لغز الملاك الخائن

لغز الملاك الخائن

منذ 6 سنوات

لغز الملاك الخائن

كان الوقت متأخرا والصدمة تهز مشاعره بأثر ما انتهى من قراءته للتو.\nهل تعرضت مصر إلى هذه الدرجة من الخيانة، التى كادت أن تلحق هزيمة مروعة جديدة بقواتها، قبل أن تشرع فى عبور الجسور على قناة السويس؟\nهكذا كان سؤال الدكتور «نبيل العربى»، أمين عام الجامعة العربية السابق، فى ذلك المساء من صيف عام (٢٠١٦) بعد أن طالع النسخة الإنجليزية من كتاب إسرائيلى صدر حديثا يحمل اسم «الملاك ـ الجاسوس المصرى الذى أنقذ إسرائيل».\nالسؤال نفسه سوف يطرح مجددا على نطاق أوسع بعد أن شرعت شركات إنتاج أمريكية وإسرائيلية فى تحويل النص المكتوب إلى شريط سينمائى، يصل إلى كل بيت عربى عبر الشبكة العنكبوتية ـ أيا ما كانت درجة الحجب، التى قد تتخذها الرقابة هنا أو هناك.\nكأى سؤال تحيطه ظلال كثيفة لا يصح النفى المسبق دون أن تتوافر أدلة ووثائق، كما لا يصح الاكتفاء بالحديث عن الأهداف الإسرائيلية من هذا الشريط السينمائى، الذى يعرض خلال العام المقبل.\nبطبيعة الملف فهو بالغ السرية والحساسية بتوقيته وأبطاله ومدى ما أبلغت به إسرائيل من أسرار عسكرية وسياسية قبل أن تدوى المدافع فى حرب أكتوبر (١٩٧٣).\n«الملاك الخائن» هو «أشرف مروان» صهر الرئيس «جمال عبدالناصر» وأقرب معاونى خلفه الرئيس «أنور السادات»، حيث عمل معه سكرتيرا للمعلومات.\nالقصة قديمة نسبيا، فقد كشفت قبل أن يلقى «مروان» مصرعه الغامض بالسقوط من شرفة شقته فى لندن عام (٢٠٠٧).\nألمحت تسريبات إسرائيلية إلى دوره وشخصه قبل أن تذكر بلا مواربة اسمه، ثم صدرت كتبا تروى وتكشف بعض ما جرى فى الظلام من أسرار وتفاصيل شملت قصة تجنيده، وما أسداه من خدمات لإسرائيل فى أوقات حرجة.\nعندما شرعت الصحافة البريطانية فى عرض التسريبات الأولى، منسوبة إلى «إيلى زاعيرا» مدير الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، أرسل الدكتور «خالد عبدالناصر»، النجل الأكبر للزعيم الراحل، بنفس اليوم فاكسا لصورة ذلك العرض ما زلت أحتفظ به.\nكان تقديره: «إذا صحت الرواية الإسرائيلية فإن المثل البريطانى يقول إذا دخل الثعلب حظيرتك الأشرف لك أن تمسكه بنفسك».\nلم تكن لديه إجابة على السؤال الخطير لكنه كان يطلب الحقيقة.\nبنفس التوقيت المبكر لم يستبعد «سامى شرف»، مدير مكتب الرئيس «عبدالناصر» وأحد أخلص رجاله، احتمال تورط «مروان»، الذى عمل تحت إمرته فى منشية البكرى.\nاستبعد بالقدر نفسه أن يكون ذلك قد حدث أثناء حياة «عبدالناصر».\n«لم يكن يجرؤ ثم إن عيوننا مفتوحة على السفارة الإسرائيلية فى لندن، التى قيل إن مروان طرق أبوابها».\nفيما بعد تبدت تناقضات فى الروايات الإسرائيلية للطريقة التى جند بها «مروان» وتوقيتها ترجح ما ذهب إليه «سامى شرف».\nإحدى الروايات تقول إن ذلك جرى فى عام (١٩٦٨) وأن «مروان» أمد الاستخبارات الإسرائيلية بمحاضر اجتماعات الرئيس المصرى مع الزعيم السوفيتى «ليونيد بريجينف»، وهو ما لم تأت على ذكره روايات أخرى، قالت إنه قد جند قبل رحيل «عبدالناصر» بشهور قليلة، لكنه لم يقدم شيئا ولا شرع فى العمل لصالح الاستخبارات الإسرائيلية إلا مطلع حكم «السادات» ـ على ما تضمنه كتاب «الملاك» لمؤلفه «يورى بار جوزيف»، وهو أستاذ للعلوم السياسية فى جامعة حيفا وضابط سابق بالاستخبارات العسكرية.\nذلك يستدعى قراءة متأنية ومضاهاة الروايات لاكتشاف ثغراتها والمقحم فيها لأسباب سياسية ودعائية محضة لا صلة لها بالحقائق، كما جرت بالفعل.\nفى الروايات المتباينة ظلال نزاعات موروثة بين مدير الاستخبارات العسكرية «إيلى زاعيرا» ومدير جهاز الموساد «تسيفى زامير»، أو بين الجهازين الاستخباريين بصورة عامة.\nكل جهاز يحاول أن يعظم من دوره ويكيف الوقائع لمقتضى تخفيض دور الجهاز الآخر.