من المطبعة والصنبور إلى القهوة والصحافة... فتاوى لا تصدّق حرّمت كل جديد 

من المطبعة والصنبور إلى القهوة والصحافة... فتاوى لا تصدّق حرّمت كل جديد 

منذ 7 سنوات

من المطبعة والصنبور إلى القهوة والصحافة... فتاوى لا تصدّق حرّمت كل جديد 

تأخرت المطبعة زهاء قرنين ونصف القرن عن دخول العالم الإسلامي بسبب فتوى حرّمتها وحرمت معها العرب والمسلمين من اللحاق بركب الحضارة والتقدم. واستمر الجدل الفقهي حول شرب القهوة قرابة قرنين تخللتهما أحداث شغب ومطاردات وحوادث قتل وإغلاق للمقاهي وإحراقها والتشهير بمرتاديها. بينما اعتبرت مياه الصنبور بدايةً بدعة وضلالة ولا تصلح للوضوء.\nوإذا كانت الدراجة الهوائية البسيطة عدّها البعض حصان إبليس، فإن الطماطم عدّها بعض آخر مؤخرته. وفيما كانت جميع التقنيات الإلكترونية والأجهزة الكهربائية وسائل شيطانية يديرها الجان والأبالسة وتستهدف غزو عقول المسلمين وإفسادها ونشر الرذيلة والمنكرات، فإن حملات تطعيم شلل الأطفال رأى البعض أنها تستهدف فحولة رجال المسلمين وخصوبة نسائهم.\nتلك نماذج من قائمة تطول تكاد تشمل كافة منجزات الحياة العصرية ومخترعاتها، وقف بعض فقهاء الدين ضدها، شاهرين سيف العداء والتحريم على كل جديد.\nلكن شوق المجتمعات للحاق بركب الحضارة والتطور كان أقوى من تلك الفتاوي التي تجاوزها الزمن وبين خطأ استدلالات محرّميها، فانتشرت تلك المنجزات متحدية فتاوي التحريم التي سرعان ما تراجعت وتراجع معها بعض أصحابها.\nظهرت ألة الطباعة على يد يوهان غوتنبرغ في منتصف القرن الخامس عشر في ألمانيا، وسرعان ما انتشرت في العواصم الأوروبية خلال سنوات قليلة، إلا أن الأمر اختلف في الدولة العثمانية التي كانت تسيطر على معظم بلاد المسلمين والعرب، فقاوم فقهاء آل عثمان الاختراع الجديد بكل قوة وأصدروا الفتاوي بتحريم الطباعة بل وتكفير من يستخدمها وإعدامه.\nصدر فرمان من السلطان بايزيد الثاني بتحريم استخدام هذا المخترع بين رعايا الدولة العثمانية بدعوى الخوف من تحريف القرآن الكريم والكتب الشرعية، إضافة إلى التخوف على آلاف العاملين في نسخ الكتب، ولم يستثن الفرمان من ذلك سوى رعايا الدولة العثمانية من اليهود الذين أدخلوا الطباعة في بداية القرن السادس عشر لطبع كتبهم الدينية، وحرم على المسلمين هذا الاختراع الذي كان من أهم أسباب النهضة والتقدم في أوروبا قرابة القرنين والنصف القرن.\nواستمر ذلك إلى أن دخلت الطباعة رسمياً في الدولة العثمانية في عهد السلطان أحمد الثالث عام 1727، وكانت في البداية تقتصر على الكتب العلمية والأدبية دون الكتب الشرعية التي سمح بطباعتها لاحقاً.\nمنذ ظهور القهوة في العالم الإسلامي في بداية القرن السادس عشر وانتقالها من اليمن إلى مصر والحجاز دارت معركة فقهية حامية الوطيس تخللها أحداث شغب عارمة. واستمر تحريم القهوة زهاء قرنين شهدا جدلاً صاخباً حول تحريم القهوة، بدعوى أنها مسكرة ومفسدة للعقل والبدن وخطرها أشد من الخمر.\nوتوضح العديد من المصادر المتواترة أن الصخب حول القهوة بدأ عندما وجد حاكم مكة في نهاية العهد المملوكي، جمعاً من الناس يشربون كؤوس القهوة بجانب المسجد الحرام، فاستصدر فتوى لتحريمها وأمر بمعاقبة شاربيها وحرق مخازن البن وإغلاق المقاهي في المدينة المنورة.\nوانتقلت معركة القهوة الفقهية إلى القاهرة ومنها إلى عاصمة الدولة العثمانية، فصدرت الفتاوي والأوامر السلطانية بتحريم ومنع شرب القهوة وطارد رجال الأمن شاربيها، ولم يهدأ هذا الجدل إلا عندما جاء مفتي جديد لإسطنبول في عهد السلطان مراد الثالث فأعلن أن شرب القهوة غير محرم شرعاً.\nشارك غردحرّموا الطباعة، واعتبروا القهوة مفسدة للعقل والدرّاجة حصان إبليس... بعض من فتاوى رجال الدين\nشارك غردهل تعلمون أن القهوة كانت محرّمة لنحو قرنين بحجة أنّها مسكرة ومفسدة للعقل وخطرها أشدّ من الخمر!