المستشار فؤاد راشد يكتب: الوديعه المسمومة (قصة قصيرة)

المستشار فؤاد راشد يكتب: الوديعه المسمومة (قصة قصيرة)

منذ 7 سنوات

المستشار فؤاد راشد يكتب: الوديعه المسمومة (قصة قصيرة)

في إحدى الحارات القديمة المتفرعة من شارع جانبي بحي السيدة زينب ولد شافع في نهايات الخمسينيات من القرن العشرين لأب يمضي يومه جالسا في شارع السد البراني وأمامه موقد كيروسين مشتعل (وابور غاز) وبعض القصدير وأدوات بسيطة حيث يتلقي زبائنه ممن تعطلت لديهم أداة الطهي السائدة وقتئذ لدي الطبقات الفقيرة وهي وابور الغاز .\nكان محروس قد دار علي أعمال عديدة منذ أن جاء من قريته النائية بصعيد مصر و لم يطل بقاؤه بها, عمل حمالا في محطة مصر, ثم عمل في المعمار, ثم عمل بوابا في احدي العمارات وانتهي العمل نهاية مأساوية, اذ وقعت مشادة بينه وبين مالك العمارة ورد محروس شتائمه بشتائم ومد المالك يده ليضرب محروس علي وجهه لكن محروس أمسك بيده ثم جذبه جذبة قوية وقع علي اثرها أرضا علي نحو بدا مضحكا للمارة, وأمام الشرطة وبمشورة أهل المالك أدلي  برواية متقنه عليها شهود شهدوا أن سبب المشاجرة سرقة محروس دجاجة من عشة دجاج للشاكي علي سطح البيت, وهي القضية التي حبس علي ذمتها شهرا وصارت جرحا غائرا  بلا شفاء .\nخلال فترة حبسه زاره "عم زاهر" مرتين  وفي إحداهما  كانت معه ابنته "فاطمة" التي كان قطار الزواج يوشك أن يتجاوزها اذ تجاوزت الثلاثين عاما, طويلة, نحيلة الي حد الهزال. سمراء البشرة بحكم جذور أبيها الأفريقية .\nبعد خروجه من السجن تزوج محروس من فاطمة , وكانت طيبة قلبها أكثر ما شده اليها  ولم يندم محروس – أبدا – علي زواجه منها و لم يكن  يأبه بنداء بعض السخفاء لامرأته بـ( الجارية  ) اشارة الي ربط البعض بين لون البشرة وبين العبودية .\nعاش محروس وفاطمة في فقر متواصل لايعرف الهدنه ولكن ( أولاد الحلال) لم يضنوا عليهما ببعض المساعدات النقدية وأحيانا العينية كبعض الطعام الفائض عن حاجتهم أو ملابسهم القديمة أو بعض القروش القليلة سيما في المناسبات الدينية .\nسكن محروس وزوجته فاطمة في حجرة فوق سطح أحد البيوت المتهالكة  ولم تكن بالحجرة اضاءة كهربية ولامورد ماء وتعودت الأسرة أن تدبر حاجاتها من خلال دورات مياه مسجد السيدة زينب بمشاق يوميه اعتادوها .\nأنجبت فاطمة من محروس أولادهما  شافع وزينب ونوال ومنيرة  ومحمود مع الزمن نسي محروس  قضية سرقة الدجاجة, ومن حسن الحظ أن الواقعه كانت في منقطة "بين السرايات" بالجيزة , فلم يكن الجيران بالسيدة  يعلمون شيئا عنها ولاكان أمره يعني لأحد خارج أسرته شيئا .\nبصعوبة بالغة وبعد عناء وتوسل وبكاء من فاطمة  وافق محروس علي التحاق شافع بالمدرسة الابتدائية شريطة أن يعود نهاية اليوم الدراسي ليجلس بجوار أبيه لمساعدته في اصلاح بوابير الغاز مرتديا ملابس رثة جلبا لعطف بعض المارة عليه وحفزا لمن شاء ليقدم له قرشا أو نصف قرش علي سبيل الصدقة, ولم يكن شافع يهنأ بحيازة النقود غير بضع ثوان ريثما يختفي المتصدق ليجد يد أبيه ممدودة نحوه لالتقاط النقود تنفتح وتنغلق بحركة تلقائية  دون كلمة ينطق بها أيهما .