الفكرة أقوى من الرصاص

الفكرة أقوى من الرصاص

منذ 7 سنوات

الفكرة أقوى من الرصاص

الفكرة أقوى من الرصاص، هذه معلومة صادقة، فالفكرة لا تموت، وإن كنت تريد دليلاً على ذلك، فاسمح لي أن أحتج بك عليك فأقول: أنت إلى هذه اللحظة معجب بأناس وسدوا في قبورهم منذ مئات السنين وربما منذ آلاف السنين، وقد قفز أحد هؤلاء إلى ذاكرتك الآن، وهذا الإعجاب ليس قائماً على وسامة أجسامهم ولا لواسع نفوذهم أو حتى لمناصبهم المرقومة، ولكنه إعجاب بجودة أفكارهم، وإن اختلف مقياس الجودة من شخص لآخر.\nالفكرة لا تموت، وهي أبقى من الشخص، ولذلك فرسالة المرء في الحياة ورسالة المؤسسات والهيئات ما هي إلا فكرة، يخلص المرء لها ويتفانى في سبيلها ويسترخص لقاء تحقيقها كل غالٍ ونفيس. مات إسحاق بن راهويه وبقيت فكرته التي تلقفتها آذان تلميذه النجيب محمد بن إسماعيل البخاري فأنتج للدنيا صحيحَه الذي ملأ الآفاق نوراً وبصيرة، كان إسحاق قد خطرت له فكرة فأذاعها على تلاميذه يوماً فقال: لو أن أحدكم يجمع كتاباً فيما صح من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوقع ذلك في نفس البخاري، وأنت ترى نتيجة هذه الفكرة ماثلةً أمام عينيك كلما ذكرت السنة المطهرة.\nوالفكرة لا تحتاج للقهر ولا للقسر؛ كى يؤمن الناس بها، بل تحتاج فقط إلى أن تكون مؤثرةً في دنيا الناس سلباً أو إيجاباً، حتى يتفاعل الناس معها، فإن كان تأثيرها إيجابياً فهي مسك فواح وماء قراح، ينتفع بها القاصي والداني، أما إذا كان تأثيرها سلبياً فهي نقمة على العباد والبلاد.\nلم يستخدم غاندي القهر ولا العنف لتحرير الهند من قبضة الاستعمار الإنكليزي الفولاذية، بل استخدم الطرق التي لا تقاوم، فأدرك أن النيران لا تطفئ بالنيران، ولا بد من استعمال العلاج الناجع النافع لرد الإنكليز عن الهند مع حقن دماء مواطنيه، فكان سلاحه المقاومة السلمية -بمعنى الكلمة الذي شوّه مؤخراً- وتم له ما أراد.\nاخترع نوبل الديناميت وجلب ويلات لا حصر لها، وتوصل بول هيرمان مولر لمادة DDT التي وصمت بأنها أقذر مادة كيميائية عرفتها البشرية، كل هذه أفكار تباينت في غاياتها وطرق تحقيقها، بيد أنها أفكار خلدها الحدثان.\nالفكرة لا تموت، ولا تقتل ولا تنتحر، في حين أن الإنسان الطبيعي يموت، وربما يقتل وقد تتهاوى معنوياته وينسلخ من إيمانه فيسلم للموت أمره في حسرة ويأس فينتحر، ولطالما طوى اليأس نفوساً لم تقوَ على مجابهة تحديات الحياة وصعوباتها، أما الفكرة فهي ليست قابلةً للموت، أو القتل، أو الانتحار. انظر مثلاً إلى يانز سيملويس، هذا الطبيب المجري الأصل الذي عاش في النمسا، وقد حصل على درجة الدكتوراه في طب النساء والتوليد، وباشر عمله في مستشفى فيينا العام، وقد استرعى انتباهه أن عدداً كبيراً من النساء يتعرضن لحمى النفاس عقب الولادة وتنطوي صفحات أعمارهن سريعاً، وقد بلغت نسبة وفيات النساء كنتيجة لحمى النفاس ما بين 10 و35% وهو مؤشر خطير ويتطلب حلاً عاجلاً.