«آخيل جريحا.. إرث جمال عبدالناصر».. الحلقة الثانية

«آخيل جريحا.. إرث جمال عبدالناصر».. الحلقة الثانية

منذ 4 سنوات

«آخيل جريحا.. إرث جمال عبدالناصر».. الحلقة الثانية

من أين جاء الضباط الأحرار.. ولماذا كان الصدام مع الإخوان محتمًا؟\nرغم مثالب معاهدة (١٩٣٦) فإنها أفضت إلى دخول جيل جديد من أبناء الطبقة الوسطى والمزارعين وصغار الموظفين الكلية الحربية كان من بينهم جمال عبدالناصر ورفاقه\nبتوصيف الأستاذ «هيكل» لطبيعة العلاقة التى جمعت قائد «يوليو» مع الجماعة فإنها «كانت فوق السطح ولم تصل عميقًا»\nحسب الشهادات المنشورة لـ«الضباط الأحرار».. فإن غالبيتهم أدخلوا التنظيم عبر جمال عبدالناصر الذى أحكم قبضته على كل الخيوط\nلم تكن لدى «عبدالناصر» ورفاقه خطة للإمساك بالسلطة.. لكنها سقطت كاملة بسهولة لم يتوقعوها\nارتفعت نداءات التحرر الوطنى وحق تقرير المصير والعدل الاجتماعى فى أرجاء العالم.. وكان ذلك ملهمًا للحركة الوطنية المصرية للبحث عن طريق جديد وتبنى أفكار جديدة\nلم يكن «الضباط الأحرار» من قماشة سياسية واحدة، فقد جاءوا من مشارب فكرية واجتماعية مختلفة.\nبالتكوين السياسى تباينت الانتماءات بين ثلاثة توجهات رئيسية:\nمستقلون لا علاقة لهم بأى حزب أو تنظيم، ولا تعرف عنهم أية انتماءات فكرية أو تنظيمية باستثناء التوجه الوطنى العام والغضب على مستويات الأداء السياسى والعسكرى وفساد النخب الحاكمة، ويساريون منتمون إلى «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى ــ حدتو»، وأعضاء بجماعة «الإخوان المسلمين»، أو لهم اتصالات بها، أو مروا عليها.\nما موقع «عبدالناصر» من الجماعة قبل (٢٣) «يوليو» والصدام معها؟\nحسب شهادة لـ«خالد محيى الدين» سجلها «أحمد حمروش» فى كتابه «شهود يوليو»، فقد انضم إلى الجهاز الخاص برئاسة «عبدالرحمن السندى» مع «جمال عبدالناصر» و«كمال الدين حسين».\nغير أن شهادة «كمال الدين حسين»، التى ضمها الكتاب نفسه، لم تُشر للجهاز الخاص أو «السندى»، وأكدت انضمامه للجماعة مع «جمال عبدالناصر» و«عبدالمنعم عبدالرءوف»، دون أن تذكر اسم «خالد محيى الدين».\nذلك التضارب فى المعلومات الأساسية «من انضم مع من؟» ألقى ظلالًا كثيفة على الحقيقة.\nفى شهادة لـ«فريد عبدالخالق»، أحد مؤسسى الجماعة وسكرتير مرشدها الأول «حسن البنا»، فإن «عبدالناصر» درب متطوعيها على محاربة الاحتلال دون أن يؤكد عضويته العاملة.\nفى شهادة للباحث الإسلامى الراحل «حسام تمام»، فقد ربطت صداقة وثيقة «عبدالناصر» و«حسن العشماوى» عضو مكتب الإرشاد.\nعندما عاد الأخير إلى مصر فى سبعينيات القرن الماضى بصفقة بين الجماعة والرئيس الجديد «أنور السادات» سمع نجله متأثرًا بكراهية «عبدالناصر» يشتمه بأقذع الألفاظ فصفعه قائلًا: «لا تشتم عمك مرة أخرى».\nفى ظلال القصة شيء إنسانى عميق بين رجلين تصادمت خياراتهما وافترقت طرقهما، وفيما يبدو أن «عبدالناصر» لحظة الصدام لعب دورًا غير معلن فى حماية صديقه القديم.