عاشق لايعرف الطريق

عاشق لايعرف الطريق

منذ 7 سنوات

عاشق لايعرف الطريق

"هذا ما لم أعتَد أن أراه" وأنا صغير كنت أخرج مسرعاً من المسجد بعد صلاة العشاء لأراهم، وأستمتع بهم، هؤلاء الأشخاص الذين يرتدون عباءات سوداء، وفي أوقات أخرى بيضاء متسعة من أسفل، وقبعات بُنيَّة، كنت أراقبهم وأرى حركاتهم الدورانية، وتلك الكلمات التي يرددونها من قلوبهم، بحثاً عن رحلتهم الروحية، هائمين عاشقين.\nكانت تبدأ رحلتهم بالأنشودة المعتادة "يا إمام الرسل يا سندي.. أنت باب الله معتمدي.. وبدنياي وآخرتي.. يا إمام الرسل خذ بيدي"، "يا رسول الله مدد.. يا حبيب الله مدد "، "الله الله.. الله الله.. الله الله يا الله".\nكنت لا إرادياً أترنح يميناً ويساراً، وأغمض عينيَّ، وأردد وراءهم ويرتفع صوتي ويتعالى: "يا فتَّاح يا عليم.. المدد يا رسول الله المعتمد"، "والله ما طلعت شمس ولا غربت إلا وحبك مقرون بأنفاسي".\nكانوا ينوعون الأناشيد بين الحلاج وجلال الدين الرومي وابن عربي، تلك الأناشيد كانت تأخذني إلى عالم بعيد من الاستمتاع.. ولكن لم يعُد هذا ما أراه الآن.\nتغيرت الأشكال وتغيرت الطرق، وظهرت الكثير من الأفكار والبدع التي سلكت طرقاً أخرى بعيدة عن الحب..وقفت تائهاً لا أعرف أي الدروب أسلك؟!\nكان هناك عجوز يراقبني كثيراً اعتدت أن أراه منذ كنت أتردد على حلقات الذكر، كان ينظر إليَّ وأنا هائم بين الكلمات والموسيقى التي تمس الروح، وأترنح يميناً ويساراً هائماً عاشقاً أصفو بروحي بعيداً عن الكون باحثاً عن السلام الروحي في رحلة قصيرة.. رأيته يشاور لي من بعيد، فذهبت إليه، وضع يده على كتفي، وقال في صوت حنون: عن ماذا تبحث هنا يا ولدي؟! أي روح جاءت بك إلى هنا ليمتلئ قلبك بكل هذا العشق؟ قلت له: أنا هنا أبحث عن الحب والشجن، ولكن لا أعرف أي طريقة أتبع.\nضحك كثيراً وأرجع ظهره إلى الخلف مستنداً على الجدار، ثم صمت ونظر إلى السماء وقال: الحب يا ولدي لا يحتاج أن تأتي إلى هنا لتبحث عنه في طريقة من الطرق التي ابتدعوها.\nبالنسبة للشجن يمكنك أن تستمتع به من ابتهالات العشاق، أو برحلة روحية تعانق فيها الأرض باكياً، أما الحب فإنه يسكن هنا وأشار بأصبعه إلى قلبي.\nهناك أشخاص كثيرون يأتون إلى هنا من أجل أشخاص وأشياء دنيوية، ويؤدون حركات بلا روح، جسد اعتاد أن يفعل أشياء كل يوم بنفس الطريقة، يفتقدون للشغف..إن الإحساس بأن الإنسان يصلي لله إحساس مدهش.. ولكن قد تقع الصلاة والقلب غائب، وهنا تتحول الصلاة إلى حركات تشبه التمرينات الرياضية، وتفقد الصلاة روحها.\nأما إذا وقفت عاشقاً هائماً بين يدي الله محباً ترتقي روحك وتشعر كل يوم بأنك في رحلة إلى أعالي السماء من على الأرض.\nوقفت مندهشاً مستمتعاً بكلامه، وألقيت عليه سؤالاً: وماذا لو اعتزلت العالم من أجل الله؟\nاستقام في جلسته واستند على عكازه، وقال لي: الإنسان بحر.\nالبحر نقاء رائع لا نهاية له، البحر سطح وقاع ومحيطات وتيارات ومياه باردة ودافئة، جزر ولآلئ وذهب وسفن غريقة وصراع بين أسماك القاع المظلم، هذا هو الإنسان، أحياناً يتحول البحر إلى مستنقع، وقد يتحول إلى بحيرة، ولكن ذلك يحتاج إلى زمن طويل.\nلم أفهم ماذا يريد أن يقول وما علاقة هذا بسؤالي..قاطع تفكيري وهو يقول:\nالبحيرة المغلقة لا تتصل بالبحار، وحين ينغلق الإنسان يفقد قدرته على الامتداد والتجدد..أنت تحتاج إلى العالم كما يحتاج هو إليك.\nابتسمت وقلت له: هل لي بسؤال آخر؟ ابتسم وكأنه ينتظر مني السؤال.\nقال لي شيخ ذات مرة: الصمت شعارنا نحن العشاق..ترددت الكلمة في أذني كثيراً ولم أفهم ماذا كان يريد.\nصمت قليلاً ثم قال: في عالم يترصد فيه الشر كل نفس حية يكون الصمت هو القاعدة في عالم تذبح فيه البراءة، فيكون قانون الصمت هو قانون الكبرياء والترفع والسلامة، فللعشاق صمت له مذاق الغناء.\nأحدهم كان يقول: لا أحد يستطيع أن يحدق في الشمس، والشمس ضوء، ولكن التحديق في القمر متعة، والقمر نور، ولكن انظر إلى قلبك هل تضيئه أم تنيره؟!\nوفي النور لطف وبشاشة وكرم\n. يمكنك أن تنتشي قليلاً عندما تتردد عليك كلمات العشاق، ولكن ماذا بعد ذلك؟.. الحب.\nداخلك يا ولدي هو النجاة، لا تلوثه بشيء ولا بطريقة، اجعله من أجل الله، كلما أحببت، ارتقيت درجة، وزاد سلامك الداخلي.. واعرف دائماً يا ولدي أننا لا يمكن أن نرى الله، ولكننا يمكننا أن نشعر به.\nرحلت دون أن أتفوَّه بشيء، وأنا أرى ابتسامة الرضا في قلب هذا العجوز قبل وجهه.. رحلت وكل الكلمات تدور في عقلي، وشعرت وكأنني أشعر بالحب لأول مرة.\nالتدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

الخبر من المصدر