\nوراء تسمية صنبور المياه بـ"الحنفية" في مصر قصة طريفة. فقد دار جدل فقهي في أروقة الأزهر نهاية القرن التاسع عشر، عندما تم مد مواسير المياه وتركيب الصنابير في منازل القاهرة ما أدى إلى استغناء كثير من المصريين عن السقايين الذين كانوا يجلبون المياه إلى البيوت مقابل أجر.\nما كان من السقايين إلا التوجّه إلى أئمة المذاهب السنية الأربعة لاستصدار فتوى بأن مياه الصنابير لا تصلح للوضوء والطهارة، فاستجاب لهم أئمة الحنابلة وأفتوا بأن مياه الصنابير بدعة صريحة ولا تصلح للوضوء أو الطهارة، بينما أكد أئمة الشافعية أن الأمر بحاجة إلى بحث طويل، وفي المقابل أفتى أئمة الحنفية بإباحة مياه الصنبور وجواز الوضوء منها، ومن هنا جاءت تسمية المصريين للصنبور بالحنفية.\nفي نهاية القرن التاسع عشر، وفدت الطماطم إلى حلب، فاستهجنها أهالي المدينة، ونفروا من استهلاكها وزراعتها بسبب لونها الأحمر المخالف لكونها من الخضروات، فأطلقوا عليها لقب "مؤخرة الشيطان" وأصدر مفتي حلب فتوى بتحريم أكلها، غير أن الطماطم خلال سنوات قليلة انتشرت زراعتها في الشام وسميت بالبندورة، بل وتأصلت هناك حتى سميت الأصناف الجيدة منها بـ"البلدية".\nفي كتابه "دراسة في طبيعة المجتمع العراقي" يروي أستاذ علم الاجتماع علي الوردي أن الشعب العراقي كان ينظر في مطلع القرن العشرين للمدارس الحديثة نظرة ريبة واتهام، وكان بعضهم يعتبرها باباً للفساد الأخلاقي والانحراف الجنسي.\nوعندما بدأت الحكومة العراقية افتتاح المدارس، أعلن بعض رجال الدين تحريم الدخول فيها، فلقي هذا التحريم هوى في قلوب العامة، كانت نتيجته ضعف الإقبال عليها، غير أن الموقف الشعبي انقلب تماماً مع تزايد الرغبة في الوظيفة الحكومية التي لم ينلها سوى خريجي المدارس.\nولكن الموقف من مدارس البنات كان أكثر تشدداً، فالناس كانت تعتقد أن تعليم المرأة الكتابة والقراءة سيكون وسيلة لإغوائها وفسادها، وسيجلب عليهم العار، وفي هذا الإطار وضع الفقيه العراقي نعمان الألوسي نهاية القرن التاسع عشر كتاباً عنوانه "الإصابة في منع النساء من الكتابة" جاء فيه أن تعليم النساء القراءة والكتابة، يلحق بهن الضرر، وسيكون وسيلة لمعرفتهن بوسائل الغدر والخيانة وكتابة الرسائل إلى العشاق وقال: "اللبيب من الرجال هو من ترك زوجته في حالة من الجهل والعمى، فهو أصلح لهن وأنفع".\nكان لبعض الفقهاء في الكويت والعراق والإحساء موقف متشدد في مطلع القرن العشرين من قراءة الصحف والمجلات. لم يحرموها فحسب، بل كفّروا من يقرأها بدعوى احتوائها على "حقائق علمية غريبة من قبيل كروية الأرض والتطعيم ضد الأمراض".\nوكان على رأس هؤلاء الشيخ عبد العزيز العلجي (1868-1942) الذي كان يفد إلى الكويت من الإحساء، وكان له أنصار فيها، وحدث أن زار صاحب مجلة المنار الشيخ رشيد رضا الكويت عام 1912، فكمن له أنصار الشيخ العلجي يريدون قتله، غير أن مصادفة تغيير طريقه المعتاد أنجته من محاولة الاغتيال.\nوفي العراق عندما وصلت مجلة المقتطف المصرية إلى بغداد عام 1876 أجمع الزعماء الدينيون من مختلف المذاهب السنية والشيعية والمسيحية واليهودية على رفض قراءة الصحف لأنها كانت في نظرهم تحتوي على عقائد جديدة وخطرة.\nلتحريم الدراجة الهوائية في السعودية قبل 75 عاماً وقائع وروايات طريفة، فكان أهالي ومشايخ مدن نجد يطلقون على الدراجة لقب "حصان إبليس"، وكانوا يعتقدون أنها تسير بواسطة الجن ويعتبرونها رجساً، ويتعوذون بالله منها سبع مرات، ويأمرون نساءهم بتغطية وجوههن عنها، وإذا لامست أجسادهم أعادوا الوضوء، ولا يقبلون بشهادة سائقها.