\nليس بوسع أحد أن يجرد البشر من مشاعرهم الإنسانية، حتى فى لحظات الصدام المروع.\nغير أن ذلك لا يجيب عن السؤال اللغز: إلى أى حد ارتبط «عبدالناصر» بالجماعة؟\nبشهادة لـ«سامى شرف» ــ مدير مكتب «جمال عبدالناصر» ــ تعبيرًا عن اعتقاد كل من اقترب من رجل «يوليو» فى مرحلة مبكرة من تجربته، فإنه لم يكن إخوانيًا ولو للحظة واحدة، وإن كان قد اقترب من بعض قيادات الجماعة.\nفى شهادة غير منشورة، حصلت على مسودتها، يؤكد اللواء «عبدالرحمن فريد»، مدير المباحث الجنائية العسكرية فى أيام الثورة الأولى، الذى ضم المشير فيما بعد «عبدالحليم أبو غزالة» إلى عضوية تنظيم «الضباط الأحرار»، أن «عبدالناصر» «لم يكن شيوعيًا ولا إخوانيًا».\nويروى أن الجماعة حاولت مبكرًا الانقلاب العسكرى على نظام «يوليو»، لكنها أحبطت وجرى القبض على «عبدالمنعم عبدالرءوف» وآخرين.\n«هرّبه عبدالناصر، لأنه لا يستطيع أن ينسى دوره فى دعم الثورة».\nبشهادة لـ«محمد حسنين هيكل»، الذى تسنى له استقصاء الإجابة من عبدالناصر نفسه، فقد اقترب إلى حدود بعيدة من الجماعة فى فترة من عمره، ولكن فى إطار العمل الفدائى.. واقترب أكثر من «عبدالمنعم عبدالرءوف»، وهو من قادة الجهاز السرى.\nفى هذه المرحلة رأى «السندى» وبعض الذين كانوا فى الجهاز الخاص.\nبتوصيف الأستاذ «هيكل» لطبيعة العلاقة التى جمعت قائد «يوليو» مع الجماعة فإنها «كانت فوق السطح ولم تصل عميقًا» ـ كما ورد فى كتاب «عبدالناصر والمثقفون» لـ«يوسف القعيد».\nبخط يد الضابط الشاب فى حرب فلسطين «جمال عبدالناصر» كانت أولى يومياته على دفتر شخصى غامضة وشفرتها يصعب فكها.\nوقد كانت تلك اليوميات الخطية أقرب إلى مرآة لشخصية الرجل الذى سوف يقدر له بعد أربع سنوات أن يحكم مصر ويغير معادلات الإقليم، وقد احتفظ بها «محمد حسنين هيكل» لنحو خمسة وخمسين سنة قبل أن أحصل منه على نسخة كاملة نشرتها عام (2009).\nفى اليومية الأولى سجل أنه عرف فور وصوله إلى غزة أن «محمود بك لبيب» موجود فى معسكر المتطوعين.\nذهب إلى المعسكر ليلتقيه، لم يجده، وفى الطريق قابله مع الشيخ «محمد فرغلى»، حيث اتفقوا أن يصلوا الجمعة سويًا باليوم التالى (٤) يونيو (1948).\nرغم غموض طبيعة العلاقة، التى لم يُشر إليها من قريب أو بعيد، لا بالتصريح ولا بالإيحاء، فإن القصة المقتضبة بكلماتها وحروفها تكتسب قيمتها التاريخية من أن الرجلين من أبرز قيادات جماعة «الإخوان المسلمين».\nالأول ـ أبرز قادتها العسكريين وأكثرهم نفوذًا وتأثيرًا داخل الجماعة.\nوالثانى ـ عضو مكتب الإرشاد وخازن سلاحها.\nقبل الموعد المتفق عليه للحديث ـ ربما ـ عن أحوال المتطوعين وأوضاع القتال جرى تكليف «عبدالناصر» بمهمة استكشاف فى «دير سنيد» و«المجدل» و«أسدود»، حيث قابل فى المحطة الأخيرة «عبدالحكيم عامر».