المحتوى الرئيسى

الذين يكافحون مكافحة الفساد !

01/14 09:10

في مجتمعٍ لا يكف عن الأنين والألم بحثاً عن اللقمة والدواء تصبح الحرب على الفساد هي أشرف وأنبل الحروب التي لا تقل قداسة عن حرب استراد أرض الوطن. كنت وما زلت أرى أن مكافحة الفساد هي أحد أسس الشرعية الأخلاقية لأي نظام للحكم. وإذا كان صندوق الانتخابات يمثل (شرط ابتداء) لشرعية نظام الحكم فإن النزاهة ونظافة اليد ومكافحة الفساد تمثل ( شرط استمرار) لهذه الشرعية. ولعلً السؤال الذي تثيره قضايا الفساد التي كُشف عنها في الأيام الأخيرة هو هل تكون الحرب ضد الفساد حرباً شاملة ضد كل صور الفساد المالي والسياسي والمهني والمجتمعي أم تكون حرباً محدودة لملاحقة من فاحت روائحهم بأكثر مما ينبغي ؟ ثم ، وهذا سؤال مهمُ آخر، كيف السبيل إلى تحييد دور القوى وجماعات المصالح المتضرّرة من مكافحة الفساد ؟

لنعترف ابتداء أنه من المأساوي والطريف في آن معاً أن يكون لدينا من الفساد بقدرما لدينا أيضاً من دراسات وكتابات حول مكافحة الفساد! وهذه ملاحظة قابلة للتعميم على العديد من الظواهر والقضايا الآخرى في مجتمعنا مثل التعليم والأمية والمرور والقمامة. واقع أن لدينا مشاكل معروفة الأسباب والحلول لكنها تبقى مزمنة يبدو مسألة تستعصي على الفهم ! فهل يعني ذلك أننا نفتقد الهمة والإرادة ؟هل ثمة قوى وجماعات مصالح غير مرئية تسعى إلى إفشال سعينا لمكافحة الفساد أو إصلاح التعليم أو القضاء على الأمية أو إزالة تلال القمامة المُكدّسة في شوارعنا ؟ أنا أميل بشدة إلى هذا التفسير الأخير. فوراء كل فساد فردُ فاسد لكن وراءه أيضاً جحافل من القوى والجماعات التي من المؤكد أنها تستفيد من بقاء الفساد. هذا بالطبع تفسيرٌ لا يُعفينا من مسؤولية التقصير. لكن دعونا نعتبر أنه السبب العميق والبعيد للمشكلة فيما يبقى السبب القريب والمباشر هو أننا نفتقر إلى شجاعة خوض حروب الإصلاح ، فما زالت ثقافة «إيثار السلامة» هي الثقافة الأكثر تأثيراً ورواجاً لدى الكثيرين من المسؤولين في بلادنا. 

ننسى أن ثمة وسائل وألياتلمكافحة الفساد ثبت نجاعتها على نحو اليقين في الدول الناجحة لكننا لا نعرف تفسيراً لعزوفنا عن استخدام مثل هذه الوسائل والآليات. ففي عصر التكنولوجيا الرقمية الذي نعيشه أصبح تعميم الخدمات الإلكترونية أو ما يُسمى بالحكومة الإلكترونية التي تختصر إلى أبعد حدٍ ممكن العنصر البشري هو أحد أنجع وأسرع وأنظف وسائل الشفافية الإدارية الحكومية وأقوى أدوات القضاء على الفساد لا منازع. ففي كل مرة ننجح فيها في جعل الخدمة الإدارية تتم إلكترونياً مثلما نجحنا في نظام الالتحاق الالكتروني في الجامعات بدون توسط عنصر بشري فإننا في اللحظة نفسها ننجح في القضاء على إمكانية محتملة (وربما مرجّحة) لارتكاب الفساد. 

وبرغم هذه الحقيقة البسيطة، وبرغم أن تعميم نظام الحكومة الإلكترونية ممكنٌ ومتاحٌ وغير باهظ التكاليف في كل المجالات تقريباً بما فيها الاستثمار والتقاضي الالكتروني والضرائب فإن أحداً منا لا يدرك السر في عدم تطبيق مثل هذه النظم الالكترونية السهلة وغير المكلفة. نحن نبتاع في أوربا مثلاً من محل معين أو نذهب إلى طبيب خاص أو نُجرى فحصاً في مختبر للتحاليل وفي اللحظة التي ندفع فيها السعر أو المقابل تكون مصلحة الضرائب متابعة في اللحظة نفسها العملية المالية التي تمت لكي تحصل الدولة على حقها ويحصل الممول على حقه. السؤال هو من الذي يؤخر أو يعرقل تطبيق هذه النظم الالكترونية الفورية وتعميمها في مجالات الاستثمار أوالضرائب أوالتقاضي الالكتروني ؟ من الذي يكافح مكافحة الفساد ؟ 

