من الصعاب تولد القوة (2-3)

من الصعاب تولد القوة (2-3)

منذ 6 سنوات

من الصعاب تولد القوة (2-3)

والدكتور الحفنى واحد من أعلام أساتذة الموسيقى المحدثين فى الشرق، فهو أول عربى حصل على الدكتوراه فى الموسيقى، وكان قد تخرج فى جامعة برلين سنة 1930، وسجله فى المناصب الموسيقية حافل، فقد تولى عمادة المعهد العالى للموسيقى المسرحية، وعمل لسنين مديراً للمعهد العالى للباليه، ومستشاراً للإذاعة المصرية، وخبيراً فى الشئون الموسيقية بجامعة الدول العربية، وحضر عشرات المؤتمرات الموسيقية العالمية، وأصدر ثلاث مجلات موسيقية، وله نحو أربعين مصنفاً فى صنوف الموسيقى وفنونها، وكان من حظّى أن قرأت له منذ نصف قرن فى سلسلة أعلام العرب التى كانت تباع فى ستينات القرن الماضى بخمسة قروش، كتابين إضافيين عن اثنين من الموسيقيين الأفذاذ، فنان الشعب سيد درويش (العدد 17)، وإسحق الموصلى الموسيقار النديم (العدد 34).\nقد يستطيع الفنان بما وهبه الله من عبقرية فذّة ومواهب نادرة، أن يتخطى العقبات مهما كانت الصعاب والآلام، وقد تستطيع الحواس أن تعوض ما تفقده بعضها بالتدريب، ولكن رزء الرسام بمحنة فقد البصر، ورزء الموسيقى بمحنة الصمم، يمثلان عائقاً يوازى الاستحالة، فهل يستطيع الموسيقار حين يفقد السمع ويصير سجين صممه التام أن يبدع موسيقى تشجى العالم برغم أنه لا يستطيع سماع أو الاستمتاع بنغمة واحدة مما يبدعه خياله فى دنيا الفن والموسيقى؟!\nهذا ما تجيب عنه حياة، أو محنة، فنانين بائسين تربعا على القمة الشامخة بين أعلام الموسيقى، نالتهما محنة الصمم المريرة: الموسيقار إميل لودفيج فان بيتهوفن عاهل الموسيقى الأكبر وعبقريها الخالد، والموسيقار فردريك سميتانا رائد الموسيقى القومية فيما كان يعرف بتشيكوسلوفاكيا قبل تقطيع أوصالها!!\nحول حياة هذين العبقريين الفذين، أدار الأستاذ محمود أحمد الحفنى كتابه الرائع.\nأول العبقريين، العاهل الكبير بيتهوفن، وهو فى كلمات، فنان عالمى خالد، ومعجز، ضرب فى الأعماق، وحلق فى الآفاق، جرت عليه الأقدار بأحكامها المتباينة، فكان مجموعة من الأضداد، بين المحاسن والمآخذ، على أن المآخذ التى قد تبدو نابية عن التقاليد والعرف، كانت تحفز شخصيته على التحدى وابتكار عناصر مجده وصحائف تخليده.\nاستقبله الفقر الشديد فى مهده، وشيعه الصمم إلى لحده، وهو فى رحلته بينهما قد انتقل من قسوة الوالد، وعجز الأم، والتعذيب فى سنوات التربية، إلى استغلال أب يعبث بطفولة ولده وصباه، إلى غربة معوزة، إلى إنتاج يسمو إلى عليين فيجلب له الحسد والضغن بدلاً من التقدير، إلى محن ظلت تتلاحق وتشكل ركاماً فى حياته كان كفيلاً بدفن كل ما لديه من فن وعبقرية.\nما كان أيسر عليه أن يستجيب إلى الدنية، وثمرتها قريبة سهلة، لو هبط بفنه من قممه العليا إلى سفوح السواد والدهماء، ولأمن بذلك الخوف والمعاناة، وأصاب الثراء. إلّا أنه ارتضى الصعب، وعانى الجوع، ولم يزده ما يلقاه إلّا مزيداً من الإصرار والإبداع.\nأنطق الموسيقى وهى صامتة، وألّف من حروفها لغةً تتحدث وتصف وتقص وتعبِّر وتوضح وتفسر، وتنقل إلينا صور الطبيعة، وما يموج فى معترك الحياة من حروب وأحداث وهزائم وانتصارات، كان مؤلفاً موسيقياً مثالياً، عاصر المذهب «الكلاسيكى»، ثم ارتقى به إلى قمة التأليف العاطفى، فاستمد منه المذهب «الرومانتيكى» بدايته ومنهاجه.