\nفي السادسة الابتدائية تواصلت توسلات فاطمة لأبيه أن يتركه يتقدم الي الامتحان بينما كان محروس يحتج بأنهم لايجدون ما يأكلوه فمن أين ينفق علي ولده في المدارس .\nفي يوم ظهور نتيجة الامتحان تلقي محروس خبر تصدر شافع قائمة الأوائل بفتور شديد , ولما راحت فاطمة تبدي سعادتها بأن ولدها أول المدرسة أشاح محروس بوجهه بانكسار قائلا" أول ولا أخير محصلة بعضها " .\nوتواصل الحاح وبكاء فاطمة وتوسلاتها والتحق شافع بالمدرسة الاعدادية ثم الثانوية, وكان يعمل خلال الدراسة حتي قرب موعد الامتحانات وخلال الاجازة الصيفية كلها في أعمال شتي, فهو أحيانا عامل بأحد الأفران وأحيانا بائع في محل عصير قصب أو مساعد لأحد الحلاقين بعد أن أتقن – بيسر – مهنة قص الشعر وأحيانا كان يمارس العمل مستقلا جالسا علي الرصيف داعيا المارة لقص شعوردهم وكان كل زبائن الرصيف من المعدمين فلم يكن أيهم يدفع أكثر من قرش أو قرشين علي أحسن الفروض لكن شافع كان يعزي نفسه بكلمات أمه عن ( النواية التي تسند الزير),  وتارة كان يغسل سيارات الأثرياء مقابل قروش قليلة يتلقاها سعيدا.\nبعد حصوله علي الثانوية التحق شافع بكلية الطب وواصل رحلة العمل الشاقة كمعركة حياة أو موت. سارت الحياة  جافة عصيبة علي البيت كله حتي تخرج شافع في كلية الطب, وأمضي فترة تدريب ثم التحق بمركز طبي قرب حي المنيرة .\nكانت كفاءة شافع وأخلاقه الطيبة من المسلمات بين زملائه وسائر العاملين بالمركز الطبي, فهو هاديء  قليل الكلام كثير الصمت شديد الاتقان لعمله, علي وجهه علامات أنفة تبدو لمن لايعرفه تعبيرا عن الاستعلاء والتكبر برغم أن عينيه مسكونتان بوجع مكسور مكتوم من رحلة عمر من الشقاء.\n لم يخل الأمر من منغصات تقع- قدرا-  دون ترتيب, فما من مرة التقي بصاحب قديم لأبيه إلا ذكره – دعابة أو حسدا – بواقعة سرقة أبيه دجاجة وألمح اليه أحد زملائه بعلمه بسبق عمله صبي حلاق, قالها من باب المداعبة السمجة مرددا أن الطبيب الفاشل خير منه حلاق خاصة اذا كان صاحب خبرة في باب الحلاقة علي الأرصفة, وأضاف ضحكة ساخرة ونظرة إلى عيني شافع أذابت قلبه ألما وقهرا, ولم يفكر في الدفاع عن أفكار من قبيل (شرف العمل) لأن الملف كله مما يبدو للغالبية مجلبة للخزي والعار وخوفا من أن يجابه دفاعه بمزيد من فتح الجروح المستعدة للنزيف .\nكانت خيالات شافع تدور حول فكرة (النجاة) من ماضي صار شوكة في حلقه, شوكة مؤلمة لايشعر بوخزاتها الدامية والده وتصل إلى باقي الأسرة بشكل واهن , كان هو من صعد وهناك قوي مجهولة تارة معلومة تارة تصمم علي وضعه حيث لايتجاوز من الشعور بالقيمة ما تريد, وكان أول ماخطر له أن يفر إلى أوربا أو أمريكا ليكمل دراسته ويعمل ثم يساعد أسرته, لكنه أبعد الفكرة عن ذهنه لأن أباه وهنت عظامه سيما وأوربا أو أمريكا تحتاجان دراسات لاتبقي له ما يساعد به الأسرة علي مواصلة رحلة العوم و السباحة ضد تيار الفقر الضاري .\nفي مجلس أسري تم اتخاذ قرار بأن تترك الأسرة القاهرة الي قرية نائية بالصعيد هي موطن محروس الذي غادره إلى القاهرة بحثا عن الرزق , كان ماجعل خيار العودة الي القرية خيارا عمليا وحيدا هو ضيق ذات اليد  علي نحو يجعل من الصعب تدبير بديل اقامة يسع الجميع مع وجود بيت عائلة محروس جاهزا للسكني بعد أن تزوجت أخواته البنات وهاجر هو إلى القاهرة .