الشرعية ليست اختراعًا

الشرعية ليست اختراعًا

منذ 7 سنوات

الشرعية ليست اختراعًا

الشرعية أقرب إلى تصميمات الجسور التى تمنع انهيارها تحت وطأة الحمولات الزائدة.\nإذا ما اختلت اعتبارات الأمان فإن الانهيار مؤكد.\nهكذا تؤكد خبرة التاريخ المصرى الحديث.\nبأى قياس لم يكن ممكنًا لتسعين ضابطًا صغيرًا الإطاحة بحكم أسرة «محمد على» يوم (٢٣) يوليو عام (١٩٥٢)، لولا أن الشرعية تآكلت مقوماتها والتغيير ينتظر من يزيح الركام.\nالنظام تهاوى من داخله، ووجوده بدا عبئا على الحركة العامة للمجتمع المصرى فى عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث ارتفعت نداءات التحرر الوطنى وطلب العدل الاجتماعى، دون أن يكون هناك صدى لذلك فى قصور الحكم التى استغرقها التلاعب بالدستور والحكومات.\nكان آخر مشهد مهيب فى ذلك العصر إلغاء زعيم «الوفد» «مصطفى النحاس» باسم الشعب اتفاقية (١٩٣٦) ــ التى وقعها بنفسه ــ فى أكتوبر (١٩٥١)، وتدفقت إلى مدن القناة قوافل الفدائيين تضرب معسكرات الاحتلال البريطانى، وتولى تنظيم «الضباط الأحرار» تدريب وتسليح أعداد كبيرة منهم.\nلم يكن النظام الملكى بوارد؟؟؟ تلبية احتياجات اللحظة التاريخية فى طلب الجلاء بقوة المقاومة، ولا مستعدا لتقبل الأفكار الجديدة بنت عصرها وتحدياته، ولا كانت البنية السياسية التقليدية مهيأة لاستيعاب طاقة التغيير.\nحقائق الشرعية تعكسها الأوضاع العامة فى المجتمع والتفاعلات التى تجرى فيه ومدى القبول العام بالسياسات المتبعة.\nالصدام مع الحقائق مهلك، والتنكر للشرعية مكلف.\nاكتسبت «يوليو» شرعيتها من عمق إنجازاتها الاجتماعية التى غيرت من التركيبة الطبقية للمجتمع وأنصفت الأغلبية المهمشة، فى أوسع حراك اجتماعى شهده المصريون طوال تاريخهم.\nوقد أضافت أدوارها فى محيطها وعالمها فوائض جديدة لخزان الشرعية، حيث قادت معارك التحرير فى العالم العربى وإفريقيا وامتد تأثيرها إلى العالم الثالث بأسره وشاركت بدور قيادى فى تأسيس حركة «عدم الانحياز».\nبقوة الإنجاز تولدت هيبة التاريخ، وتلك مسألة تدخل فى الشرعية.\nعندما تتقوض الهيبة تتراجع الشرعية، ويبدأ العد التنازلى.\nعلى الرغم من هزيمة (١٩٦٧) الفادحة، التى تفضى بالطبيعة إلى سقوط أى شرعية، تقدم المصريون فى مشهد تاريخى يطلبون من القائد المهزوم أن يعيد البناء من جديد لاستعادة الأرض التى احتلت بقوة السلاح.\nفوائض الثقة العامة رممت فى لحظة صعبة شروخ الشرعية.\nتلقى «جمال عبدالناصر» الرسالة، حيث أعاد بناء القوات المسلحة من تحت الصفر، وخاض حرب استنزاف طويلة بعد أيام من الهزيمة، ودعا إلى المجتمع المفتوح.\nترددت فى ذلك الوقت عبارات «مراكز القوى» و«دولة المخابرات» و«الدولة داخل الدولة» و«إبعاد الجيش عن الحياة العامة»، وكان ذلك مما ساعد على ترميم الشرعية.\nبين شروخ شرعية «يوليو» جرى بعد رحيله الانقضاض على إنجازاتها من داخل النظام نفسه، على يد الرجل الذى خلفه.\nكانت تلك مفارقة فى التاريخ تفسرها التناقضات الداخلية فى بنية النظام وشروخ الشرعية التى بدأت تتسع.\nأفضت تلك التناقضات إلى أحداث (١٥) مايو (١٩٧١)، فى مثل هذه الأيام قبل (٤٦) عاما بالضبط، حين أطاح «أنور السادات» برجال «عبدالناصر» فى السلطة وأودعهم السجون بتهمة التآمر.\nلم تكن التهمة صحيحة، فلم يكونوا مجموعة واحدة ولو كانوا تآمروا معا لكانت النتائج مختلفة.\nولم يكن «السادات» فى وضع قوة أمامهم، فهم يمسكون بمقاليد الأمور بالجيش والداخلية والمخابرات العامة والتنظيم السياسى الوحيد، لكن «الشرعية معه» ــ كما أخبره الأستاذ «محمد حسنين هيكل».\nالشرعية تعنى القدرة على إصدار التعليمات والقرارات، وأن تكون مجابة.