شعبويون وانتحاريون

شعبويون وانتحاريون

منذ 7 سنوات

شعبويون وانتحاريون

أوروبا على أعصابها ومصيرها معلق فى الفضاء السياسى.\nبأى قدر يمكن لليمين المتطرف المضى فى الانقلاب الاستراتيجى، الذى تولد عن الخروج البريطانى من الاتحاد الأوروبى برسائله ومخاوفه على مستقبل الاتحاد كله وصعود «دونالد ترامب» بخطابه الشعبوى ضد المهاجرين والأقليات إلى الرئاسة الأمريكية.\nوإلى أى حد يمكن لذلك اليمين أن يتغلغل فى بنية صناعة القرار ويقلب قواعد اللعبة السياسية، التى استقرت بعد الحرب العالمية الثانية رأسا على عقب؟\nوكيف تصبح صورة أوروبا بعد أكثر من قرنين على الثورة الفرنسية وما استقر فى دساتير دولها من قيم إنسانية بغض النظر عن مدى الالتزام بها؟\nوجدت تلك الأسئلة إجابة أولية عليها فى الانتخابات الهولندية أنه يمكن وقف تقدم اليمين المتطرف.\nلم تكن مصادفة أن تتجاوز ردات الفعل الأوروبية من اليسار واليمين التقليديين على نتائج تلك الانتخابات الحدود المعتادة إلى ما يشبه الاحتفال الجماعى.\nغير أن كسب اختبار انتخابى لا يعنى بالضرورة أن الخطر زال، فالأسباب التى أدت إلى صعود الشعبوية ماثلة فى بنية مجتمعاتها، كما فساد وفضائح نخب الحكم السائدة وبيروقراطية الاتحاد الأوروبى، فضلا عن أنها تتغذى على الإرهاب الذى يروع الحواضر الأوروبية من وقت لآخر بعملياته الانتحارية.\nالشعبويون والانتحاريون وجهان لعملة واحدة، وكلاهما يبرر وجوده بالآخر.\nبصورة ما يمكن اعتبار خسارة «جيرت فيلدرز» اليمينى المتطرف مكسبا للعالمين العربى والإسلامى، كما لأوروبا الحديثة، فهو موغل فى العداء لكل ما له صلة بالإسلام من كتابه المقدس إلى مساجده ومراكزه الدينية فى هولندا.\nغير أن ذلك المكسب تحوطه تساؤلات جادة حول مدى إدراكنا ــ هنا فى الإقليم ــ لخطورة ما قد يطرأ من انقلابات أوروبية على مستقبلنا نفسه.\nبدا العالم العربى غائبا تماما عما هو موصول بمستقبله، بينما تجلى التداخل التركى نوعا آخر من الشعبوية يسىء إلى أية قضية.\nفقد سعى مسئولون أتراك، بينهم وزير الخارجية «مولود جاويش أوغلو»، إلى استخدام العاصمة أمستردام، حيث تتمركز جالية تركية كبيرة كمنصة دعاية وتعبئة لدعم التعديلات الدستورية المرتقبة، التى تعزز سلطة «رجب طيب أردوغان».\nتناقض ذلك السعى مع الأوضاع الداخلية الهولندية غداة الانتخابات النيابية.\nتعديلات «أردوغان» الدستورية تكرس لدولة الرجل الواحد، وسجله فى الحريات الصحافية وحقوق الإنسان وضمانات المحاكمات العادلة مخز، فإذا ما سمحت السلطات الهولندية بتلك المنصة تعرض نفسها أمام أنصارها الليبراليين لانتقادات حادة تضعف من حظوظها الانتخابية.\nبالوقت نفسه فإن اليمين الشعبوى لن يتورع عن استخدام تلك المنصة التركية لإثارة حملات كراهية جديدة ضد الإسلام والمسلمين، فلا توجد سوابق معروفة فى أن تستخدم دولة ما أراضى دولة أخرى فى مهرجانات انتخابية تخصها.\nلم يكن «أردوغان» مستعدا أن يتفهم حساسية الموقف الهولندى فى وقت انتخابات ولا خشية تغلغل اليمين المتطرف.\nحاول أن يوظف الأزمة لتعبئة الرأى العام فى بلاده ضد من أسماهم «فلول النازيين» ــ قاصدا القوى والتيارات السياسية التى تحارب اليمين المتطرف ــ لحسم نتائج الاستفتاء التركى على تعديلاته الدستورية.\nانتهكت المعانى والألفاظ إلى حدود غير متصورة بأى منطق، فأسبغ الوصف نفسه على المستشارة الألمانية «أنجيلا ميركل».\nنفس المفارقة أقدم عليها «فيلدرز» بتشبيه «القرآن الكريم» بكتاب «كفاحى» للزعيم النازى «أودلف هتلر».\nخلط الأوراق من طبائع الشعبوية التى تخاطب الغرائز لا العقول.\nبالتوجه العقائدى فإن «فيلدرز» عنصرى يعادى الأقليات والمهاجرين ويسعى إلى طردهم وإلغاء أى مظهر للإسلام.\nهو صيغة هولندية من أفكار «هتلر»، ومع ذلك فإنه بالخطاب الشعبوى أحال الاتهام إلى آخرين دون أن يتخلى عن جوهره.\nعلى نحو آخر من انتهاك المعانى قال رئيس الوزراء التركى «بن على يلدرم»: «إن الانتخابات الهولندية أظهرت جوهرية الدور التركى وتأثيره فى لجم العنصرية فى أوروبا».\nثم قال دون تحرز: «إن الدول الأوروبية تبنى سياساتها الآن وفقا لتركيا».\nمثل تلك التصريحات لا تستند على أى أساس حقيقى ولا شبه حقيقى.\nتركيا المأزومة فى طبيعة نظامها وفى وجودها نفسه، حيث تتهددها سيناريوهات إنشاء دولة كردية تخصم من كتلتها السكانية نحو ثلثها ليست فى وضع يسمح لها بالحديث على هذا النحو المتعالى، لكنها الشعبوية التى تخاطب الاستهلاك المحلى قبل حسابات المنطق والحقائق.\nكأى مشهد هزلى من هذا النوع، فإن الحقائق سوف تتجاوزه سريعا وتبقى الهواجس تطرح تساؤلاتها الجوهرية عن مستقبل أوروبا وتبعاته الخطيرة على المستقبل الإنسانى، وقد اقتربت مواقيت الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأكثر خطورة وأهمية.\nحسب إجماع استطلاعات الرأى فإن رئيسة حزب «الجبهة الوطنية» «مارين لوبن» فى وضع انتخابى يؤهلها لجولة الإعادة الحاسمة، بينما ممثلو الأحزاب اليسارية والجمهورية فى وضع مرتبك لم يسبق له مثيل منذ تأسيس الجمهورية الخامسة عام (١٩٥٨).\nيلفت النظر فى الانتخابات الفرنسية أن الجواد المحتمل الآخر لجولة الحسم «إيمانويل ماكرون» أسس حركة ليبرالية منذ عام واحد، واكتسب أنصارا من توجهات متباينة بين اليمين واليسار.\nأكثر المعانى وضوحا فى المشهد الفرنسى أن مؤسسة الحكم بأحزابها التقليدية التى تتداول السلطة توشك على التداعى دون أن يعرف أحد إلى أين؟\nوقد كان غلاف مجلة «الإيكونوميست» الاقتصادية الرصينة فى الأسبوع الأول من مارس الحالى تعبيرا عن مدى القلق الأوروبى العام من نتائج تلك الانتخابات، وما قد تفضى إليه من انقلابات استراتيجية فى قلب القارة العجوز.\nبعبارة محملة بهواجس المستقبل وما قد يحدث فيه تصدر غلاف المجلة البريطانية: «الثورة الفرنسية التالية».\nباريس قضية أخرى ووزنها استثنائى فى التاريخ الأوروبى.\nإذا ما سقطت فى قبضة اليمين الشعبوى فإنه انقلاب تاريخى كامل على إرث إنسانى ألهم بالثورة الفرنسية قبل قرنين قيم الحداثة والحرية والمساواة.\nوعبر طرق متعرجة وصراعات مفتوحة لحقتها الدول الأوروبية الأخرى بدرجات متفاوتة.\nإلى أين يمكن أن يفضى الانقلاب المضاد؟\nوإلى أى مدى يؤثر فى الاستراتيجيات الغربية ومستقبل الاتحاد الأوروبى نفسه ومنظومته الدفاعية وطبيعة علاقته بإقليمنا المشتعل بالنيران؟\nثم ما حدود القدرة الفرنسية على تحمل الأزمات الداخلية المحتملة التى ترشح جماعات العنف والإرهاب إلى مزيد من التمركز؟\nبيقين فإن المقاومة الفرنسية سوف تكون أكبر والصراعات أفدح مما جرى فى أمريكا بعد صعود «ترامب»، ولذلك تداعياته على استقرار القارة كلها.\nالاختبار الهولندى مهم والاختبار الفرنسى حاسم.\nوهناك اختبارات أخرى بمواقيت متعاقبة تشمل دولا أوروبية مركزية مثل ألمانيا، حيث مركز الثقل الاقتصادى للاتحاد الأوروبى.\nالسؤال يتجاوز أوروبا إلى الإقليم الذى نعيش فيه، لكننا لا نبدو منتبهين لانقلابات قد تحدث وتعصف بشلالات دم جديدة.

الخبر من المصدر