\nحتى نهاية اليوميات مطلع (١٩٤٩) لم يأتِ على ذكر «محمود لبيب» والشيخ «فرغلى».\nيسهل استنتاج أن هناك صلة سابقة مع الضابط المتقاعد «محمود لبيب»، وبدرجة أقل مع الشيخ «محمد فرغلى».\n«لبيب» مات قبل ثورة يوليو.. و«فرغلى» من الذين ناهضوا التعاون مع «يوليو»، أو حل الجهاز الخاص، واتهم بالضلوع فى محاولة اغتيال «عبدالناصر» عام (١٩٥٤) وحكم عليه بالإعدام.\nوبشهادة لـ«عبدالناصر» مسجلة بصوته فى المؤتمر الوطنى للقوى الشعبية مطلع ستينيات القرن الماضى: «.. انضممت إلى حزب مصر الفتاة لم أسترح فتركته، وانضممت إلى الوفد وكنت من أكثر الناس اتصالًا به، وأيضًا لم أسترح فاتصلت بالإخوان المسلمين، وكذلك لم أطمئن واتصلت بالشيوعيين واتصلت بكل الهيئات العاملة فى هذا البلد، كما اتصلت بالأحرار الدستوريين والسعديين. كنت أبحث عن الحقيقة كشاب يريد أن يكافح من أجل بلده، ولكننى كنت تائهًا وكنت أعتقد أنه يمكن أن تكون هناك فائدة، وأخيرًا لم أجد أن هناك أية فائدة».\nبصوته، وهو فى موقع السلطة، اعترف بأنه كان شابًا تائهًا يبحث عن طريق.\nهناك فارق جوهرى بين الحيرة والالتزام، بين ما داخل فكره وتكوينه من تأثير بالاتصال بقوى وتيارات متباينة بحثًا عن طريق والانخراط فى عضويتها اقتناعًا بأفكارها.\nالخلط تعسف مع التاريخ والحقيقة.\nوهناك فارق جوهرى آخر بين دواعى الاتفاق فى لحظة وأسباب الصدام فى لحظة أخرى.\nاختلفت المناهج فى النظر إلى مستقبل مصر، وكان الصدام محتما.\nكانت محاولة اغتيال «جمال عبدالناصر» فى ميدان المنشية بالإسكندرية نقطة الذروة فى الصدام، لكن أساسه فى الأفكار والمناهج وتصور الجماعة أن بوسعها السيطرة على مجموعة الضباط الشبان واختطاف السلطة فى بواكيرها.\nتنوع التوجهات الرئيسية بين «الضباط الأحرار» جعل التنظيم أقرب إلى جبهة لها أهداف مؤقتة وصراعاتها مؤجلة إلى حين.\nبالنظر إلى طبيعة المرحلة وأولوياتها، تبدت درجة عالية من السيولة بين التيارات، رغم تناقض الأفكار.\nما بين التناقضات السائلة ظهرت توجهات رابعة وخامسة وسادسة أقل أهمية فى البنية الفكرية والسياسية لـ«الضباط الأحرار» ـ كأن يميل بعضهم بحكم الأصول العائلية إلى حزب «الوفد»، أو يحافظ آخرون على شيء من الولاء السياسى والنفسى لـ«مصر الفتاة»، أو أن يندفع مغامرون ـ مثل «أنور السادات» ـ بالتورط فى اغتيالات ومحاولات اغتيالات نفذها «الحرس الحديدى»، الذى كان يقوده طبيب الملك الخاص «يوسف رشاد».\nكان تأسيس «الضباط الأحرار» تعبيرًا عن أحوال غضب فى الجيش، نشأت خلايا متفرقة تحت قيادات متعددة، لكل ضابط حر رواية تختلف عن الآخر بقدر ما رأى وعرف وشارك.\nحسب الشهادات المنشورة لـ«الضباط الأحرار»، فإن غالبيتهم أدخلوا التنظيم عبر «جمال عبدالناصر»، الذى أحكم قبضته على كل الخيوط.\nتجلت مواهبه التنظيمية فى جمع أشلاء الخلايا المبعثرة داخل الجيش ودمج تناقضاتها السائلة داخل تنظيم سرى محكم له أهداف عامة عُرفت بـ«المبادئ الستة».