\nحاول محروس أن يعترض علي قرار الرحيل بحجة أن حياتهم مشرفة وأنه لما سجن انما سجن ظلما لأن (العرق الصعيدي) أبي أن يتلقي الشتائم دون رد لكن حجة شافع كانت دامغة اذ قال لأبيه وعيناه دامعة (يا أبي من يقرأ ومن يستمع ؟ تاريخنا يشرفنا ربما أمام أنفسنا أو قل اننا نحاول أن نقنع أنفسنا بأنه تاريخ مشرف مع أننا نتمني في قرارة أنفسنا  لو كان لنا غير هذا التاريخ, لكنه عند الغالبية الساحقة من أهل مجتمعنا تاريخ مخزي يجعل صاحبه يتردد الف مرة قبل أن يرفع رأسه, هل أدافع عن أمي الجارية في نظر البعض وأتذرع بأن اللون لايعيب في مجتمع يتنفس العنصرية والروح الطبقية , أم أدافع عن عملي حلاقا علي الأرصفة معدودا عند الكثيرين في فئة المتسولين, وحتي التسول هل كان بعيدا عن حياتنا بالفعل؟  واذا كان دفاعي هذا مقبولا فكيف أقنع الآخرين بأن قضية سرقة الدجاجة ملفقة ؟  نحن هنا محكوم علينا في دائرة معارفنا الا نرتفع عما يقدروه لنا من القيمة مهما تغيرت أقدارنا, وكل من يعرفنا يحمل لنا مطرقة جاهزة لتهوي علي رأس من فكر منا في رفع رأسه.\nاتفقت الأسرة أنها بالرحيل( تحلم) ومن حقها أن تحلم (بميلاد جديد), وكان عزاء محروس الوحيد في ترك القاهرة أنه يعود لأهله وموطن ذكريات عمره الباكرة.\nبارك محروس الرحيل في النهاية رغم احساسه أن القرار يحمل في طياته معاني تزعجه, فليس في حياته فيما يفهم – وفي الواقع – ما يشين .\nاستقرت أحوال الأسرة في موطنها الجديد القديم بمحافظة سوهاج  وسرعان ما افتتح شافع عيادة طبية في عاصمة المركز وحقق نجاحا سريعا واكتسب سمعة طيبة مهنيا وأخلاقيا,  وراح – ومعه الأسرة – يرون من الحياة لونا ورديا مبهجا غاب عنهم طوال عمرهم , وكانوا لايكفون عن التواصي بنسيان ما كان من أيام الكفاح أو الشقاء وطي صفحتها خاصة أمام الآخرين, وهو منطق معقول فقد هربوا بـ (عارهم ) من مجتمع أكثر انفتاحا في القاهرة فكيف بهم اذا فتحت ملفاتهم في قلب الصعيد الجواني الأكثر انغلاقا والأشد تعصبا للقيم التي تلاحقهم بسياطها.\nتزوج شافع من طبيبة زميله وتزوج باقي اخوته, وصاهروا عائلات طيبة المكانة والسمعه, وساعدهم علي ذلك أن محروس ينتمي لعائلة طيبة وان كان من فرعها الأشد فقرا .\n صار لكل من الأبناء  بيت لائق والتحق محمود  أصغر أبناء محروس بوظيفة حكومية .\nأعاد محروس بناء بيت أبيه بعد أن اشتري أنصبة باقي الورثة وصار ضمن أعيان القرية , واعتاد أرتداء ملابس قيمة أضافت اليه مهابة فوق مهابة استمدها من بسطة جسمه الباديه ووقارمظهره وكان يقضي أكثر وقته في المسجد ,  وفي الليل يسهر مع من بقي من أصدقائه علي قيد الحياة وفي بعض الأحيان يسعي الي الاصلاح بين المتخاصمين سيما بين الأزواج .\nعندما اقترب الحاج محروس من عامه الثمانين  , كانت ذاكرته قد أصابها بعض الوهن أو  الخراب بحكم الزمن ومعاناة العمر , وكان يخلط أحيانا في الحديث وراحت تتسرب من شفتيه كلمات وايماءات تفزع أولاده خاصة شافع .\nوزادت حالة الحاج محروس ترديا , وكان من المستحيل وقف الخطر الداهم علي مكان الأسرة الجديد إلا باجراء مستحيل وهو حبسه في البيت لايخرج منه .