\nغير أن كليهما له نقطة تنشين واحدة هى النيل من جهاز المخابرات العامة المصرية، تخفيضا للروح العامة وتشكيكا فى القدرة على مواجهة إسرائيل واختراقها فى عقر دارها وإلحاق الهزائم بها ـ كما حدث أكثر من مرة وفق روايات سجلها دراميا الكاتب الراحل «صالح مرسى» أشهرها «دموع فى عيون وقحة» و«الحفار» و«رأفت الهجان» الذى لم تكشف حتى الآن قصته الكاملة.\nالتوظيف الدعائى الإسرائيلى لقصة «الملاك الخائن» مما هو معتاد فى الأعمال الاستخباراتية لضرب ثقة الطرف الآخر فى نفسه.\nليس شيئا جديدا فى التاريخ أن تتعرض دولة ما لضربات موجعة، أو اختراقات فى بعض مراكزها الحساسة.\nدول عظمى كالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتى السابق تعرضت لمثل هذه الاختراقات أثناء الحرب العالمية الباردة وما بعدها.\nمواجهة الحقيقة قضية رئيسية لسلامة الأمن القومى.\nوفق «يورى بار جوزيف» فإن المصريين أضفوا صفة البطولة على أكبر خائن فى تاريخهم كله.\nالرئيس «السادات» منحه وساما عسكريا رفيعا لدوره فى حرب أكتوبر، والرئيس «حسنى مبارك» أصدر بيانا بعد مصرعه فى لندن يصفه بـ«الوطنى المخلص» وأرسل نجله الأصغر «جمال» إلى سرادق العزاء.\nفى لفتة إلى مصرعه قال مؤلف كتاب «الملاك»: «إن المصريين هم الذين قتلوه».\nالكلام خطير ويستحق التدقيق فيه.\nبصياغة الأستاذ «محمد حسنين هيكل» فإن «كرامة البلد وسمعة أشرف مروان نفسه تتطلب تحقيقا رسميا مصريا فى الموضوع بواسطة هيئة رفيعة المستوى تضم عناصر قضائية وبرلمانية، على أن تمثل فيها المخابرات العسكرية والمخابرات العامة.. دون ذلك لا تستقيم الأمور».\nالرأى نفسه مال إليه الأستاذ «أمين هويدى» وزير الحربية ورئيس المخابرات العامة الراحل وقت أن تفجرت القضية للمرة الأولى.\nوهذه آلية تلجأ إليها الدول الحديثة لاستجلاء الحقيقة من كل جوانبها.\nاستخدمتها إسرائيل إثر حرب (١٩٧٣) فيما أسميت بـ«لجنة اجرانات»، التى انطوت نصوص تقريرها المنشور على إشارات لجاسوس أمد إسرائيل بمعلومات حساسة عن ساعة بدء العمليات العسكرية المصرية.\nنفس الآلية استخدمتها مصر بعد هزيمتها فى حرب (١٩٦٧) للوقوف على أوجه الخلل الفادح، التى جعلتها ممكنة بهذا الحجم المروع، تمهيدا لإعادة بناء القوات المسلحة من تحت الصفر على أسس احترافية وحديثة، وقد ترأسها اللواء «حسن البدرى»، لكن لم يتسن لتقريره أن ينشر رغم مرور أكثر من نصف قرن.\nهناك آلية أخرى لاستجلاء الحقيقة هى الوثائق، لكنها لا تصلح فى حالة «مروان».\nالتوثيق مسألة مؤسسات والكلام المرسل عن أنه اخترق «الموساد» وضلله يفتقد إلى أى دليل على أنه كلف بالمهمة.\nبحسب تأكيدات «هويدى» لم تكن لديه عندما كان رئيسا للمخابرات المصرية أى معلومات فى هذا الشأن.\nالإسرائيليون يستبعدون مطلقا ـ حسب كتاب «الملاك» ـ أن يكون قد كلف من «عبدالناصر» ولا يعقل أن يكلفه «السادات» بإفشاء توقيت بدء العمليات العسكرية ومصيره يتوقف على ما قد يجرى بعد ساعات على جبهات القتال.\nكما لا يعقل الادعاء بأن مثل هذا الإفشاء من ضمن خطة الخداع الاستراتيجى، فقد أبلغ «مروان» الإسرائيليين أن الحرب سوف تبدأ فى الساعة السادسة من مساء السادس من أكتوبر، بينما بدأت فعلا بالساعة الثانية والشمس فى كبد السماء.\nحسب رواية «هيكل» فقد كان ذلك هو الموعد المحدد فعلا لبدء الحرب، لكنه تقدم أربع ساعات للتوفيق بين القيادتين العسكريتين فى مصر وسوريا.\nهذه مسألة يمكن التأكد منها ببساطة من الأرشيف الرسمى، فإذا ما صحت فهو الخائن الأخطر فى التاريخ المصرى بلحظة تأهب لعبور الجسور ورد الهزيمة بواحد من أروع المشاهد التاريخية، التى جسدت روح القتال والتضحية.\nلم تأخذ إسرائيل المعلومات الخطيرة التى وردت إليها من «مروان» بكامل الجدية، وكان الغرور بالغا و«التقصير» مريعا.\nلا «الملاك الخائن» أنقذ إسرائيل من شجاعة المقاتلين ـ ولا هو يستحق إذا ثبتت التهمة بحقه ـ أن يطوى رفاته فى التراب المصرى.

الخبر من المصدر