عن دولة القانون "1"

نتحدث كثيرا عن دولة القانون، ولكن بسبب الأيام الصعبة التي تعيشها بلدنا حاليا أصبح المعنى ضبابيا غامضا، وكثير منا لا يدرك ما الفارق بين أن يعيش في دولة يحتكم كل من فيها من أفراد ومؤسسات إلى القانون، وبين أن يعيش في شبه دولة، يكون الاستثناء فيها هو الأصل، والمحسوبية هي طريق الوصول، والتحريض الإعلامي هو السبيل لتسويق الأفكار.\nهذه مقالة تحاول شرح ذلك المعنى الواضح - الملتبس لدينا - بشكل مبسط.\nفي 22 نوفمبر من عام 1963 وصل الرئيس الأمريكي جون كينيدي إلى مدينة دالاس بولاية تكساس في زيارة هي الأولى له، وهذه الولاية تعتبر ولاية (جمهورية)، أي أن غالبية سكانها لم ينتخبوه، بحكم أنه رئيس قادم من الحزب الديمقراطي.\nولكن حالة (النجومية) التي كان يعيشها "جون كنيدي"، وزوجته السيدة الحسناء "جاكلين كينيدي"، كانت أكبر من الانتماءات الحزبية، لقد أحب الأمريكيون هذا الرجل، وبالتالي خرجت مدينة دالاس عن بكرة أبيها لاستقباله.\nكان الطقس ممطرا، ولكن فور أن حطت طائرة الرئيس أشرقت الشمس، وأصبح الطقس دافئا مشمسا، وسيطرت على الحضور حالة من البهجة والتفاؤل.\nحين أشرقت الشمس ... قرر منظمو رحلة الرئيس أن يفتحوا سقف السيارة الرئاسية، واستقل الرئيس وحرمه تلك العربة المكشوفة، الجماهير تحييهم، وهما في سعادة يردان تحية الجماهير، وفي وسط كل ذلك الفرح والسرور خرجت رصاصتان، من بندقية غادرة، الأولى في رقبة الرئيس، واستقرت الثانية في جمجمته.\nفي هذه اللحظات تصرف طاقم الحراسة باحتراف، وأجريت الاتصالات، وتحرك الموكب بأقصى سرعة إلى أكبر وأقرب مستشفى في مدينة دالاس، مستشفى "بارك لاند" (parkland).\nفي هذا الصباح كانت الأمور تجري برتابة اعتيادية في المستشفى، الأطباء في حالة كسل بسبب قلة المرضى، ولا شيء ينغص صفو الحياة.\nوفجأة ... جاءهم خبر (الرئيس قادم لكم الآن)!\nقال الطبيب المناوب وهو في عامه الأول من ممارسة الطب (ربما أصيب بزكام)، وبعد دقيقتين رأى أمامه رئيس الولايات المتحدة الأمريكية المحبوب، محمولا على سرير الطوارئ، وحوله حراسه بسلاحهم وهم في أقصى حالات الفزع، ورأسه فيه فتحة بحجم كرة تنس !\nانقلبت المستشفى، وحاول جميع الأطباء إسعاف الرجل، بذلت أقصى الجهود، ولكن بلا فائدة ... كانت الكلمة الأخيرة لكبير الأطباء (أحضروا قسيسا)!\nلا يمكن أن يتخيل أحدٌ كَمَّ البكاء، والحزن، والشجن، الذي خيم على طاقم المستشفى كله، لقد جاءهم الرجل شبه جثة، ورأوه في لحظاته الأخيرة، وخرج من باب مشفاهم في تابوت.\nهذا الطاقم الطبي ... كم يكره الشخص الذي قتل جون كنيدي؟\nلقد شاهد هذا الطاقم آثار الرصاص في رأس الرئيس بعد دقائق من انطلاقها، ومات الرجل العظيم بين أياديهم ... هل تتخيل كم الكراهية التي يحملها هذا الطاقم الطبي ضد قاتل جون كنيدي؟\nبالمناسبة ... من هو قاتل جون كنيدي؟\nإنه "لي هارفي أوزوولد"، وقد قبض عليه بعد الحادث بساعات، وبعدها، بدأ التحقيق معه، وأثناء اقتياده للمحاكمة خرج واحد من الجماهير فجأة وأطلق الرصاص عليه في صدره أمام الجماهير والكاميرات.\nفي دولة القانون تتصرف الشرطة وفقا للقانون، والقانون يقول إن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، والسيد "لي هارفي أوزوولد" لم يصدر ضده حكم بالإدانة بعد، فتصرفت الشرطة باحترام كامل لآدمية هذا المتهم (البريء)، وأخذته إلى المستشفى.\nبالضبط ... إلى مستشفى بارك لاند (parkland) !\nأي أن نظام العمل لم يفرق من الأساس بين الرئيس وقاتله، ونُقل المتهم - وهو مواطن عادي - إلى المستشفى الذي نُقل له رئيس الدولة.\nفي لحظة ... وبدون سابق إنذار ... الأطباء الذين حاولوا إنقاذ جون كينيدي، والذين شاهدوا آثار الرصاصة الغادرة في جمجمته، هؤلاء الذين بكوا أمام مشهد رحيل الرئيس المحبوب ... وجدوا أنفسهم مطالبين أن ينقذوا قاتله (أو لنقل من يظنون أنه قاتله)!\nفي دولة القانون يقوم كل مواطن بواجبه في موقعه، لا مجال للآراء الشخصية، لا مكان للأحقاد الفردية أيا كانت، الطبيب يعالج المريض، لا يحق له أن يحاكمه، والمريض يحصل على العلاج بلا منة من أحد.\nلقد سجل التاريخ أن الطاقم الطبي الذي بذل أقصى ما يستطيع لكي ينقذ "جون كنيدي" ... فعل الشيء نفسه، وبذل الجهد نفسه، مع قاتله، بعد عدة أيام من قتله، وقبل أن يُدفن "جون كنيدي" أصلا، فحتى هذه اللحظة كانت أمريكا والعالم كله في انتظار جنازة الرئيس المغدور.\nالأطباء والممرضات أنفسهم بذلوا كل ما يستطيعون ... مع الرئيس المقتول، ومع القاتل المفترض.\nهذه هي (دولة القانون) !\nما زلت أذكر أحد مقدمي البرامج في بلدنا، وهو يرتكب جريمة التحريض على القتل على الهواء مباشرة، ويسأل أحد الأطباء علنا، وبكل صفاقة (إذا جاءك مريض من الجماعة الفلانية، أو من الحزب العلاني، هل تعالجه؟؟؟)..\nوحين أجابه الطبيب المحترم بأن حق العلاج مكفول للجميع، وأن الطبيب ليس من حقه أن يحاكم مريضه (طبقا لقسم أبوقراط)، بدأ بالمزايدة عليه، والتحريض ضده.\nلن تتقدم بلادنا إلا إذا أصبح القانون مطبقا على الجميع، ومشكلتنا الكبرى أننا لا نحترم القانون، وأن قيادات بلادنا العربية كلها هي العقبة الأولى في وجه تطبيق القانون.\nتطبيق القانون يبدأ بخضوع الرؤساء والوزراء والقيادات للقانون، أما أن يصبح القانون أداة للانتقام، أو وسيلة لإذلال الضعفاء والبسطاء، فهذه دعوة للفوضى، نهايتها ستكون كارثة على الجميع.\nفي الأسبوع القادم ... سأنقل لحضراتكم كيف تتعامل أشباه الدول مع المتهمين !\nعاشت مصر للمصريين وبالمصريين ...\nالتدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.