للفساد صورٌ وأشكال وألوانٌ وفنونٌ ايضاً.الفساد التقليدي الخشن الفج هو الأكثر إثارة للانتباه مثل الاعتداء على المال العام أو الرشوة أو الكسب غير المشروع ، لكن هذا لا ينفي أن ثمة صوراً وفنوناً أخرى للفساد الناعم الماكر. تضارب المصالح هو أحد أخطر صور هذا الفساد، وهو يشمل كل حالة يكون فيها للمسؤول الحكومي أو الشخص المرتبط به مصلحة مادية أو معنوية تتعارض بشكل محقق أومحتمل مع متطلبات المنصب أو الوظيفة من النزاهة والاستقلال والحفاظ على المال العام أو تكون سبباً لكسب غير مشروع لنفسه أو للشخص المربط به. نعم لدينا القانون 106 لسنة 2013 لحظر تضارب المصالح، وهو يتضمن أحكاماً مهمة لكنه يظل أقل مما ينبغي حينما نقارنه بالتشريعات المشابهة لحظر تضارب المصالح في البلدان الناجحة. بل إن هذا القانون قد انطوى على ما يشبه اللغز الذي يحتاج إلى تفسير. فبعد أن صدر القانون ومادته 15 تنص على أنه يحظر على المسؤول الحكومي عند تركه المنصب أو الوظيفة لمدة ستة أشهر تالية العمل في القطاع الخاص لدى شركة أو جهة كانت تابعة أو مرتبطة بعمله السابق أو خاضعة لرقابته إذا بهذه المادة وحدها يتم تعديلها بموجب استدراك من رئاسة مجلس الوزراء ينشر في الجريدة الرسمية بتخفيض مدة الحظر من ستة أشهر إلى ثلاثة أشهر (!!) لم يفسر لنا أحد من الذي اقترح وكيف ولماذا يتم تخفيض مدة الحظر من ستة أشهر إلى ثلاثة أشهر فيما التشريعات في بلدان أخرى تطيل مدة الحظر إلى عدة سنوات وليس ثلاثة أشهر! والواقع أن مكافحة الفساد يجب ألا تقتصر على صور الفساد الحكومي أو الإداري، هناك فساد من نوع آخر يضرب بجذوره في تربة المجتمع نفسه. لهذا نحتاج ليس فقط إلى دولة القانون والمساءلة ولكن أيضاً إلى مجتمع الكفاءة والنزاهة. وهذا ما يثير الحديث عن ضروب أخرى للفساد تبدو أقل إثارة للانتباه ربما لأنها لا تمثل بشكل مباشر اعتداء على المال العام، وأقصد تحديداً صور «الفساد المهني» التي ترتع جهاراً نهاراً في العديد من المؤسسات والقطاعات المهنية في مجتمعنا. الفساد المهني يتسم بقدر كبير من الأنانية ويكشف عن قدر أكبر من ضعف الكفاءة. فحين يتم إنجاح طلاب جامعيين حصلوا على درجتين من عشرين وحينما يحصل آخرون على 23 درجة من 20 فهذا فساد لا يقل خطورةً عن اختلاس المال العام أو الرشوة بل لعلّه أشد خطراً وفتكاً لأنه يقدم للمجتمع بشهادات شبه مزورة موضوعياً وإن بدت سليمة شكلياً أشخاصاً غير أكفاء في مجتمع يشكو اقتصاده وانتاجه وتصديره من نقص الكفاءة. حين نقارن الفساد المهني بالفساد التقليدي (المالي غالباً) تتجلّى المأساة. فمن السهلتعريف الفساد التقليدي في الاعتداء على المال العام أو الرشوة فيما يبدو الفساد المهني مراوغاً في تعريفه، وأقصى ما بوسعنا أن نعرّفه بأنه التحلل الناعم تارةً والفج تارةً أخرى من المعايير التي يُفترض أنها تحكم أي أداء مهني. فالقانون لا يتدخل وليس بوسعه أن يتدخل لتحديد معايير كل أداء مهني ، فهذه مسألة ضمير وكفاءة وثقافة. في الفساد التقليدي يدرك الفاسد أنه يرتكب جرماً أما في الفساد المهني فلا ينظر إليه صاحبه بوصفه جريمة، هو يبدو اليوم شكلاً من أشكال الغش و»الفهلوة». فالغشاش سواء كان طالباً في امتحان أو أستاذاً يسرق بحثاً لغيره أو يوزع درجة النجاح بغير استحقاق وشهادات الدكتوراه والماجستير الصورية ، كل هؤلاء العشاشون لا يستشعرون صفة الجرم فيما يرتكبونه لأن المجتمع في معظمه يبدو متواطئاً مع الغش والفهلوة بتبريرات إنسانية ساذجة (أو متساذجة). الفساد المالي جريمة يتعين على الدولة مواجهتها.. والفساد المهني ثقافة خطيرة يجب على المجتمع أن يلفظها.

* نقلاً عن " الأهرام " 

مقالات مختارة تُنشر بالتزامن مع عدد الصحف العربية والأجنبية.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل