في غرفة التشريح.. طيفها لم يفارقني

في غرفة التشريح.. طيفها لم يفارقني

منذ 7 سنوات

في غرفة التشريح.. طيفها لم يفارقني

يرحلون وذكراهم لا ترحل، تدق ساعة الموت لا تستأذننا ولا تستأذنهم، لكننا لا ننسى.\nفي الغرفة، فاحت رائحة الموت تنبعث في الأرجاء. الساعة تشير إلى التاسعة صباحاً أو أكثر بقليل، والتاريخ ينم عن يوم شتوي تسلل برده إلى قلبي من دون استئذان ودون أدنى مقاومة منّي.\nجثث متمددة في غرفة التشريح تنتظر مشرّحها وتنتظر معه حقائق تريد أن ترى النور، تحكي عن موت محقق انتهت معه فصول حياة كل واحد منهم بهوية وتاريخ وفاة سُجلت في سجلات الوفيات، تروي كل واحدة رواية أحبّة لم تجف دموعهم ولم يتقبلوا وقع الصدمة بعدُ. مشهد مرعب مريع أبى شتاء قلبي أن يمطر بغيومه أو يُسمعني حفيف الرّيح من هوله، بقيت صامدة شاردة.\nحاولتُ مراراً وتكراراً ألا أفكر في الجانب الوجداني بهذه الغرفة وألا أتخيلَ حالَ أحبّة يتلظون خارجها، فتجنبت النظر في ملامح وجوه هذه الجثث ونجحت نوعاً ما في هذا الهروب، لكنّي لم أنجح في أن أتناسى ملامحَ وجوهٍ أخرى لا تفارقني ولم أستطع أن أوقف شريطاً تتابعت مشاهده بسرعة.\nعادت بي غرفة التشريح في الزمن إلى أكثر من 3 سنوات، وجاءني طيف عزيزة عليَّ، حبيبة إلى قلبي.\nهي كذلك، دقت ساعة نهايتها دون سابق إنذار ورحلت عنّا دون أن نودّعها أو تودعنا، رحلت تاركة في قلوبنا جرحاً لم يندمل بعدُ ولن يفعل.\nلم تعاني مرضاً ولم تلازم فراشاً، عاجزة، خُطفت منّا ذات لحظة من خريفٍ حزينٍ على كلّ من عرفها.\nسوء تشخيصٍ صعدت بعده روحها إلى ربّها واستقرّ جسدها تحت الأرض إلى جانب رفيقٍ لها نادته السماء قبلها.\nأكثر من 3 سنوات مرّت على رحيلها، كنت كلّما تذكرتها تمنيت لو أنّها خضعت للطب الشرعي حتّى يلاقي كل ذي حق حقّه.. لكن حالما دخلتُ غرفة التشريح تبددت هذه الرغبة عندي.\nلطالما ميزها -رحمها الله- حياؤها وخجلها من التكشف أمام غريب لأي سبب كان، هكذا عرفتها منذ كنتُ طفلة. ورغم أنني لا أنظر إلى الأمر هكذا، فإنني لا أستطيع أن أتخيلها تخضع إلى ما إذا كانت على قيد الحياة تراه يخدش حياءها. وفي نهاية الأمر، لن يغير ذلك ساعتها ولن يشفي جرحنا.\nرحلت ولم يرحل طيفها، تركتنا وروحها لم تتركنا.\nصرت أراها فيَّ وفي كلّ تفاصيلي، في قطع البسكويت التي لا أستطيبها إلا بعد أن أغمسها في الماء، وفي كأس القهوة على فطور الصباح حين أبلل فيه قطع الخبز قبل أن آكلها كما كانت تفعل وكما تعلمت منها وفي ملامحي التي تشبهها.\nأراها في أكلاتها المفضلة وفي برنامجها الكرتوني الذي كانت تنتظره مع أخي وتسألنا عنه مراراً إذا ما تأخرنا في مشاهدته.\nوأراها في كُحل العيون ينزل على مقلتيها، وفي حمرة الحناء تورد كفيها، وفي الأساور تزين معصمها يتردد صوتها إلى الآن في أذني.\nأنتظر فجراً تسبيحَها، وعند شروق الشمس شروقها، ومع زقزقة عصافير الصباح صوتها لا يكف عن ترديد أدعيتها لنا، أنتظر كثيراً وكلّها لا تأتي.\nأذكرها في عيد الأم وعيد الحبّ، وفي كل الأيّام وأذكر معها طفولة اختُصرت فيها، طفولة بدأت معها منذ سنّ الستة أشهر، خلتها بعد ذلك حين صرت أعي قليلاً أنّها أمّي فلم أكن بوجودها أبحث عن غيرها يؤنسني ويسلّيني، أقضي اليوم معها هادئة لا تستهويني دُمىً أو أي ألعابٍ أخرى كباقي الأطفال، تفاصيل يومها كانت متعتي الوحيدة.\nمضت لحظاتنا يملأها الفرح ومضت الأيام تغمرني بحبها، ولكن وقت الهجر قد حان وحلّ موتها، معلناً البعد بيننا. سارت جدتي إلى بارئها، لست أنساها وروحها لا تفارقني.\nفقط، أودّ أن أخبرها بأن ابنتها المدللة، وحفيدتها الصغيرة التي أتعبتها ليالي كثيرة بمرضها، ستصبح هي من تهتم لمرض المرضى وألم الموجوعين، ومن أجل روحها الراحلة تَعِدها بأنّها ستحْسن التشخيص حتى لا يفقد آخرون أمهاتهم فجأة كما فعلت هي، فألم الفقد قاسٍ موجع، ولكن ليس لنا غير أن نؤمن بأن لله ما أعطى وله ما أخذ؛ فإن أعطى فبرحمته وإن أخذ فبعدله، وقضاؤه نافذ في كلّ الأحوال، به رضينا...\nأعيد النظرَ إلى الجثث التي تحيط بي من جديد، أفكرُ فيها كما فكرت في جدتي ثم أتراجع.\nأتذكر أنّ لهم أزواجاً، آباء وأمهاتٍ، أبناء، أحفاداً، أحبة وأصدقاء، تراهم يشعرون كما أشعر ويتألمون كما أتألم، يفتقدون ويشتاقون حتماً كما أفتقد وأشتاق.. لا، لا أريد أن أضعف ولا أريدُ أن أفكرَ هكذا كما وعدت نفسي منذ البداية.. لا أريد لدمعتي أن تنزل.\nورغم كل ما أُبديه من هدوء، هنالك دوامة في داخلي لا تهدأ، وطيف جدتي لا يفارقني منذ البداية.\nكمْ من أرواحٍ أحببناها بصدق فغادرتنا! وكم من أحبة كُسرت قلوبهم من أجل هذه الأرواح!\nكمْ من دموعٍ ذُرفت! وكمْ من أعزاء كانوا هنا بالأمس واليوم صاروا ذكرياتٍ لن تعود أبداً! نزيف متواصل لا ينتهي حتى بنهايتنا وليس لنا خيار أمامه سوى الإيمان بحتمية الموتِ.\nإلى روح جدتي، إلى أرواح جثث غرفة التشريح، إلى الأرواح التي فارقت الأجساد في برّادات الموتى، وإلى كل الذين انتهت رحلتهم معنا في هذه الحياة فنادتهم السماء مرحبة:\nنحن نحبكم كثيراً ونشتاق إليكم كثيراً وندعو لكم أكثر.\nأنار الله لكم قبوراً وغفر ذنوباً ورزقكم جنّة عرضها السماوات والأرض.\nأما الذين لا يزالون يشاركوننا رحلة الحياة، أولئك الذين يجهلون متى ساعتهم ولا يوقنون أنهم مُلاقوا حتفهم طالت هذه السّاعة أم قصرت، فإليكم أنتم وإليَّ:\nتمسَّكوا جيداً بأحبتكم، تمسَّكوا بكل ما أوتيتم من قوّة. كحِّلوا أعينكم برؤيتهم وأخبِروهم بحبّكم.\nالحياة أقصر بكثير ممّا تتخيلون حتّى تقضوها في الخصومات، تسامحوا، تصالحوا، أحسنوا واغتنموا الفرصة لترك ذكرى طيبة وأثر جميل في النّفوس حتى يقال من بعدكم: "رحم الله فلاناً كان.. وكان.".\nتذكَّروا دائماً أن الذين تحبونهم غداً قد لا يكونون هنا أو أنكم لن تكونوا وقد يطول الدهر حتى تجتمعوا يوم الحشر على باب السموات ففُوا هذه اللحظات التي تجمعكم الآن حقها وأسعدوا قلوباً ما زالت تنبض.\nارسموا البسمة على وجوه أحبتكم قبل أن يرحلوا أو ترحلوا.. فكلنا راحلون.\nالتدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

الخبر من المصدر