حلب: عندما حمل شرطي المرور بندقية

حلب: عندما حمل شرطي المرور بندقية

منذ 7 سنوات

حلب: عندما حمل شرطي المرور بندقية

كثيرة هي الحكايات التي يمكن أن تروى عن الحرب التي أثقلت بتفاصيلها مدينة حلب على مدار أربعة أعوام ونيف، فلكل زاوية من زوايا المدينة حكاية، ولكل شهيد حكاية، ولكل جريح رواية تروى، يحتاج توثيقها إلى مجلدات عديدة، إحدى هذه الحكايات كان بطلها شرطي المرور.\nبعيداً من عدسات الكاميرات والمراسلين الذين يجوبون شوارع مدينة حلب التي غادرتها آخر قوافل المسلحين الخارجين إلى إدلب، وفي الركن الجنوبي الشرقي لساحة سعد الله الجابري التي تتوسط المدينة، تعمل مجموعة وُرش على إخراج رفات عناصر شرطة قضوا إثر تفجير نفق مفخخ. يراقب ضابط في الشرطة عمليات الحفر والبحث، ويحصي عدد الجثث التي تم انتشالها حتى الآن «هناك جثتان ايضاً، كانوا 12 شهيداً».\nمثَّل حطام هذا المبنى يوماً قلعة حصينة، كان قبل الحرب مجرد مبنى لفرع المرور، تُعدّ في مكاتبه معاملات السيارات، مخالفات السير، ويركن عناصر الشرطة دراجاتهم النارية في كراجه الخلفي. وبعدما استولى المسلحون على القسم الشرقي لمدينة حلب تحول هذا المبنى إلى خط تماسّ مباشر مع المسلحين، لتبدأ حكاية أخرى للمبنى ومسؤوليه.\nيقول الضابط «يتلقى عناصر الشرطة بطبيعة الحال تدريبات تتعلق بحفظ الأمن الداخلي، وهي تدريبات لا تخوّل العناصر خوض معارك، شرطي المرور بالذات اعتاد حمل عصا بيده، ودفترا لتقييد المخالفات وصفارة، ليس مقاتلاً ولم يجهز لهذا الأمر، إلا أنه وبعدما أصبح المبنى على خط التماسّ حمل عناصر المرور بنادق ودافعوا عن مبناهم».\nيعتبر مبنى فرع المرور أقرب نقطة تماسّ مع مواقع سيطرة المسلحين في سوق الهال «عشرة أمتار فقط كانت تفصلنا عن المسلحين»، يقول الضابط، مضيفاً «برغم ذلك صمدنا ودافعنا عن المبنى ولم يتمكن المسلحون من السيطرة عليه».\nتعرَّض المبنى لعشرات الهجمات، أعنفها كان مطلع عام 2016، كان المسلحون يبحثون عن ثغرات في دفاعات حلب، «ظنوا أن هذه النقطة ستكون خاصرة هشة»، يوضح الضابط ويتابع «لكن ما جرى كان العكس».\n46 عنصراً من شرطة المرور، ومعهم ثلاثة ضباط فضلوا البقاء في المبنى، 30 منهم لم يغادروا حتى نهاية الحرب، ولئن غادر بعضهم فشهداءَ حُملوا على الأكتاف، فيما قضى 12 آخرون تحت أنقاض المبنى.\nيتابع الضابط «كنا كعائلة واحدة، نقاتل معاً، نأكل معاً، نجوع معاً، ربما كان هذا هو السبب في صمود هذه النقطة، وفي قتالنا حتى النهاية»، يضيف «كنا نعتبر هذا المبنى بيتنا، نقاتل دفاعا عنه».\nيمثل فرع المرور بالنسبة لتحصينات الشق الغربي من مدينة حلب خط الدفاع الأول عن ساحة سعد الله الجابري، التي تتوسط المدينة، وكان يعني اختراق الفرع اختراقا لقلب حلب. خلال مكوثهم في المبنى، حفر عناصر الشرطة خندقاً يمتد لأكثر من 170 متراً، كما قسموا أنفسهم على عدة نقاط للمراقبة «للدفاع عن مبنى يجب عليك الخروج إلى أطرافه، وإلا فإنك ستحاصر فيه وتقتل».\nيوم السادس من شهر تموز الماضي، تعرض المبنى لأعنف هجوم على الإطلاق، يروي الضابط أن «مجموعات من المسلحين تسللوا، إلى محيط المبنى، كانوا يريدون أن يحاصرونا من ثلاث جهات وينقضّوا علينا، نقاط المراقبة المتقدمة التي قمنا بتوزيعها ساهمت في إفشال الهجوم، دارت معارك عنيفة تضمنت التحامات مباشرة، أحد المسلحين وصل إلى مدخل المبنى وقتل قبل أن يتمكن من الدخول إليه، كانت ليلة صعبة جدا حينها، إلا أننا نجحنا في التصدي للهجوم وإفشاله بشكل نهائي».\nبعد فشل الهجوم بأسبوع، فخخ المسلحون نفقاً يمتد من سوق الهال إلى أسفل المبنى، كانوا قد حفروه طيلة الأعوام الأربعة الماضية وقاموا بتفجيره، تسبب التفجير بانهيار المبنى بشكل كامل، ومقتل 12 عنصراً، فيما نجا البقية، بعد الهجوم حاول المسلحون التقدم نحو المبنى والسيطرة عليه بحثا عن خرق يوصلهم إلى ساحة سعد الله الجابري، إلا أن عناصر الشرطة تراجعوا إلى مبنى آخر خلف فرع المرور وتحصنوا فيه وتمكنوا من صد الهجوم أيضا.\nيوضح الضابط «منذ أن وقع الانفجار وانهار المبنى، أصبحت هذه المنطقة خط تماسّ، يصوب ثلاثة قناصة من المسلحين فوهات بنادقهم عليه، لم نتمكن من الاقتراب من المبنى، أو إخراج جثامين الشهداء»، ويضيف «الآن وبعد سيطرة الجيش السوري على كامل مدينة حلب أصبح بإمكاننا أن نخرج الجثامين وندفنها في مكان يليق ببطولة أصحابها».\nيعدد أسماء رفاقه الذين قضوا خلال الحرب، يبتسم عندما يصل إلى اسم طارق دلة «هذا المقاتل كان بألف مقاتل، نذر نفسه لهذا المكان، ولم يخرج منه منذ أن وصل المسلحون إلَّا شهيدا، كان له الفضل الأكبر في صمودنا هنا، تمكن من فك تشفير أجهزة ارسال المسلحين والتنصت عليهم، اقتحم في إحدى المرات منطقة سوق الهال بعدما رصد مجموعة مسلحة تحاول أن تنصب منصة لإطلاق الصواريخ، قتل مسلحَين من المجموعة وأحضر بندقيتيهما.. ليته بيننا الآن».\nمع عودة المدينة للحياة، سيرمي عناصر المرور بنادقهم ويعودون إلى شوارع المدينة بصفاراتهم وعصيّهم، إلا أن ركام مبنى المرور سيبقى شاهداً على ما شهدوه يوماً، عندما تطلب الأمر حمل البندقية، برغم الثمن الباهظ لذلك»، وقد خسرت حلب خلال سنوات الحرب الأربع نحو 40 شرطي مرور، وأصيب أكثر من 20 آخرين من أصل 170 عنصراً في المدينة.

الخبر من المصدر