«سوريا الصغرى».. حكاية شارع أمريكي مع شاعر البسمة إيليا أبو ماضي

«سوريا الصغرى».. حكاية شارع أمريكي مع شاعر البسمة إيليا أبو ماضي

منذ 7 سنوات

«سوريا الصغرى».. حكاية شارع أمريكي مع شاعر البسمة إيليا أبو ماضي

وسط هدوء متناغم في نهاية شارع برجي التجارة العالمي 11 سبتمبر تجده يحمل ما تبقى من عبق وتاريخ تجد سوريا الصغيرة في قلب شارع واشنطن، تحمل معها تاريخه وقلبه النابض بكلماته وأشعاره، أحد زعماء شعر المهجر، من فارق عالمنا ليعيش في كل أنحاء الكون بكلماته، ما إن ذكر الشعر ذكر اسمه، هناك بحديقة الشارع الذي لقب بسوريا الصغرى تجده يُجالس أمين الريحاني وميخائيل نعيمة يعملون على إقامة الرابطة القلمية هنا، حيث كانوا يمشون سويا، في هذا المتنزه المطل اليوم على البرج الجديد المقام تكريمًا لضحايا حادث برجي التجارة العالمي يقابله في الجهة الأخرى بقايا العرب وشعرائهم في محاولات أمريكية ودعوات للحفاظ على ما تبقى من "ليتل سوريا".\n قلت: ابتسم يكفي التجهم في السما!\nقال: الصبا ولى! فقلت له: ابتــسم.\n لن يرجع الأسف الصبا المتصرما!!\nما تذكر مدرسة المهجر يذكر إيليا أبو ماضي، فهو الباسم الضاحك مؤلف قصيدة "ابتسم" ذلك الطفل اللبناني الصغير، الذي لم تملك أسرته قروش تعلمه، ويجاهد بكلماته حتى بات من أهم شعراء العصر الحديث، هو رمز البسمة والتفاؤل، التي تصدرت في مواضيعه حتى باتت جزءًا من وصفه وبهجته.\nاختلف إيليا في ثراء شعره باللوحة الفنية التي حاول رسمها بكلماته  فهو كاتب "تذكار الماضي"، و"الجداول"، و"الخمائل".. و"تبرٌ وتراب"، قصيدة تلو الأخرى رسم بها رحلته بين لبنان حيث شهدت تعثرات رضيع يحاول أن يتكئ على حائط منزله، فيستقيم ذلك الطفل الحابي ليذهب لمدرسته الابتدائية، ويبدأ رحلة تعلم ممزوج بصعوبات فقر وانعدام للمقومات المادية، ليأخذنا بعدها لرحلته في قاهرة المعز، وتجوله بجانب شاطئ الإسكندرية يغازله، وصولًا لشوارع نيويورك حيث عاش ومات وأسس الرابطة القلمية وشعراء المهجر.. هنا حي "ليتل سيريا" أقصى جنوب غربي مانهاتن.. هنا دشنت الرابطة القلمية على يد جبران خليل جبران ونعيمة وثالثهم إيليا أبو ماضي.\nذلك الشارع الذي ضم مهاجري دمشق والعراب وحلب بحثًا عن الرزق، وهربًا من ضغوط الدولة العثمانية امتهنوا التجارة والحرير، ونجحوا فيها لكن لم ينسوا شعرهم مثل أبو ماضي، فكان الشارع ملتقى الكتاب والشعراء والفنانين، كذلك كانت طبيعة الحياة في حي "الرابطة القلمية" التي كانت تناصر قضايا التحرر العربية من الاستعمار،  فكان هذا الحي القلب الاقتصادي والثقافي النابض للجاليات العربية في الولايات المتحدة لعقود طويلة، حتى بات ضمن تراث العرب الباحثين عن الحفاظ على ما بقى منه.