\nحافظ على صلاته العامة مع جماعات سياسية متناقضة ووظفها لمقتضى أهدافه دون أن يسمح بالتداخل التنظيمى.\nلم تكن لدى «عبدالناصر» ورفاقه خطة للإمساك بالسلطة، لكنها سقطت كاملة بسهولة لم يتوقعوها.\nانهار النظام الملكى من داخله على دفعات وليس مرة واحدة، حتى بدا بنيانه كجدار متهالك ينتظر من يزيح ركامه.\nكان «مصطفى النحاس» زعيمًا وطنيًا حاز شعبية كبيرة تعرضت للتآكل الفادح بعد توقيعه معاهدة (١٩٣٦) مع سلطات الاحتلال، التى أفضت ـ رغم مثالبها ـ إلى دخول جيل جديد من أبناء الطبقة الوسطى والمزارعين وصغار الموظفين الكلية الحربية، من بينهم «جمال عبدالناصر» ورفاقه.\nفى اللحظة، التى ألغى فيها «النحاس» المعاهدة بأكتوبر (١٩٥١) «باسم الشعب» انتهت صفحة كاملة من التاريخ المصرى قبل أن تتحرك دبابة واحدة صبيحة (٢٣) يوليو.\nبتوصيف شيخ المؤرخين المعاصرين الدكتور «يونان لبيب رزق»، فإن إلغاء المعاهدة «أخرج المارد من القمقم، الذى أجهز على ما بقى من النظام القديم، ولم يكن بوسع أحد أن يُعيده حتى الوفد نفسه».\nانفسح المجال واسعًا أمام القوى الوطنية الشابة لحمل السلاح فى منطقة قناة السويس، وكان الضباط الأحرار فى قلب المشهد التاريخى.\nساعدوا بقدر ما استطاعوا على تدريب الفدائيين، وشاركوا بأنفسهم بقدر ما هو متاح فى قتال قوات الاحتلال واستهداف معسكراتها.\nتسجل مذكرات «كمال رفعت»، أحد أبرز وجوه «يوليو»، تجربة الفدائيين ودور «الضباط الأحرار» تنظيمًا وتدريبًا وتسليحًا.\nكان ذلك تطورًا جوهريًا فى النظرة العامة داخل جيل الأربعينيات للقضية الوطنية، بعد أن بدا اليأس كاملًا من أى جلاء لقوات الاحتلال بالتفاوض.\nتجاوزت العمليات الفدائية أية أعمال فردية سابقة شهدتها شوارع القاهرة من مهاجمة أفراد قوات الاحتلال، والاستيلاء على ما لديهم من أسلحة وذخائر.\nحسب شهادة «كمال رفعت»: «شاركت فى عمليات الفدائيين بمنطقة القناة بعد إلغاء المعاهدة، وكان ذلك بمعرفة رئاسة التنظيم» ـ قاصدًا «جمال عبدالناصر»، الذى ربطته به علاقة وثيقة منذ مطلع شبابه حتى النهاية.\n«دربنا طلبة متطوعين بمنطقة طريق القاهرة ــ الفيوم، وتولينا قيادة بعض العمليات فى الاسماعيلية والقصاصين والتل الكبير ضد المعسكرات البريطانية.. وكانت رئاسة التنظيم تمدنا بما نحتاجه من سلاح وذخيرة».\n«بعد حريق القاهرة قُبض على أفراد التنظيم الفدائى وصودرت أسلحته».\nتوقفت العمليات الفدائية بسبب تلك الاعتقالات، لكن بعد شهور قليلة كان الرد مدويًا بما جرى يوم (٢٣) يوليو».\nشاركت فى العمل الفدائى جماعات متباينة، من بينها «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى ـ حدتو»، أكبر تنظيمات الحركة الشيوعية، و«الإخوان المسلمين»، و«مصر الفتاة»، وحزب «الوفد» نفسه، وانتدب شبان غاضبون أنفسهم للتضحية بحياتهم بوازع وطنيتهم.