\nسوغ «السادات» شرعية الإجراءات التى اتخذها بأن البلد فى حالة حرب، ولا يحتمل صراعات داخلية على السلطة، وأن مرحلة جديدة سوف تبدأ بالانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية.\nوهكذا وضع فى نفس العام دستور (١٩٧١)، غير أنه لم يحترمه أبدا.\nقال ذات مرة: «أنا آخر الفراعنة، والدستور لم يوضع من أجلى».\nنفس الفكرة خامرت كل من جلس على نفس المقعد، دون اعتبار للنتائج الوخيمة كل مرة.\nأحداث مايو (١٩٧١) لم تؤسس لشرعية جديدة، على الرغم من أنه أطلق عليها «ثورة التصحيح».\nبعد حرب أكتوبر (١٩٧٣) تصور «السادات» أنه وجد ضالته لتأسيس شرعية جديدة غير «يوليو»، لكنها لم تصمد أمام حدة الانتقادات التى تعرض لها بسبب سياساته.\nشرخت شرعيته فى تظاهرات العمال عام (١٩٧٥)، التى أغلقت ميدان التحرير وهتفت ضد الانفتاح الاقتصادى، قبل أن تتسع فى انتفاضة الخبز يومى (١٨) و(١٩) يناير (١٩٧٧) التى استدعت نزول الجيش لضبط الشوارع، بعد إلغاء قرارات زيادة أسعار السلع الأساسية.\nبعد تلك الانتفاضة، التى كادت تطيح به، هرب إلى الأمام وذهب إلى الكنيست الإسرائيلى فى نفس العام، ووقع اتفاقيتى كامب ديفيد فى العام التالى.\nكان ذلك تعميقا لشروخ الشرعية، حتى بدا كل شىء معلقا على مجهول.\nما حقيقة ما جرى فى حادث المنصة الدموى؟\nلا توجد إجابة حتى الآن على درجة من المصداقية والتوثيق، وقد كان مطلوبا من أطراف عديدة ــ لمصالح متباينة ــ إغلاق الملف.\nبعده دخلت مصر إلى ما يمكن أن نسميه «شرعية الأمر الواقع» بنقل السلطة إلى خلفه «حسنى مبارك»، الذى استفاد من تعديل دستورى أدخله قبل شهور من رحيله يمد فترات الرئاسة إلى الأبد.\nمضى «مبارك» على نفس الخطى والسياسات، واستبعد «الصدمات الكهربائية» التى كان يتبعها سلفه.\nبالجمود الطويل استنزف نظامه أى شرعية منسوبة إليه.\nفى العشر سنوات الأخيرة توحش الفساد المنهجى فى بنية السلطة التى تزاوجت مع رأس المال، ودبت الصراعات الداخلية بين مراكز القوى فيه، واتسعت موجات رفض مشروع توريث الحكم لنجله بين القوى والنخب السياسية، كما داخل المؤسسة العسكرية.\nبدا سقوط النظام مسألة وقت لإزاحة الركام.\nعندما تتصدع الشرعية فلا مستقبل.\nلم تكن «يناير» مؤامرة، إذا كانت مؤامرة فإن أى ثورة أخرى بالتاريخ المصرى ينالها الوصف نفسه.\nالثورات ليست مؤامرات، فهى ردات فعل تاريخية لأزمات الشرعية، واستجابات من المجتمع لاحتياجاته وروح عصره وأسباب غضبه.\n‫«‬يناير» هى جذر الشرعية فى هذا البلد، والدستور الإنجاز الوحيد الممسوك منذ عواصف التغيير التى أطاحت بـ«مبارك».‬‬\nالشرعية ليست كلمات تطلق فى المناسبات أو عند الأزمات.\nأفرط الرئيس الأسبق «محمد مرسى» فى استخدامها، لكن الكلمات لم تمنع انهيار حكمه تحت وطأة الغضب العام على «أخونة الدولة» والتنكر للوسائل الديمقراطية التى صعد بمقتضاها.\nلو أنه استجاب لطلبات «جبهة الإنقاذ» فى توقيت مناسب ــ قبل تظاهرات (٣٠) يونيو ــ من تعيين رئيس وزراء جديد مدنى وتوافقى، ونائب عام جديد يعينه المجلس الأعلى للقضاء، وانتخابات رئاسية مبكرة؛ لتغير وجه التاريخ وأخذ مسارا آخر، لكن الصدام كان محتما فى نهاية المطاف بالنظر إلى الاعتقادات المتناقضة عن طبيعة الدولة.\nبذات القدر فإن «مبارك» لو كان قد أقدم على الإجراءات التى اتخذها بالإطاحة بالحكومة ووزير داخليتها «حبيب العادلى»، ولجنة السياسات برئاسة نجله «جمال مبارك»، وتعيين «عمر سليمان» نائبا للرئيس قبل عشرة أيام؛ لتغيرت المعادلات كلها.\nالشرعية قضية محكومة بأوقاتها، فإذا تأخرت الإجراءات عن مواعيدها يبطل أى أثر ويأخذ التغيير مداه.\nقواعد الشرعية ليست اختراعا وعندما تتعطل فإن الإجراس تدق فى المكان.

الخبر من المصدر