\nأصبحت مشكلة الوفيات تمثل إزعاجاً لا يوصف، فجعل منها شغله الشاغل يرصدها قدر استطاعته، وقد اشتد به طموحه لاستئصال هذه المشكلة، وكان صادقاً مع نفسه، وبالملاحظة الدقيقة وجد أن العنبر الذي يعمل به زملاؤه تصل نسبة الوفيات به إلى 10% في حين أن العنبر الذي يعمل به لا تزيد نسبة الوفيات به عن 2%، فأعمل فكره وفكرته لتفسير ذلك حتى استنتج أن السبب في هذا التفاوت الصارخ يُعزى لعدم الاهتمام بغسل الأيدي.\nعمد سيملويس لشرح فكرته لزملائه، فرأوا في فكرته انتقاصاً من قدرهم وغالوا في تقدير الموقف، وشخصنوا الأمر وأهانوا الرجل واتهموه بالخبل، فلم ينَل كل ذلك من سيملويس، فهو صاحب فكرة ويستميت في سبيل تحقيقها، كانت فكرته نبيلة وترمي إلى إيقاف نزيف الأرواح المؤسف النازف، وإنقاذ الأمهات من براثن الموت المحقق. وكانت فكرته تصر على أن تخرج للنور، فقام بعقد ندوات في الأوساط الطبية للتعريف بالمشكلة وعرض الحل الموائم وقد اقترح غسل الأيدي قبل وبعد كل عملية ولادة باستخدام الجير المكلور، ولإيصال فكرته للمجتمع فقد قام بالكتابة في الصحف اليومية والمجلات العلمية المتخصصة وألَّف كتاباً حول مضمون فكرته، بل وكتب خطابات مفتوحةً لأطباء النساء والتوليد في أنحاء القارة العجوز من أقصاها إلى أقصاها، فلم ينتفع بأي من ذلك بحبة خردل.\nوزاد حنق زملائه عليه فلم يكتفوا بتشويه صورته في المجتمع، بل حرضوا عليه وأوغروا صدر المسؤولين حتى قاموا بفصله من المستشفى، وشطبوا اسمه من نقابة الأطباء، وطلقوا منه زوجته بالإكراه، وأودعوه مصحةً عقلية، ثم زجوا به في السجن، وأوعزوا للجنود فتناوبوا عليه الضرب والركل حتى فارق الحياة، وإمعاناً في التنكيل به بعد وفاته فقد تم منع دفنه في مسقط رأسه.\nبهذا طويت صفحة حياة سيملويس.. طويت حياة سيملويس الشخص، ولكن ماذا عن سيملويس الفكرة؟ بعد مرور ثنتي عشرة سنة على وفاة سيملويس، خرجت للحياة نظرية الجراثيم للكيميائي الفرنسي لويس باستور الذي درس فكرة سيملويس وبرهن على صحتها، عندها قامت الدنيا على ساق فاغرةً فاهها مناديةً بعبقرية سيملويس.\nقامت النمسا والسويد بصك عملات ورقية ومعدنية تحمل صورة سيملويس، ونقل رفاته إلى مسقط رأسه في بودابست، وأنشئت جامعة تحمل اسمه، ومتحف للتاريخ الطبي، ومجموعة من مظاهر الحفاوة بسيملويس الفكرة.\nكما احتفت واحتفلت منظمة اليونسكو بسيملويس الفكرة في عام 2008 بتخصيص يوم 15 أكتوبر/تشرين الأول من كل عام يوماً عالمياً لغسل الأيدي، وهو تجسيد لأهمية سيملويس الفكرة، فالفكرة لا تموت.\nكن صاحب فكرة تعِش طويلاً، ولا تيأس ولا تتكاسل، فما أبعد الخيرات عن أهل الكسل، وتذكر دائماً أبداً أن الفكرة لا تموت.\nالتدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

الخبر من المصدر