\nباستثناء أعمال شحيحة وشهادات متناثرة لم تكتب قصة هذا الجيل كما تستحق، ولا سجلت تجربة الفدائيين كما يجب.\nكان عام (١٩٥١) مشحونًا بإشارات النهاية.\nكتب «إحسان عبدالقدوس» فى «روزاليوسف» ـ (٨) مايو ـ مقالًا عنوانه «دولة الفشل».\nجاء فيه بالحرف الواحد: «إننا فى مصر نؤمن بالفشل ونعبد الفاشلين.. الفشل فى كل مكان.. وأمام كل خطوة ووراء كل زعيم، وفى حنايا كل ملف وفى ظلام كل درج وفى طيات كل صوت.. والفاشلون هم الذين يحكمون مصر، وهم الذين يسوقونها من فشل إلى فشل ثم إلى فشل جديد».\nأخطر ما فى هذا المقال ما كتبه عن وزير الحربية، فهو «فاشل.. فشل حتى فى الاحتفاظ باختصاصه وترك الجيش يخرج من بين يدى الحكومة والشعب، ليكون هيئة كهنوتية لها أسرارها، ولها سلطانها، ولها استقلالها، ولها قائد فاشل».\nكان ذلك تلميحًا إلى أن هناك شيئًا قد يحدث من داخل الجيش لإنهاء دولة الفشل.\nوقد كان حريق القاهرة فى (٢٦) يناير (١٩٥٢) إنذارًا أخيرًا بما هو آتٍ.\nفى اليوم السابق تصدى ضباط وجنود الشرطة فى الاسماعيلية بأسلحة بدائية لقوات الاحتلال البريطانية رافضين تسليم مواقعهم.\nأفضت الواقعة بما حملته من استهانة بريطانية وما عبّرت عنه من شجاعة مقاومة إلى إضراب عام فى العاصمة لـ«بلوكات النظام».\nتداعت الأحداث بعده إلى حرائق فى قلبها.\nأفلت النظام العام وسادت الفوضى وعمليات النهب والتخريب.\nفرضت الطوارئ ونزل الجيش ـ لأول مرة فى التاريخ المصرى الحديث ـ لاستعادة السيطرة وفرض الهدوء على المدينة المروعة.\nحتى الآن لا توجد إجابة لها صفة الفصل على سؤال: من حرق القاهرة؟\nالأقرب إلى الحقيقة أن مخزون الغضب وجد انفجاره فى إضراب «بلوكات النظام» ـ كأنه عود ثقاب ألقى على أرض مشبعة بالوقود.\nبقدر تعدد الإجابات تتبدى حقيقة رئيسية أن النظام الملكى لم يعد قادرًا على البقاء، ولا مقنعًا بقدرته على تلبية احتياجات المصريين فى عصور جديدة.\nأثر حريق القاهرة شاعت فى الأجواء العامة قصيدتان.\nأولاهما ـ للشاعر «اسماعيل الحبروك»:\n«سأنام حتى لا أرى.. وطنى يُباع ويُشترى\nسأنام عن عهد القتال.. حلم تحقق فى القنال\nأضحى الجهاد جريمة.. فلتسجدوا للاحتلال!!»\nوثانيتهما ـ للشاعر «مأمون الشناوى» دعا فيها الجيش بلا مواربة إلى إطاحة النظام الملكى:\n«أنت إن تنصره ـ يا حارس ـ كنت المندحر\nأنت إن تخذله ـ يا حارس ـ كنت المنتصر!»\n«أترى يبقى طويلًا جالسًا فوق الرماح\nلن يطول الليل.. بل لا بد أن يأتى الصباح»\nوكانت ذروة دعوته لتدخل الجيش:\n«غضبة من عزمك الجبار تمحو كل باطل».\nفى نفس توقيت تلك القصيدة التحريضية على قلب النظام الملكى فكر «الضباط الأحرار» باستغلال نزول الجيش إلى الشوارع للقيام بانقلاب عسكرى، لكن «عبدالناصر» مال إلى كسب بعض الوقت، حتى يستكمل مثل هذا العمل فرص نجاحه.\nلم تكن إطاحة النظام الملكى حدثًا مفاجئًا قفز من خارج سياق الحوادث، أو بعمل سرى محض جرى فى الظلام.