\nباتت الثلاث بلاد كحجرات واسعة في قلبه لكل منهم رحلة ونبض وقصائد يعيش معها وتشكل من قلبه وعقله الكثير، فرغم صعوبة استكماله لتعليمه في لبنان بعد مدرسة  المحيدثة القائمة في جوار الكنيسة، إلا أنه لم يستسلم لواقع فقر أسرته وحاول مساعدتها من خلال اتجاهه للتجارة في مصر 1902، لتأخذه شوارع القاهرة ليلتقي بأنطون الجميل الذي كان قد أنشأ مع أمين تقي الدين مجلة "الزهور" ليتسم فيه الكلمات العطرة معجبًا بعزيمته في التمسك بما يحب، ليدعوه للكتابة في المجلة وهنا ولدت الكلمات الأولى للإيليا كشاعر يقدم لجمهور الشعر للمرة الأولى، واستمر على ذلك إلى أن بلغ عامه الـ21  في 1911 واتخذ قراره بتجميع بواكير شعره في ديوانه الشهير "تذكار الماضي".\nتمنى أبو ماضي لو أن تخلد روحه أبد الدهر في مصر، لكن شعره السياسي كان السبب وراء هربه منها بعد مطاردة السلطات الحاكمة له، ليصبح من المهاجرين الأوائل لأمريكا، لتأخذه روحه  لمدينة "سنسناتي" بولاية أوهايو ليعمل في التجارة مع شقيقه بجانب شعره، لكن لم يستقر بها أكثر من أربع سنوات لينتقل إلى نيويورك  حيث جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وبداية علاقة ثلاثية شكلت أقوى قصائد العرب.\nغرست التقلبات التي مر بها في رحلته بحثًا عن الرزق جانبًا من طبيعة كل بلد أقام بها، فلبنان حيث الجبال والطبية وشاطئ الإسكندرية وتباين شعوب نيويورك، يعد إيليا أبو ماضي لتجلعه انعكاسًا قويًا لمدرسة المهجر، فكان خير من يمثلها متأثرًا بجبران خليل جبران والمتنبي والمعري، ورغم تلقيبه برمز البسمة والتفاؤل إلا أنه كان قد تأثر بأبي العلاء، فأخذ منه طابعة المشكك في رحلة الطبيعة ونظرته التشاؤمية إلا أنها لم تنل منه طويلًا ليتحول لطبيعته المتفائلة \nلم تقف حياة إيليا فقط عند الشعر، لكنه اتجه إلى الأدب والصحافة، وأصدر عدة دواوين رسمت اتجاهه الفلسفي والفكري من أبرزها  "إيليا أبو ماضي" الذي ساعده فيه جبران بكتابة مقدمته في  (نيويورك 1918)، ونجح فيه أبو ماضي بمزج الحب والتأمل والفلسفة والقضايا الوطنية والاجتماعية والسياسية، جميعها في إطار رومانسي يتغزل فيه بالطبيعة وجمالها، وغيرها من الكتابات حيث الجداول، الخمائل، وتبر وتراب والغابة المفقودة.\nمات إيليا في مثل هذا اليوم 23 نوفمبر عام 1957 تاركًا خلفه ثروة ما زالت تدرس في جميع مدارس الوطن العربي، فهو قائل "كم تشتكي وتقول إنك معدم.. والأرض ملكك والسما والأنجم.. ولك الحقول وزهرها ونخيلها.. ونسيمها والبلبل المترنم.. والماء حولك فضة رقراقة.. والشمس فوقك عسجد يتضرم" ومدرج شعره على قمة قائمة الموسوعة العربية للشعر العربي والذي تخطت قصائده المليوني قراءة و وقصيدة "قال السماء كئيبة وتجهما" أكثر من نصف مليون قراءة ويزيد بمفردها وما زالت تتزايد قراءتها.