محمود نجيب يكتب: بداخلنا راندل ماكمرفي

محمود نجيب يكتب: بداخلنا راندل ماكمرفي

منذ 7 سنوات

محمود نجيب يكتب: بداخلنا راندل ماكمرفي

يقولون دائما إن النفس قيمة عليا مطلقة وإزهاق الأرواح جريمة. ربما أجهل الكثير مما حدث بالماضي القريب ولم أشهد أبشع الجرائم التي حدثت منذ أزل ولكن قد صارت مياهنا دما ودماؤنا ماء واستنكرنا أحداثا ضد الإنسانية ثم استيقظنا أمام التلفاز غير عابئين بما قد يحدث غدا.\nيكفينى أن أرى ما يحدث فى سوريا ومشاهد فلسطين فى مخيلتى وما نراه من نزاعات وحروب أهلية فى كل مكان كأنها وجبة ما قبل النوم، أسوأ ما في الأمر أننا قد اعتدنا على نشرات الأخبار الدامية والأشلاء المتناثرة التي يظهر نصفها تحت الأنقاض فى كل مكان، المناظر التي كنا نشمئز من رؤيتها من سنين مضت، أصبحت تمر علينا مرور الكرام صباح كل يوم كإعلان درامي عن لحوم البشر، ثم نمنا عاجزين صامتين آملين ألا نرى مثل هذا مجددا، ونحن لم نعد نحتمل العجز ولم نعد نطيق الصمت ولكن نشاهد الأبرياء عن كثب. أخشى أن نفقد القدرة على إبداء الاعتراض ثم تميل رؤوسنا بإيماءات التأييد دون قصد.\nأخشى أن يسلب منا الشعور بالألم ونصير مجرد آلات بيولوجية تفتقد لانفعالات الإنسان الأول، لكنى أؤمن تماما أننا جميعا بداخلنا راندل ماكمرفى.\nكنت أظن أن العالم وصل أقصى ما يمكن إليه فى التطور وأن ما سنراه لن يكون امتدادا مفاجئا تماما، لكنى مؤخرا أدركت أن هذا المكان بقدر ما نرى فيه من مظاهر التحضر إلا أنه قد صار سخيفا ومرعبا نفتقد فيه إلى الآدمية.\nيراودنى دائما أن هذه حقبة سيئة من الزمان وأننا قد انتهينا من الحروب منذ زمن مضى لنرى حروبا أسوأ تحت الطاولة وتلاعبا بأرواح بعدت كل البعد عن أشياء سئمت رؤيتها لأجد العالم قد قسم إلى أناس يملكون كل شئ وأناس فقدوا أنفسهم، لأدرك فيما بعد أن عجزنا يظل القاسم المشترك دائما ولا أدرى أيهما أكثر اتساخا، منظمات حقوق الإنسان والداعين إليها أم القمامة أمام منازلنا؟\nفى الحقيقة أرى أن أغشية الديكتاتورية تنتصر دائما على سياسة الحريات المطلقة لتحيط بنا هالة من القيود فى كل مكان والغباء صار هو السمة الدائمة المتحكمة والاعتراض أصبح انتحارا فنحن نعجز عن الاعتراض فى أوطاننا، فكيف لنا أن ندين حروب العالم؟\nلكنى أؤمن تماما أننا جميعا بداخلنا راندل ماكمرفى. إذن من هو راندل ماكمرفى؟\nالمخرج التشيكى ميلوش فوررمان سجنت والدته ومات والده فى معسكر اعتقال أوشفيز بسبب انضمامه للمقاومة التشيكية وفر هاربا من وطنه وقتها. ومن أبرز أفلامه فيلم “أحدهم طار فوق عش الوقواق” لجاك نيكلسون عن رواية لكين كيسلى تحمل نفس الاسم. يتناول الفيلم قصة شاب يدعى راندل ماكمرفى يدعي الجنون أثناء سجنه هروبا من نظام السجن المستبد، فنقلوه لمستشفى الأمراض العقلية ليجد ديكتاتورية مماثلة للحياة فى الخارج تتمثل فى إدارة المستشفى. ولا يتسنى لأي مريض أن يبدي برأيه أو يعترض على نظام المستشفى عموما لدرجة أنهم قد اعتادوا عليه. تبدأ محاولات راندل ماكمرفى فى التمرد وتغيير النظام والتغلب على الضغوط وقوانين المصحة بالاعتراض على الممرضات وبث الأمل فى زملائه قدر الإمكان كما أنه كان له فرصة فى الفرار ولكنه لم يرحل عن المستشفى لكن ينتهى به الأمر فى جلسات العلاج القاسية.