\nكان كل شيء فوق المسرح السياسى يُنذر بنهاية قريبة لم يكن بمقدور أحد أن يتكهن طبيعتها وصورتها وما بعدها.\nفى هذه الأحوال المضطربة علا طلب التغيير بأثر من تطورين جوهريين:\nأولهما ـ تداعيات ما بعد الهزيمة العسكرية فى حرب فلسطين، التى أفضت إلى مراجعات غاضبة لمستويات الكفاءة العسكرية وأهلية الملك «فاروق» للحكم، وتساؤلات حادة عن مدى مسئولية الفساد المتفشى حوله فى الهزيمة، ونشوء دولة معادية على الحدود تهدف ـ فيما تهدف ـ إلى عزل مصر عن محيطها العربى.\nوثانيهما ـ حقائق ما بعد الحرب العالمية الثانية، فقد اختلفت موازين القوى الدولية، وبدا العالم كله فى حالة سيولة، انتظارًا لنظام عالمى جديد.\nارتفعت نداءات التحرر الوطنى وحق تقرير المصير والعدل الاجتماعى فى أرجاء العالم، وكان ذلك ملهمًا للحركة الوطنية المصرية، للبحث عن طريق جديد وتبنى أفكار جديدة.\nكان «الضباط الأحرار» جزءًا من طاقة الغضب على كل ما هو تقليدى متهالك وموروث سقيم من أفكار وسياسات ومواقف.\nخرجت «يوليو» من داخل الحركة الوطنية الشابة بأفكارها وأحلامها وإحباطاتها، والروح الراديكالية التى سادتها فى طلب الجلاء والتغيير ــ من داخل السياق لا من خارجه.\nكان نجاح الحركة فى صبيحة (٢٣) يوليو ملغمًا باحتمال تدخل القوات البريطانية، التى تبلغ (١٢٠) ألف جندى فى معسكرات قناة السويس لإجهاضها.\nبدا كل احتمال مرتهنًا بمدى الدعم الشعبى الذى تحوزه الحركة.\nإذا ما كان قويًا فإنه قوة ردع لأى احتمال تدخل.\nبحكم الوثائق البريطانية فإن الملك «فاروق» طلب التدخل العسكرى لإجهاض التمرد عليه على نحو ما فعله عمه الخديو «توفيق» عام (١٨٨٢)، لكنه لم يتلق إجابة.\nبدا «فاروق» مذعورًا ـ وفق برقية للسفير الأمريكى «جيفرسون كافرى»، الذى أخذ يهدئه دون جدوى.\nلم تكن هناك أية معلومات لها قيمة عن توجهات الحركة، ولا من يمسكون بزمام الموقف فتبدت تناقضات فى الاستنتاجات والتصرفات.\nبقوة الوثائق الدامغة فإن أى حديث عن صلة ما ربطت «الضباط الأحرار» بالاستخبارات الأمريكية محض كلام فارغ.\nجرت اتصالات لضبط ردات فعل البريطانيين، ولم يكن الأمريكيون فى وضع يسمح لهم بتقدير موقف على قاعدة معلومات واضحة.\nكان تغيير الوزارات بعد حريق القاهرة فى (٢٦) يناير (١٩٥٢) حدثًا متوقعًا كل لحظة.\nشهدت تلك الفترة إقالة وزارة «الوفد» برئاسة «مصطفى النحاس»، وتولى «على ماهر» مقاليدها، ثم جاء الملك بـ«نجيب الهلالى» بعد شهر واحد قبل أن يقيله هو الآخر فى ظروف مريبة بصفقة مالية بلغت مليون جنيه، دفعها «أحمد عبود» وسجلتها برقيات السفارة البريطانية، ثم كلف «حسين سرى» بحكومة رابعة قبل أن يعود لـ«الهلالى»، لكن حكومته لم تتمكن من الاجتماع، فقد أطاحت «يوليو» باللعبة كلها.\nجرى ذلك كله فى أقل من سبعة أشهر.\nهكذا دخلت «يوليو» مسرح التاريخ بكل تناقضاته وصراعاته، أغلقت صفحة وبدأت أخرى.

الخبر من المصدر