\nكان شافع يجلس مع أبيه محذرا ومرددًا خطبا بليغه  وكان الأب نصف مقتنع بما يقوله ولده أو قل انه مقتنع أن مجاراة الناس توجب الصمت عن تاريخ يعتبره وساما علي صدره .\nووقع ماكان مقدرا أن يقع, جلس محروس يوما مع بعض أصدقائه وراح يفيض.. فاض ولم يبق شيئا من رحلة كفاحه وصعوده. وكان من الطبيعي أن السر قد خرج إلى العلن عن دائرة سيطرة صدور أصحابه الموجوعين به والحريصين علي كتمانه .\nولاحظ شافع تغير نظرة ولهجة بعض المتعاملين معه تغيرا لم يرحه, وبحكم حساسية قابعه في عقله وحاسة شم هائلة في أعماقه تجاه تاريخ أسرته المضني راحت الشكوك تتتهش  قلبه وعقله لكنه كان يطردها مستعيذا بالله من وساوس الشيطان .\nلم يكن شافع متحمسا للترشح في انتخابات المجلس النيابي ولكنه وافق أمام الحاح عشرات الآلوف من أقاربه ومعارفه وقال بعضهم ان المعركة محسومة لصالحه لأن أبرز المتقدمين هو تاجر مخدرات وسلاح,  سيء السيرة ينتمي إلى عائلة من البلطجية لم  يجدوا من يقف أمامهم وأن العناية الالهية ساقت الدكتور شافع  ليكون للمركز من يليق بتمثيله حقا في المجلس النيابي خاصة أن عائلته الكبري عريقة حسنة السيرة .\nوبدأت الحملات الانتخابية هادئة ثم راحت نبرتها تعلو كلما اقترب موعد الانتخابات , حتي كان اليوم السابق علي اجرائها .\nكان شافع يسير بسيارته بأحد الشوارع الرئيسية بالمدينة ويشاهد في شيء من الحماس لافتات علقها أنصاره تدعو الناس إلى انتخابه لجدارته, ثم لفت نظره لافته عليها كلمات بدت  غريبة , تجاوزت سيارته اللافته لكنه حدس أنها تحمل شرا وانقبض قلبه وعاد بالسيارة الي الخلف ليقرأ ( انتخبوا الشريف مهران ابن الشريف وحفيد الأشراف، ولاتنتخبوا ابناء الجواري ولصوص الفراخ.. وعلي اللافته صورة تخيليه لامرأة سوداء البشرة, حافية , ترتدي ملابس رثة  مهلهلة, تحمل طفلا  تتسول به وتمد يدها إلى المارة وبجوارها شرطي يمسك بلص بيده دجاجة.. وتحتها عبارة هل يليق بشرفكم أن يكون ممثلكم ابن هذا وهذه).. لم تكن هناك حاجة لكتابة الأسماء  فقد ذاع كل شيء من كل فم إلى كل أذن همسا .\nفي سرعة عدل الدكتور شافع عن طريقه وعاد متجها صوب بيت أبيه وقص عليه ما رأي, فقال الأب انه لم يذع سره الذي يعتبره شرفا ومجدا  الا أمام عشرة رجال هم أصدقاء عمره, وغالبيتهم من أقاربه, ولما وجد ولده يخر مهزوما  باكيا راح يعتذر بأنها (زلة لسان)\nوراح شافع يتمتم (زلة لسان قتلتني)\nراح شافع يفكر- في طريقه إلى بيته - أو بالأحري يدور عقله في هلوسات, يتنازل عن الترشح؟ لكن سرعان ماتلقي عقله الاجابة مايفيد التنازل وقد شاعت الفضيحة ثم ان موعد التنازل انتهي\nنعم الموعد انتهي.. ليس الموعد وحده هو الذي انتهي\nعاد شافع الي بيته صامتا ودخل إلى حجرة نومه وأغلق الباب ونام .\nفي صباح اليوم التالي كانت الانتخابات و دارت بالمدينة والقري التابعة لها  عدة سيارات تتبع "مهران"  أبرز منافسي الدكتور شافع عليها مكبرات  صوت تقول  ( أنتخبوا مهران بك  الشريف ابن الأشراف واياكم وأولاد اللصوص والجواري..  بينما قرب الظهيرة كانت هناك سيارة  وحيدة تمشي علي مهل  تحمل مكبر صوت يقول بصوت باكي حزين   (.... والدكتور شافع محروس قريب ونسيب عائلات... والعزاء قاصر علي تشييع الجنازة ) !!

الخبر من المصدر