يحكى أنَّ شِقّ كلمة.. شِقّ عدسة

يحكى أنَّ شِقّ كلمة.. شِقّ عدسة

منذ 7 سنوات

يحكى أنَّ شِقّ كلمة.. شِقّ عدسة

ثمة موقع عظيم على نهر نيرتفا يمكن أن تشاهد منه جسر موستار العتيق، المشهد هناك مغرٍ للغاية، كأن قطعة من الجنة سقطت، قِف في هذه الزاوية، وجِّه عدستك نحو الجسر، يقفز إليك تلقائياً في أقصى يسار الصورة حجر منقوش عليه ما معناه "حتى لا ننسى".\nالجسر المبني في القرن السادس عشر يُعد من أعظم الجسور التي خلَّفها العثمانيون في البلقان، وهو يربط شطرَي مدينة موستار، لكن في الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني لعام 1993، وخلال الحرب البوسنية، قصفه الكروات بستين قذيفة هدمت معظمه، إلى أن أعاد الأتراك بناءه عام 2004.\nالحجر المنقوش يذكِّرنا بجريمة هدم هذا الجسر الأثري وقطع أوصال المدينة، وربما يطمع في تذكيرنا بكل ما تعرَّض له المسلمون في البوسنة.\nشخصياً لطالما صادفتني مثل هذه العبارة "حتى لا ننسى" بلغات مختلفة خلال أسفاري في أنحاء متفرقة من العالم، خصوصاً تلك التي تعرضت لجرائم جماعية، ولطالما سألت نفسي: لماذا علينا ألا ننسى؟\nلوهلة قد يعتقد المرء العكس، أي أن علينا أن ننسى، أن نجنّب الأجيال القادمة أن يرثوا هذا الغضب منا ويسعوا إلى الثأر، لكن فكرت أن النسيان إنما هو بمثابة دعوة مفتوحة لكل مجرمي العالم، بأن ارتكبوا ما بدا لكم من جرائم، لن نفضحكم، لن نطلب الثأر، لن نعاقبكم، لن نعيد الحق لأهله، وستكرر أجيالنا اللاحقة أخطاءنا، تراجعت وقلت: لا، علينا ألا ننسى.\nعندما بدأت مقدمات الحرب في البوسنة وقبل أن تستعر وقبل أن يغمر طوفان الصحفيين سراييفو، كان الأهالي في الشارع يتجاذبونني من ملابسي، ما إن يعرفوا أنني صحفي، حتى أصور جثث الجنود المسلمين الذين قُتلوا خارج أراضيهم بعد أن أجبروا على المشاركة ضمن الجيش اليوغوسلافي في حرب لا علاقة لهم بها بين الصرب والكروات.\nكانوا يريدون أن يصرخوا ليسمعهم العالم، تدخَّلوا من فضلكم، أنقذونا، كنت خائفاً، أشعر بأنهم يُحملونني أمانة أكبر من طاقتي، كيف لحفنة من الكلمات والصور الفوتوغرافية أن تحقق رغبتهم، وكأني نسيت فعل التراكُم، لا أحد وحده يستطيع، لكن أنا وأنت وهو نستطيع، على شرط ألا أنتظرك أو أنتظره أو ينتظرنا، وإنما على كل منا أن يبدأ وفي الحال.\nبعد مرور أكثر من عام من الحرب، كان الناس قد ملّوا الصحفيين الذين لا يفعلون شيئاً سوى تصوير قتلاهم، فكانوا يقولون لنا: نحن نموت وأنتم تقبضون الثمن، كأنما يشيرون إلى أن ما نقوم به من تقارير متلفزة وتصويرهم وهم يتعرضون للقتل إنما يتحول إلى دولارات نتحصل عليها من مؤسساتنا الصحفية.\nنسي هؤلاء البسطاء أننا أيضاً قد نموت مثلهم، وأن قذائف الموت ليس بوسعها التفريق بين الصحفيين والمواطنين، لكن الحال اختلف عندما وقعت المذابح الكبرى، كانوا يدركون أن الموت بات قريباً منهم جداً وممن يحبون، فرغبوا في ألا يموتوا بالمجان، كأنهم يطلبون الثأر، كأنهم يقولون: وثِّقوا ما يجري، إذا لم يكن بوسعنا هزيمة هذا الشر، فلنفضحه، ولنخبر الأجيال القادمة به؛ لعلها تحولُ دون تكرار الأمر، لعلها تردّ حقَّنا.\nالصوت تسمعه بصعوبة، والصورة مهترئة، لكن المخرج سعيد جداً بما وقع في يديه، فصنَّاع الأفلام الوثائقية يتعاملون مع أي مادة أرشيفية كما يتعامل تجار الذهب مع مصاغهم، إنهم يدركون قيمتها المادية والمعنوية، ومن أجل ذلك بوسعهم تحطيم كل القواعد المهنية، إنها وثيقة تاريخية تثبت دعواهم وتؤكد رسالتهم التي يحملها الفيلم وتدعم نظريتهم.