\nومن طرائف شعره الذي لا تنسى مزاح الشعراء وعبقه مع هداياهم فإن تهادى صديق قهوة، فهو هدية محببة لمتذوقها لكن أن تهادي إيليا فهو رحلة من الغزل في كوب وهدية بدأت بين الشاعر المهجري مسعود سماحة حين أهدى أبو ماضي علبة من البن الفاخر لحقها بقصيدته مهداه\nأدِرْهَا قهوةً كعصير بكر * * * تجلّت في الكُؤوس بِكفّ بِكْرِ\nكأنّ المِسك يغلي حين تغلي * * * و يجري في الأواني حين تجري\nتُعيد إلى الضعيف قِوَى و تهدي * * * إليه غِبْطة و صفاء فِكر\nتَعَشَّقُهَا الشُعوب فَكُلُّ شعبٍ * * * أعدّ لها الثغور و كلّ قُطر\nتلوّح حبّها في كلّ كوخ * * * و لاحَ حُبَابها في كلّ قصر\nيضوع عبيرها برمال نجد * * * و يعبق عطرها بقصور مصر\nتمشّى عنبرا في كلّ أنف * * * و تنزل قرقفا في كلّ ثغر\nو يزري طعمها حلوا و مرا * * * بما في الأرض من حلو و مر\nو سمراء إذا زارت صباحا * * * أحبّ إليّ من بيض و سمر\nيحوك لها البخار رداء ند * * * و يكسوها الحباب و شاح در\nكسرت الدنّ من عهد بعيد * * * فأمست بعد خمر الدنّ خمري\nفإن حلّت قواك جيوش ضعف * * * و هالك عبء همّ مسبطر \nعليك بقهوة رقّت وراقت * * * كشعرك لا يجاري أو كشعري\nفردّ عليه إليا ابو ماضي بقصيدةٍ ؛ قال فيها:\nشربناها على سر القوافي * * * وسرّ الشاعر السمح الأبر\nسقانا قهوتين " بغير منٍّ" * * * عصير شجيرة وعصير فكر\nفنحن اثنان سكرانٌ لحينٍ * * * على أمنٍ وسكرانٌ لدهر\nفمن أمسى يهيم ببنت قصر * * * فإنا هائمون ببنت قفر\nإذا حضرت فذلك يوم سعد * * * وإن غابت فذلك يوم قهر\nلها من ذاتها سترٌ رقيقٌ * * * كما صبغ الحياءُ جبين بكر\nإذا دارت على الجلّاس هشوا * * * كأن كؤوسها أخبار نصر\nونرشفها فترشف ريق خَوْدٍ * * * وننشقها فتنشق ريح عطر\nولا تخشى من الحكام حدا * * * وعند الله لم نوصم بوزر\nفما في شربها إثم ونكر * * * وشرب الخمر نكر أيُّ نكر\nوليست تستخف أخا وقار * * * وبنت الدنّ بالأحلام تزري\nوتحفظ سر صاحبها مصونا * * * وبنت الكرْم تفضح كل سر\nوللصهباء أوقات , وهذي * * * شراب الناس في حر وقرّ\nوتصلح أن يطاف بها مساءً * * * وتَحسنُ أن تكون شراب ظهر\nفلو عرفتْ مزاياها الغواني * * * لعُلّق حَبها في كل نحر\nكأن حبوبها خضرا وصفرا * * * فصوص زمرد وشذور تبر\nكأن الجن قد نفثت رؤاها * * * على أوراقها في ضوء فجر\nألست ترى إليها كيف تطغى * * * وكيف تثور إن مُسّتْ بجمر\nكأن نخيل مصرٍ قد حساها * * * وإلا ما اهتزاز نخيل مصر\nجلوتُ بها من الأكدار ذهني * * * كما أني غسلت هموم صدري\nوماهي قهوة تطهى وتحسى * * * ولكن نفحة من روح حر\nحوى في شعره عبث ابن هاني * * * وزاد عليه فلسفة المعري\nفيا لك شاعرا لبقا لعوبا * * * كأن يراعه أنبوب سحر\nيفيض سلاسة في كل لفظ * * * ويجري رقة في كل سطر\nحوت دار "السمير" هديتيه * * * وتحوي هذه الأوراق شكري.

الخبر من المصدر