\nوكان اقتناء الدراجة الهوائية قرينة الفساد والفسوق باعتباره من الملاهي التي تنشر الرذيلة وتشغل الناس عن العبادة، ويروى أن أحدهم طالب بخلع ابنته من زوجها بحجة أنه رجل مارق يركب "حمار الكفار" في إشارة إلى الدراجة.\nثم تقبل المجتمع في نجد استعمال الدراجة على مضض، وقصروا استعمالها على البالغين بشروط صارمة وتراخيص رسمية تصدرها هيئة الأمر بالمعروف في بعض المدن في سبعينيات القرن الهجري الماضي، فلا تعطى الا بشهادة تزكية واستقامة من إمام المسجد، على ان تستخدم في ساعات النهار.\nمنذ عشرينيات القرن الماضي وقف علماء الدين في نجد والحجاز ضد استخدام الاتصالات اللاسلكية لإرسال البرقيات واعتبروها وسائل شيطانية، ورأوا في الأربعينيات أن الراديو عبارة عن حديدة تتكلم بما يضاهي قدرة الله في إنطاق خلقه.\nفي الستينيات طالت فتاوي التحريم التلفزيون لنفس الأسباب تقريباً، وتوسعت لتشمل أجهزة الفيديو والكاسيت، والتصوير الفوتوغرافي وصولاً إلى فتوى تحريم الدش الشهيرة التي أطلقها مفتي السعودية الراحل ابن باز في التسعينيات، لتنتقل في مطلع الألفية الثالثة مع فتاوي تحريم الإنترنت وإصدار مفتي السعودية الحالي فتوى بتحريم الهاتف الخلوي المزوّد بكاميرا، ليمنع دخوله إلى الأراضي بضع سنوات.\nقبل سنوات قليلة صدرت فتاوي في باكستان وأفغانستان ونيجيريا بتحريم التطعيم ضد شلل الأطفال بدعوى أنه لقاح أمريكي يستهدف تعقيم الأطفال جنسياً وقطع نسل المسلمين.\nوانطلقت ميكروفونات الجوامع الباكستانية تحذر من اللقاح القاتل الذي يفقد الرجال قدراتهم الجنسية ويحرم النساء من الأمومة، ودفعت الفتوى آباء 160 ألف طفل باكستاني إلى رفض التطعيم مما أدى إلى تزايد حالات شلل الأطفال وخاصة في شمال غرب باكستان.\nأما في نيجيريا التي استوطن فيها شلل الأطفال، فقد أجبرت تلك الفتوى ولاية كانو ذات الأغلبية المسلمة إلى حظر تطعيم شلل الأطفال لمدة 11 شهراً.\nودفع انتشار تلك الفتوى إلى لقاء مدير منظمة الصحة العالمية بالشرق الأوسط بشيخ الأزهر أحمد الطيب الذي أكد بدوره عام 2014، أن هذه الفتاوي لا أصل لها على الإطلاق، وأن إعطاء لقاح شلل الأطفال سينقذ أطفال الأمة الإسلامية من مصير مؤلم.\nوبينما طالب الأزهر بالتصدي لفتاوي تحريم التطعيم ضد شلل الأطفال، كشف أمين منظمة التعاون الإسلامي السابق إياد مدني أن 95% من حالات شلل الأطفال في 2013، سجلت في دول إسلامية، فيما كانت باكستان ونيجيريا وأفغانستان الدول الثلاث التي بدأ المرض ينتشر فيها مرة أخرى.\nيؤكد طارق أبو هشيمة رئيس وحدة الدراسات الإستراتيجية بمرصد دار الإفتاء للفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة، لرصيف22، أن الإسلام يؤمن بالتطور والتجدد لأن مدار الشريعة مصلحة العباد، وقال: "إذا وجدت فتوى تحرم أمراً نافعاً للأمة فاعرف أن قائلها لديه خلل في منهجه، وبحاجة إلى مراجعة".\nوأشار أبو هشيمة إلى أن العهود الأولى للإسلام شهدت خوفاً من الفتوى من باب الورع والخوف من الوقوع في محرم، لكن هذا فهم في العصور المتأخرة على أنه خوف من التصدي للفتوى، فترجم في صورة رفض لكل ما هو جديد، إلى الدرجة التي تجد فيها من يحرم القول بكروية الأرض، أو يحرّم بعض الأكلات.\nولفت إلى أنه "مع التطور وتعقد المسائل، وعدم استطاعة المتصدر للفتوى أن يكيف المسائل الفقهية المعقدة داخل رأسه دون الرجوع إلى أهل التخصص في كل فن، فقد آثر السلامة وأصدر فتاويه بالتحريم".\nوشدد أبو هشيمة على ضرورة وجود المجامع الفقهية المتخصصة في الفتوى التي تجمع بداخلها مجموعة كبيرة من العلماء المتخصصين في كافة المجالات بجانب علماء الشرع، بحيث لو عرض عليهم بحث الرأي الشرعي في أمر مستحدث لتوصلوا إلى الفتوى الصحيحة التي تستند إلى آراء المتخصصين.

الخبر من المصدر