\nوالعبقرى الثانى سميتانا، وهو فى كلمات، عبقرية سيرتها عبرة مؤثرة، تضمنت صورة إنسانية رفيعة لصبر العباقرة الأفذاذ وتحملهم فى سبيل تأدية رسالتهم.\nكان جملة من المواهب، وإن شئت قلت عديداً من العبقريات لا عبقرية واحدة، مركزة كلها فى بنية ضعيفة، تحالفت عليها الآلام والأحداث، ولكنها أخرجت منه موسيقياً فيَّاضاً سكب ألحانه على الورق أدباً قومياً رفيعاً، وغناءً وموسيقى تؤديها الأصوات والمعازف، وشفّت رسائله المكتوبة عن أدب رفيع حمل تفاصيل حياته وأعماله الفنية وما تعرضت له من نجاح وإخفاق.\nكان هذا الفنان عبقرياً فذاً فى الخلق والبناء، وإبراز الصورة الفنية لموسيقى بلاده التى لم تكن موسيقاها قبله قد تكاملت معالم شخصيتها البارزة، فرفع بموسيقاه القومية مشاعل الضوء، وعبر عن القومية التشيكية وأمانيها بلغة الموسيقى التى أبدعها.\nوكان يدين فى مذهبه الفنى «بالرومانتيكية» التى عمّ انتشارها فى أوروبا فى أوائل القرن التاسع عشر، فى الوقت الذى كانت الأرستقراطية الموسيقية قد أخذت فى الانكماش، وغادر المؤلفون الموسيقيون قصور النبلاء والأثرياء إلى الدور العامة للشعب كدور الأوبرا وقاعات الموسيقى.\nاندفع سميتانا فى المذهب الرومانتيكى، وخرج فى الموسيقى بأسلوب لا أثر فيه إلّا لشخصيته، ثم تخطى بفنه شخصية الفرد إلى القومية الوطنية، فتمثل فى موسيقاه تاريخ بلاده وأمجادها، وترجم بفنه عن أحداثها وأساطيرها.\nوسار سيرة سلفه العظيم بيتهوفن، فحطم قاعدة الالتزام بالتراكيب القديمة والقوالب التقليدية.\nكان العبقريان بيتهوفن وسميتانا شريكين فى محنة الصمم التى أصابت كلاًّ منهما، فتلقاها كلٌّ بطريقته، فدفعت «بيتهوفن» عزة نفسه إلى محاولة إخفاء الصمم الذى طفق يصيبه، وبدأ ذلك منذ بداية إحساسه بضعف سمعه، فأخفى ذلك حتى عن أقرب المقربين إليه، وعندما أحس بالمزيد من ضعف سمعه بدأ يعتزل الناس، ولما اكتمل صممه انعزل تماماً، وعانى فى عزلته لحظات قاتمة تسوق إلى اليأس، كتب فى إحدى نوباتها وصيته، وهى قطعة أدبية مؤثرة، وأبدى فى نهايتها أن مخافة الله وحبه لفنه هما اللذان أبعدا عنه خاطر إنهاء حياته بالانتحار، فهو لا يريد الموت وترك العالم قبل أن يبلغ رسالته التى يعتقد أنه قد خُلق من أجلها. وقد فعل.\nأما «سميتانا»، فكان يؤمن هو الآخر بأنه صاحب رسالة يعيش من أجلها، واستمد من هذا الإيمان قوة قاوم بها النكبات التى حلّت به، وأثقلها محنة الصمم. بيد أنه لم يحاول إخفاءها عن الناس كما كان يفعل «بيتهوفن»، بل استمر يتنقل بين الناس فى شجاعة، زائراً وعازفاً وقائداً للأوركسترا، ويتواصل برسائله مع أصدقائه وأطبائه، شارحاً محنته، ناشداً الشفاء وبذل الغاية فى التماس الدواء. وضَمَّن كتاباته وصفاً شاملاً لأحاسيسه ومشاعره منذ جعل الصمم يزحف عليه حتى أصيب بالصمم التام.\nعلى أن الأهم أن مذكراته ورسائله تضمنت فصولاً ضافية عن طريقة معالجته للتأليف الموسيقى بعد أن أطبق عليه الصمم، وهو ما لم يستطع بيتهوفن الإفصاح به، فترك سميتانا حصاد تجربته الفريدة فى مقاومته للصمم واستمرار تأليفه الموسيقى رغم حرمانه من سماع ما تهتف به قريحته وموهبته من أنغام وألحان.

الخبر من المصدر