\nكنت مستعداً لأن أشتري أي مادة أرشيفية مهما كانت حالتها رديئة؛ لأنقل للناس ماذا جرى عندما هجّر ستالين شعب التتار بأكمله من بلاده إلى سيبريا ووسط آسيا، تخيَّلوا أن هذه الجريمة لم تُوثَّق، تخيَّلوا أن هذه الآلاف التي هلكت ليس هناك ما يدل على ذلك، تخيَّلوا أن لا وثيقة تدين الجاني.\nعلى مائدة العشاء في مطعم إيراني بلندن سألت صديقي الفلسطيني الداعي: هل وثَّقتم للثورة الفلسطينية، للانتفاضات، للنجاحات، للإخفاقات، للقيادات، للجواسيس؟ هل وثقتم للشوارع الفلسطينية، للقرى؟ هل وثقتكم أحاديث العجائز قبل أن يتوفّاهم الله ليحكوا للأجيال المقبلة ما جرى؟ صمتنا كلانا، وانصرفنا إلى الخبز الساخن.\nالتوثيق هو التاريخ، وبقدر ما نصيب فيه نقلل من تزوير التاريخ، التوثيق يا سادة هو ذاكرة الوطن التي لا يدركها النسيان، هو حلقة الوصل بين مستقبل الوطن وحاضره وماضيه، هو الشاهد الحي على نضال المناضلين، أفراداً وجماعات ومؤسسات، ولذا فإن ذاكرتنا هي الهدف الأول لعدونا؛ لأنها توثق لحقوقنا، وأن الأرض لنا، وأن الأسماء لنا، وأن النقش لنا.\nحكى لي الأصدقاء في اليمن أنه عندما قامت ثورتهم، خشي المصورون التقليديون كبار السن أن يقوموا بعملهم وسط هذا الخطر الذي لم يَخبَروه من قبل، وامتنعوا - إلا مَن رحم ربي - عن تسجيل وتوثيق مرحلة مفصلية في تاريخ بلادهم، الشباب الصغار أقدموا على ذلك دون أي سابق خبرة، ولما لم يكن لديهم أي معدات فقد استخدموا هواتفهم المتحركة الخاصة، ولم يصدقوا أنفسهم عندما تناقلت كبرى القنوات الفضائية صورهم، وهو الأمر الذي منحهم طاقة كبرى للاستمرار في جهادهم التوثيقي.\nلو أن هؤلاء الشباب الصغار قالوا: وما جدوى صورة بهاتف متحرك، ربما الحجر أقوى، ربما الرصاص أجدى، ما فضحت محاولات كل الثورات المضادة، ولظلت كل أخبار الثورات طيَّ وسائل الإعلام الرسمية، تطفف فيها ما شاءت، لكنهم أضافوا لذاكرة بلدهم صفحة مهمة قد تكون ملهمة للجيل القادم، إذا لم يكن بوسع الجيل الحالي أن يفوز.\nلكن إذا كانت هذه مهمة مقدسة، فالأهم كيف تتحقق؟\nيقول باولو كويلو: "إن إحدى أقدم الطرق التقليدية التي اعتمدها الإنسان لنقل معرفة جيله كانت القصص والروايات"؛ لذا فإن توثيق هذه المرحلة في شكل حكايات يضمن لها الخلود، وأقصد بالحكايات تلك الأفلام الوثائقية ليس بشكلها البرامجي التقليدي الممل، بل عبر هذه الأفلام المحكية بطريقة رائعة، التي يعرف صانعوها كيف يشحنونها بـ"المتعة" القادرة على جذب المشاهدين من كل عمر وباختلاف ثقافاتهم.\nالحكاية هي بندقية أخرى، بندقية لا تصيب ولا تقتل إلا الباطل المحتل والفاسد الحاكم، تحمي ذاكرة الوطن إلى من يأتي محملاً بكل أسباب النصر، إنها في نظري تحقق فريضة التوثيق، لكني أدرك أن الكثيرين لا يؤمنون بذلك، يعتقدون أنه كلام عاطفي، يبحثون عن عمل ضخم مؤثر يغيّر الأحوال مائة وثمانين درجة مرة واحدة، أما عدسة كاميرا وحروف مكتوبة فإنها إضاعة للوقت والجهد.\nيا صاحبي.. المعركة طويلة، وليس بالضرورة أن يتحقق النصر في حياتك، لكن تستطيع أن تشارك في تحقيق النصر حين تترك للأجيال المقبلة ما يحاربون به، ودون ذلك سوف ينسى الآخرون، بل سننسى نحن أيضاً.\nقُم إلى حروفك وعدستك، وثِّق ثورتك، الإخفاقات والنجاحات، الأبطال والخونة، الزعماء والبسطاء، صعِّبوا عليهم تزوير التاريخ، أغرقوهم بالحقائق، دعوا أولادكم وأحفادكم يردّدون حكايتكم، لا تستصغِروا فِعلَكم، لا تحقروا معروف الوثيقة، وكما يمكن أن ينجينا من النار شِقُّ تمرة، يمكن أن ينجينا شِقُّ عدسة، وشِقُّ كلمة.\nالتدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

الخبر من المصدر