\nوفى إحدى المشاهد يطالب ماكمرفى الممرضة بمشاهدة بطولة العالم للبيسبول ولكنها ترفض لأنها بذلك تخل بالجدول العام للمرضى وتخبره بأن عليه إقناع أكثر من نصف أشخاص العنبر على الأقل، كان عددهم ثمانية عشر مريضا لينجح ماكمرفى فى إقناع تسعة منهم بعد عناء. يذهب إلى الممرضة لترفض مجددا وتخبره بأن عليه أن يقنع شخصا آخر، وبالفعل نجح ماكمرفى فى إقناع الشخص العاشر وحينما ذهب إليها ردت بأن وقت التصويت قد انتهى فجن جنونه وصرخ بصوت عال ثم جلس أمام شاشة التلفاز يهلل ويصرخ كأن به مباراة بيسبول ليثير بذلك غضب الممرضة القمعية.\nيقولون دائما إن النفس قيمة عليا مطلقة وإزهاق الأرواح جريمة، أخشى أن تهجرنا أوطاننا، ونصبح ونمسي بلا مأوى ونسب الغربة بينما نشعر بها فى بيوتنا بقلوب أرهقها الحزن وعقول رغبت فى الرحيل وأجساد فسدت أرواحها، تتبرأ منا بلادنا وتتركنا ونتركها، ونذوق السعير عاجزين عن الاعتراض، نجهل مصائرنا وندمن الصمت، ويصير الملل صديقنا ونتخذ من الضيق مؤنسا ورفيقا، فبأعيننا نرفض ونغضب وبأيدينا نبعد ألسنة اللهب قبل أن تلتف حول أعناقنا.\nأعيدوا لنا ما تبقى من بلادنا قبل أن يدركنا الرحيل كغيرنا، ونسخط على ما تبقى من أيامنا إذا قضيناها مع أوطاننا، ونتحسر على أننا لم يحالفنا الحظ فى وجودنا بعيدا عن هنا، ونتخلص من أدران الماضى الذى كرهناه منذ أن أتينا. أخشى أن يدركنا الرحيل ونحن صامتين ولم نجرؤ ولم نصارح ولم ننبس ببنت شفة أخشى أن يدركنا الرحيل وقد دفعنا النفقات لمن سلبونا وطننا وتجنبنا ما وددنا قوله وخفنا العواقب وكرهنا الحقائق وصدق المبادئ واستيقظنا نائمين ثم نمنا بلا رجعة إلى الحياة مرة أخرى.\nيقولون دائما إن النفس قيمة عليا مطلقة وإزهاق الأرواح جريمة، لقد انتهى الأمر براندل ماكمرفى إلى الصدمات الكهربائية ووسائل العلاج القاسية حتى يصير مغيبا إلى أقصى مدة كزملائه، تماما كما حدث ويحدث وسيحدث لكل منا، ضريبة غضبك واعتراضك، لكنى فى الحقيقة لم أعد أجرؤ على ذلك لأن الصدمات الكهربائية قد تمكنت من البقية ولا أريد أن أصير مثلهم، لكنى أرثي الأوضاع فى صمت، تارة بالكوميديا السوداء وتارة بالحزن وقلة الحيلة لكنى متيقن تماما أن راندل ماكمرفى سيعود يوما ما، وإلىأن يحدث ذلك سأستيقظ على وضع داخلى سئ ثم نشرات الأخبار الدامية، ربما تزول الممرضة يوما ما ونتمكن من مشاهدة البيسبول. بداخلنا دائما راندل ماكمرفى.

الخبر من المصدر