الغربة فى الأحضان الصديقة

الغربة فى الأحضان الصديقة

منذ 6 سنوات

الغربة فى الأحضان الصديقة

حى هادئ جميل، يسكنه رجال أشداء دون غلظة، متسامحون دون تفريط، يمتلكون ناصية الأمور والكلمة، وفيض من حنان على كل أطفال الحى، ونساء كريمات هادئات لا يفرّقن بين الأطفال ولا أطباق الطعام التى تلف معظم البيوت.\nكانت تلهو بدمية صغيرة غير مكترثة لمن حولها، اقتربت منها لألهو معها، تنبهت لقدومى فالتقطت دميتها من الأرض ثم تحركت نحوى وقدمتها لى فى كرم يشيه كرم أمى، وظللنا نتبادلها ونلهو بها حتى فرقتنا أستار الليل.\nفى الصباح الباكر ، التقينا أمام منزلنا وأمسكت بيدها وتوجهنا الى المدرسة، وفى الطريق أخرجت من حقيبتى قطعة من حلوى كنت قد ادخرتها من ليلة أمس لأقدمها لها، وكأنى أودعها دون أن أعرف.انتهى اليوم الدراسى، ومعه كانت هناك نهاية أخرى فى انتظارى وهى قرار أبى بالانتقال الى سكن جديد فى حى آخر ، فانقطعت بذلك علاقتى بها وبالحى الهادئ الجميل.\nعشنا فى الحى الجديد منزوع الهدوء والألفة وبدون صداقات ولا حتى بوادر لذلك، فانطفأت سعادتى وأصبحت أيامى فارغة إلا من حنان أمى، وسيل من ذكريات..\nمرت الأيام والسنين وتخرجت من الجامعة وعملت فى إحدى الوظائف التى لم تلبى طموحاتى ولكننى قبلتها لمجرد رفضى لفكرة أن يكون الرجل عاطلاً.\nغادرت الى بلد عربى شقيق بعد حصولى على عقد عمل فى إحدى شركاته الكبيرة، وبمجرد وصولى استقبلونى بالكرم العربى الفريد، فغمرتنى السعادة والإصرار على العطاء وإثبات الذات.\nفى البداية حولنى حماسى الى عصفور رشيق يطير بين الأماكن والطرقات لينجز أعماله بهمة وسعادة، وعندما تنتهى ساعات العمل، أعود الى سكنى لأبدأ عملاً من نوع آخر، فكنت أسلى نفسى بالقراءة أو بالبحث بين قنوات التلفاز لينتهى اليوم بنوم مبكر وفى سلام مع النفس.\nبعد مضى عدة شهور وبعد استقرارى فى العمل، أخذ الملل يتسرب الىّ، فتحول العصفور الرشيق الى بطريق ثقيل لا يملك أدوات الطيران ولا ثقافته ولا يحتمل العيش فى بيئة مغايرة.\nوجهنى هذا الملل الى منطقة الحنين الى الوطن وأهله، فقررت التغلب على هذا الإحساس بأن أعمل أوقاتاً إضافية حتى أذهب الى السكن وأنا منهك فيداهمنى النوم دون أن أستجديه.\nظللت على هذه الحال الى أن حان وقت العودة الى وطنى لأقضى إجازتى التى طال انتظارها ما يقرب من أربعة أعوام، وفى ليلة العودة أخذت أرتب أشيائى وملابسى كطفل فى ليلة عيد، وظللت مستيقظاً حتى حان موعد الرحيل.\nحطت الطائرة على أرض الوطن، وحط قلبى معها.. أسرعت نحو أمى وتعانقنا حتى ذابت عظامنا واختلطت دموعنا وبعدها تناثرت آثار الغربه على أرصفة الحى وعلى بلاط البيت وفوق مائدة أمى، وحينها ظننت أن عذابات الغربة قد تلاشت.. ولكن\nفى اليوم التالى قابلت أصدقائى، تصافحنا، تعانقنا، ثرثرنا ثم أخذنا نتجاذب أطراف الحديث، وفى الحقيقة ما كان بحديث، بل كان عبارة عن استجوابات ثقيلة خلا منها الحياء أحياناً عن المال والأعمال وأشياء مادية أخرى خالية من أى معان إنسانية أحتاج إليها أكثر من ذى قبل..