .و في الوقت الذي وصف فيه المعارضون للسادات هذه المظاهرات بالإنتفاضة ، بادر الرئيس السادات بوصفها بإنتفاضة الحرامية حيث قام بعض المتظاهرين بعمليات نهب و سلب و تخريب لممتلكات الدولة و الأفراد . و ينبغي هنا أن نبرز الدور المهم الذي لعبه الشيخ الشعراوي في مطالبة الجماهير بالإلتزام بالهدوء و الحفاظ على البلاد و ممتلكات العباد ووصف ما حدث بالفتنة النائمة و لعن من أيقظها مطالبا بطاعة الحاكم .

و ينبغي الإشارة هنا ، إلى أن السادات كان يعاني من موقف في غاية الصعوبة ، فبقاء إسرائيل كدولة إحتلال في جانب كبير من سيناء ، رغم إنتصار أكتوبر ، كان يحتم عليه مواصلة تدعيم القوات المسلحة بأرقام أصبحت فلكية ، بالقياس بأسعار السلاح قبل حرب أكتوبر 1973 ، بعد أن قفزت أسعار البترول، من 3 دولار للبرميل إلى 40 دولار للبرميل . كما كان الجيش المصري في ذلك الوقت يلتهم جانبا مهما من ميزانية الدولة ، فلم تكن القوات المسلحة المصرية قد إمتلكت بعد إقتصاد خاص بها ، مثلما هو الوضع حاليا ، فكل رغيف خبز كان يأكله الجندي كان يستقطع منه جزء من رغيف الخبز الذي كان يتناوله المواطن العادي .

وعودة للشعراوي، سنجد أن الشيخ الجليل ، بدا مقتنعا برغبة السادات في تقديم مصر للخارج تحت شعار، " دولة العلم و الإيمان" في مواجهة الإنتقادات اللاذعة التي كانت موجهة للسادات ، بتمكين الإخوان و التيار الإسلامي ، لضرب الشيوعيين و اليساريين لدرجة أنه قبل برغبة السادات في إرتداء البدلة و الكرافتة للمرة الأولى عندما ذهب للعلاج في لندن .

و رغم أن الشعراوي، برر بعد تركه المنصب الوزاري، قبوله إرتداء الملابس الأوروبية ، بأنه كان مجبرا ، لأن الأجواء الباردة في أوروبا ، تتطلب مثل هذه الملابس التي لا توفرها الملابس العربية ، التي صممت وفقا لتبريراته للبلاد الحارة ، غير أن البعض لا يزال يحتفظ بصور للشيخ الشعراوي، بالبدلة و الكرفتة، في مناسبة أو مناسبتين في القاهرة .

أما ذروة مساندة الشيخ الشعراوي للسادات ، فكانت خلال زيارة السادات للقدس في 11 نوفمبر 1977 ، فعلى الرغم من أن الشيخ الشعراوي لم يعلن تأييده للزيارة إلا أنه لم يندد بها ، و لذلك إعتبره الكثيرون بأنه من مؤيدي التقارب مع إسرائيل ، لمجرد إحتفاظه بمنصبه الوزاري، في وقت إستقال فيه كلا من ،إسماعيل فهمي وزير الخارجية، و محمود رياض ، وزير الدولة للشئون الخارجية ، إحتجاجا على الزيارة التاريخية للسادات . و لم يشفع مع ذلك للشيخ الشعراوي مواصلة هجومه الحاد على اليهود في معرض تفسيره للقرآن الكريم ، و الحاح إسرائيل الدائم على السادات بضرورة توقف الشعراوي عن هذا الهجوم القاسي .

وكان من نتيجة إحتفاظ الشيخ الشعراوي بمنصبه الوزاري المهيب، بعد زيارة السادات للقدس ، تصاعد الهجوم عليه من جانب أعداء السادات إلى حد إتهامه بالتورط في الفساد، بإغماض عينيه عما يجري داخل المجلس الأعلى للشئون الإسلامية .

و الجميع لا يزال يتذكر المعركة الكبيرة التي جرت تحت قبة البرلمان ، بين الوزير الشيخ الشعراوي، و بين الشيخ عاشور محمد نصر، عضو البرلمان عن حزب الوفد ، في خضم الإستجواب الشهير الذي قدمه النائب، عادل عيد ، ( مستقل ) عن تفشي الفساد داخل المجلس الأعلى للشئون الإسلامية الخاضع لسلطة الشعراوي . و إتهم النائب عادل عيد، الشيخ الشعراوي بالتهاون في إستخدام حقوقه و أدواته لمواجهة الفساد المستشري في هذا المجلس الإسلامي . و كان المستقلون و حزب الوفد يلعبان في هذا التوقيت دورا مهما في معارضة الحزب الوطني الديمقراطي، حزب الأغلبية المؤيد للرئيس السادات ، داخل مجلس الشعب ، الذي كان يترأسه آنذاك سيد مرعي، نسيب الرئيس السادات . وإنتاب الشيخ الشعراوي غضب شديد عقب هذه الإتهامات و إعتبر أنها تستهدف في الأساس الرئيس السادات ليقول مقولته الشهيرة " و الذي نفسي بيده ، لو كان لي في الأمر شيء لحكمت للرجل الذي رفعنا تلك الرفعة ، و إنتشلنا إلى القمة ، ألا يسأل عما يفعل " فأثارت كلمته ضجة في البرلمان فصفقت له الأغلبية إلا أن الشيخ عاشور، نائب حزب الوفد ، صاح في وجه الشيخ الشعراوي قائلا " إتق الله يارجل , إتق الله ، لا يوجد أحد فوق المساءلة، يجب أن تراعى الله في كلامك " وكانت هذه هي المرة الأولى التي يسمع فيها المصريون أحدا يطالب الشيخ الشعراوي بإتقاء الله ..فغضب الشيخ الوزير الشعراوي غضبا شديدا، و رد عليه بحدة موجها حديثه للشيخ عاشور، و علامات الغضب ترتسم على ملامح وجهه " إجلس ، إجلس أنا أعرف الله أكثر منك و خيرا عنك " .

و كانت هذه المعركة تحت قبة البرلمان ، نقطة مهمة في الهجوم الكاسح الذي تعرض له الشيخ الشعراوي من معارضي الرئيس السادات، لدرجة وصلت إلى حد السخرية بتشبيهه بالممثل حسن البارودي ، الذي جسد دور الشيخ الذي كان يستغل كلام الله في إضفاء الصبغة الشرعية على جرائم العمدة ، صلاح منصور، في فيلم "الزوجة الثانية" عندما شارك في إجبار الزوج ، شكري سرحان على تطليق زوجته ، سعاد حسني، بإستخدام الآية الكريمة " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم" .

و قد حاول الشيخ الشعراوي ، تبرير قبوله الإستمرار في الوزارة ، بعد زيارة السادات للقدس، بأن السادات كان يرفض إستقالته ، رغم إلحاحه الدائم عليها ، و كان يطالبه بالبقاء لفترة ، حتى تم التغيير الوزاري الذي أتى بوزارة جديدة برئاسة، كمال حسن علي، وزير الخارجية و الدفاع الأسبق في أكتوبر 1978 ، أي بعد مرور 11 شهرا على زيارة السادات للقدس .

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل