بوريس جونسون الثوري المضاد

بوريس جونسون الثوري المضاد

منذ 7 سنوات

بوريس جونسون الثوري المضاد

إذا كان التاريخ يعيد نفسه -المأساة تتبعها المهزلة- فنحن الآن أمام حالة بوريس جونسون، سياسي متحول يجسد التناقضات في عصرنا؛ فهو مثابة المدافع عن الشعب الذي نشأ مستفيدا من امتيازات 1٪ من المحظوظين، ابن عائلة مهاجرة لكن يناضل من أجل الحدود المغلقة، وهو محافظ يطمح لقلب النظام السياسي، ورجل مثقف لكن يسخر من الخبرات، وعادة ما يدعو السود بكلمة "البيكانينيز" القدحية رغم الادعاء أنه مواطن عالمي.\nوبذل جونسون ما في وسعه لدفن مستقبل بريطانيا الأوروبي، إلا أن مرونته الفائقة قد تكون سبيل خلاصه.\nفي أول ظهور علني له بعد تعيينه وزيرا للخارجية، قارن جونسون تصويت البريكست (الخروج البريطاني) بالثورة الفرنسية، وأثار ضوضاء في الاحتفال بيوم الباستيل في السفارة الفرنسية، كما وصف الاستفتاء بأنه "انتفاضة شعبية كبيرة ضد نظام بيروقراطي قديم خانق أصبح تشبثه بالديمقراطية غير واضح."\nلكن تصويت البريكست -مع وعده بإعادة إحياء بريطانيا القديمة- يعد ثورة أقل مستوى من الثورة المضادة. بوريس وجماعته من البريكست لديهم الكثير من القواسم المشتركة مع لويس نابليون بونابرت الذي قلب الجمهورية الفرنسية لإنشاء ملكية جديدة، وهم أقرب إليه أكثر من دانتون أو روبيسبير.\nوإذا كان هناك أي شخص أو أي شيء قام بتجسيد المثل العليا لثورة عام 1789، فهو الاتحاد الأوروبي. إن الساسة والمسؤولين في الاتحاد ترجموا ثالوث الحرية الغامض: الحرية، المساواة، والأخوة إلى أرض الواقع عبر حوالي 80 ألف صفحة من القوانين التي تغطي الحقوق واللوائح من غرفة النوم إلى أرضية المصنع. وساعد تطبيق هذه القواعد بلدانا كثيرة -من اليونان وإسبانيا إلى أستونيا وبولندا- على الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية.\nوقد قاد الاتحاد الأوروبي ثورة حول كيفية تعايش الدول معا عبر تعزيز الحقوق الفردية، والقانون الدولي، وتجميع السيادة. وتنبع قوته التحويلية من وعد العضوية المحتملة و"سياسة حسن الجوار" التي تنشر القيم الأوروبية، وإسهامه في بناء المؤسسات العالمية وتحقيق التكامل الإقليمي.\nونتيجة للثورة المضادة اليوم، يعرف النادي الأوروبي تقلصا بدلا من التقدم، وعوض إعادة تشكيل العالم حسب تصوره، يخشى الاتحاد الأوروبي الجيران الذين يقومون بتصدير الفوضى بدلا من استيراد القيم. وأصبح الترابط بين الدول الأوروبية يخلق الصراعات بدلا من إنهائها. وأصبحت الفكرة الأوروبية محور المعارضة السياسية في جميع أنحاء القارة.\nفي الواقع، الشيء الأكثر إثارة للقلق حول أوروبا اليوم ليست مغادرة المملكة المتحدة، ولكن الهشاشة والانقسام الذي تعاني منه 27 دولة المتبقية؛ إذ ربما سيتبخر الإجماع المحلي في أوروبا. وأظهرت حملة "مغادرة" المملكة المتحدة رغبة كبيرة لاستعادة الثقة، وليس لوضع حقوق جديدة. كما تشهد جميع الدول الأعضاء انعدام الأمن الاقتصادي، والقلق الثقافي، والاغتراب السياسي الذي تستغله قوى سياسية جديدة باستخدام الاستفتاءات لإعادة صياغة السياسة على أنها معركة بين الشعب والنخب خدمة لمصالح ذاتية.\nودفعت المتاعب الاقتصادية والسياسية في مرحلة ما بعد الاستفتاء في بريطانيا الدول الأعضاء الأخرى في الاتحاد الأوروبي للتفكير مرتين قبل عقد الاستفتاءات الشعبية الخاصة بها بخصوص العضوية. لكن مما لا شك فيه أن الاتحاد الأوروبي في طريقه إلى التفكك. الانحدار البطيء نحو حالة من الفوضى يمكن أن يكون مدمرا شأنه شأن التفكك.\nكما يجري بالفعل تحدى بعض قرارات الاتحاد الأوروبي عن طريق الاستفتاء العام، مثل استفتاء رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان على حصص اللاجئين. في فرنسا، ما يسمى بتوجيه العمال العلني قد لا يتم تنفيذه. كما تراجعت المفوضية الأوروبية عن مشاريع مفضلة مثل اتفاقية التجارة الحرة مع كندا.\nبدلا من التكاتف والتعاضد، قام كل تحد جديد بتقسيم الاتحاد الأوروبي إلى مجموعات أصغر، وقد قسم اليورو الشمال والجنوب. كما قسمت أوكرانيا وأزمة اللاجئين الشرق والغرب.\nوبذلك ينبغي على مؤيدي أوروبا معالجة مصادر التذمر وإعادة النظر في النماذج المستخدمة للتعبير عن المثل الأوروبية. وقد استند الاتحاد الأوروبي على فكرة ميكانيكية مفادها أن الترابط المتبادل من شأنه أن يقلل الصراع. ومن خلال ربط وسائل الإنتاج الأوروبية معا -أولا من خلال مجتمع الفحم والفولاذ الأوروبي، وبعد ذلك من خلال السوق المشتركة واليورو- يأمل الاتحاد الأوروبي ربط دول أوروبا معا بشكل وثيق لكي لا تصبح الحرب بينهما خيارا.\nصحيح أن الحرب في أوروبا الآن لا يمكن تصورها، بالنظر إلى تراكم كثير من الثروات الناتجة. ولكن رد الفعل العنيف ضد الترابط -سواء من خلال اليورو، أو حرية التنقل، أو الإرهاب- لا يمكن إنكاره.\nولإنقاذ الاتحاد الأوروبي، يتعين على زعماء أوروبا التركيز على جعل الناس يشعرون بالأمان في ظل الارتباط المتبادل. وهذا يعني إعادة توزيع بعض الفوائد الاقتصادية من حرية الحركة للمجتمعات التي تحمل عبء ذلك؛ تعزيز السيطرة على الحدود الخارجية والتعاون لمكافحة الإرهاب؛ ضمان مرونة أكبر تجاه الهجرة وتحقيق التكامل في منطقة اليورو؛ والعودة إلى فكرة أن أسمى مطالب مؤسسات الاتحاد الأوروبي هي الدفاع عن الدول القومية في أوروبا، وليس تطوير السلطة الخاصة بها.\nوتمنح أزمة البريكست أعضاء الاتحاد الأوروبي المتبقية فرصة لإعادة ابتكار فكرة المشروع الأوروبي، وإذا نجحوا في ذلك، فقد ترغب بريطانيا في الانضمام من جديد.\nلكن بالطبع، ليس هذا ما يسعى إليه أصحاب البريكست أو حلفاؤهم في أماكن أخرى؛ فقد نجحوا في كشف الاتحاد الأوروبي، ولكن من غير المحتمل أن يوفوا بوعودهم التي تتمثل في إعادة إحياء عالم الأمس، ناهيك عن مستقبل أفضل. في الواقع، بإمكانهم -دون قصد- تدمير فوائد التكامل الأوروبي الأكثر قيمة عند الناس.\nوفي هذا الصدد، يذكرنا الناخبون الذين دعموا البريكست بما قاله ماركس عن ثورة لويس نابليون المضادة: "يتوهم الشعب كله أنه حصل على صلاحيات قوية بفضل الثورة، وفجأة يجد نفسه مرة أخرى في مأزق". ثم يكتشف هؤلاء أن ما هزموه ليس طغيان النظام القديم، بل "التنازلات التي انتُزعت منهم بعد قرون من الصراع".\nومن هنا يتضح موقف جونسون المتذبذب. وإذا دخلت المملكة المتحدة في ركود عميق وناضلت من أجل الوفاء بوعود أصحاب المغادرة، قد يرغب كثير من الناخبين في البقاء في السوق الواحدة، أو حتى في الاتحاد الأوروبي نفسه.\nإن هذا النوع من تغيير المواقف سيكون مستحيلا بالنسبة لمعظم مؤيدي البريكست، الذين يفضلون حلم السيادة على خطر الانهيار الاقتصادي. ولكن جونسون ثقافيا ليس لديه أي مشكل مع أوروبا، حيث بدا في بعض الأحيان مترددا حول حملة المغادرة التي قادها.\nإن قدرة جونسون على الهروب من أغلال تصريحاته السابقة من شأنها إلهام هوديني (الساحر الأميركي) فإذا حقق الاتحاد الأوروبي الإصلاح المنشود رغم المشاكل الاقتصادية العميقة في المملكة المتحدة، سيذوب كل ما كان يبدو صلبا، ولا سيما شكوك جونسون حول الاتحاد الأوروبي.

الخبر من المصدر