\nوعلى الرغم من محاولاتى الكثيرة لتبديل حديثهم المادى الى الحديث عن ذكرياتنا القديمة أو أحوالنا الجديدة، ولكن دون جدوى وفى كل مرة يعودون بالحديث الى حيث اختيارهم الأول.. لكونهم يرون أن فى الغربة ملاذاً من الفقر وحياة على غرار الجنة، وبطرف خفى كنت بين الحين والآخر ألمح فى وجوههم بعضاً من غيرة أو شيئاً من حقد، فشعرت أننى فى مرمى نيران قلوبهم وأن فى بقائى ربما يكون الهلاك حنقاً.\nغادرتهم بعد ان امتلأت جوارحى بأحاسيس مختلطة ما بين حزن وتعجب.. غادرتهم منفرداً غاضباً مخلفاً ورائى أجساداً بلا أرواح كانت تجلس أمامى فى توابيت الحياة المادية الجافة.\nبضعة أيام قضيتها ما بين زيارات عائلية، وأخرى إنسانية، وما ان انتهت اجازتى التى لم تُضف الىّ غير المزيد من فقدان الدفئ والألفة، واستمرار الشعور بأننى مازلت مغترباً، ولكن هذه المرة داخل وطنى.\nودّعت أمى وأقاربى وبعض أصدقائى ثم رحلت الى غربة البلد الشقيق، وفى الليلة الأولى لم يجرؤ النوم على الاقتراب من عينى، فأنفاسى تخرج كالحمم من كثرة القلق والضيق مما وصل اليه حال أصدقائى القداما فى الوطن الأم\nأشعلت سيجارة وصنعت فنجانا من القهوة وذهبت الى الشرفة وأخذت أتأمل البنايات المحيطة بالمكان وصوت حفيف الأشجار المتناغم، والأضواء المتراصة بعناية وكأنى لم أرى هذا المشهد من ذى قبل، فعقلى الباطن أوهمنى بذلك وكأنه يريد أن يخفف عنى من خلال هذا المشهد القديم ؛ الجديد..\nفى هذه الأثناء جال بخاطرى الأيام التى قضيتها فى بلدتى وبين أصدقائى وأخذت أتساءل كيف وصل بهم الحال الى هذه الدرجة من المادية ونكران القيم الإنسانية.. ولكننى لم أصل الى إجابة ترضينى.\nفى الصباح الباكر توجهت الى عملى واستقبلنى الزملاء ما بين مرحب بقدومى وكاره له، وبين مازح ودود، ومشتاق بزيف، دخلت مكتبى وجلست دون حراك أو اكتراث لشئ، وبقيت فى مكانى شارداً حتى أفقت على جرس الهاتف، وكان على الجانب الآخر صديق ممن تعمدت أن أرحل دون لقائه بسبب صدقى مع نفسى فأنا لا أحب زيف المشاعر.\nانتهت المكالمة وشعرت أننى كنت فى مهمة ثقيلة، ثم سألت نفسى .. لماذا يبذل المرء طاقته لإثبات ما لا يشعر به ولا يصدقه، لماذا يحمل المرء أكثر من وجه على الرغم من أنه يعلم أن أمره سيكون مفضوحاً لا محالة..\nبحركة لا إرادية مسحت وجهى بيدى وكأننى أحاول أن أسقط عنه ملامحه، ثم عدت وسألت نفسى لماذا تتعلق مشاعر الإنسان بوطن غابت عنه معظم الخصال التى كانت تميز أهله.. والى أى شئ نشتاق، هل شوقنا للحجر أم للبشر، ما الذى يربطنا بالوطن، هل لأن فيه مولدنا، ام لأنه مجرد مأوى لأبداننا، أم ربما هى طفولتنا التى حُفرت فيها مفردات وأحداث لا يستطيع الزمان أن يمحوها..طرقات سريعة على باب مكتبى وبعدها دخل الطارق مباشرة قبل أن أسمح له بالدخول، وللوهلة الأولى غضبت ولكن سرعان ما كظمت غيظى عندما أدركت أننى لست صاحب المكان، فقد كنت أجلس فى مكتب صاحب العمل دون أن أدرى..\nغادرت المكان فى حرج شديد، وبعدها بدقائق، وعبر الإذاعة الداخلية، جاء صوت صاحب العمل يقول: سأتلوا عليكم بعض الكلمات التى كتبها الضيف الذى كان يجلس فى مكتبى على غلاف أحد ملفات العملاء، يقول فيها:\nمن ذا الذى يستحق مشاعرى، فالوطن عندى ليس فقط أحجاراً وطرقات، الوطن ليس فقط نيلاً وأهرامات، الوطن.. أنا وأنت ونسيج من ذكريات.. فالذى يستحق مشاعرى هو أنت، لأنى أرى فيك الوطن.. ولم أرى الوطن فيك.

الخبر من المصدر