انقلاب فى الغرب (3) | المصري اليوم

انقلاب فى الغرب (3) | المصري اليوم

منذ 7 سنوات

انقلاب فى الغرب (3) | المصري اليوم

الانتخابات الأمريكية الأخيرة شهدت تصرف قطاعات واسعة من الأغلبية، أى السكان البِيض، بنفس الطريقة التى تتصرف بها عادة الأقليات العرقية. هكذا صوَّت البِيض من الطبقات العاملة وقليلة التعليم، ولاسيما الأعضاء الأكبر سنا، بأغلبيات ساحقة وكجماعة لصالح «ترامب».. صوَّتت هذه القطاعات هكذا لأنها شعرت بأن العالم الذى تعرفه، عالم الأغلبية البيضاء والقيم التقليدية، يفلت من بين يديها، فى بلد صارت فيه الأقليات العرقية من سُود ومهاجرين لاتين ومسلمين وغيرهم على حافة أن تصبح أغلبية.. وذلك فى ظل أوضاع تدعمها نخب اعتقدت أنها فاسدة، تسيطر على القمة بطريقة تمنع الحركة الاجتماعية على أساس الكفاءة والعمل الدؤوب، نخب مُعَوْلَمة تتحيز لحركة المال والعمالة العالمية دون العناية بمصلحة البِيض الفقراء، أو حتى تفهم مخاوفهم. التصويت لصالح المرشح الشعبوى «ترامب» عبَّر عن هذه النزعات التى تجتاح- تحت ضغوط الأزمات الاقتصادية والهجرة والعولمة- الغرب بأكمله.\nفى سياق سرده لنظريته عن فكرة وطبيعة الانتماء القومى، لاحظ إرنست جلنر أن أحد أهم تنبؤات الماركسية لم يتحقق حتى وقت تطويره لهذه النظرية (فى الثمانينيات). لاحَظ أن فى المجتمعات الديمقراطية الليبرالية لا تتزايد الفروق الطبقية حتى تنشب الثورة العمالية، كما هو متوقَّع ماركسيا. إنما، على العكس، فإن انتشار التعليم والثقافة العامة يعمل على تفعيل لغة مشتركة بين الطبقات، ويسهل من الحركة الاجتماعية من الأسفل إلى الأعلى.. فى هذا السياق، لا يفكر أعضاء الطبقات الفقيرة فى الثورة، إنما فى كيفية تأهيل أنفسهم وتعليم وتأهيل أبنائهم، للصعود. الثورة قد تحدث فى نظر «جلنر» عندما تصبح الحركة الاجتماعية مكبوتة، لكنها لا تحدث فى اتجاه اتحاد «عمال العالم»، إنما على العكس: فإذا كان ما يعوق الحركة الاجتماعية والصعود هو التمييز العرقى أو الدينى ضد فئة معينة، يصعب اندماجها فى المجتمع، فتحاول تلك الفئة الانفصال، حتى تتمكن من تكوين دولة قومية جديدة تتمتع فيها- هذه الفئة- بكل الحقوق.\nلكن ماذا يحدث عندما تشعر الأغلبية بأنها على حافة فقدان السيطرة وتتصرف كأنها أقلية قومية؟ فوراء ما يتبلور فى الغرب من تقلبات مزيج مما توقعه «ماركس» وأيضا «جلنر»، فتزايد الفوارق الطبقية (إذا تم قياسها بتزايد التفاوت فى الدخل) أدى إلى ثورة على نخب، أو على الأقل سحب ثقة عن طريق صندوق الاقتراع. فى نفس الوقت، لم «تتحد» الفئات الفقيرة (من بِيض وسُود ومهاجرين إلخ..) فى الثورة، إنما ما حدث جسد تعبيرا ساخطا من قِبَل الأغلبية البيضاء التى تصرفت كأقلية قومية، نتيجة شعورها بأنها قد تتحول هكذا قريبا، وأن العالم الذى عرفته (وكان لها وضع مميز فيه)، على وشك الانتهاء.. وهى، كأغلبية، لا تريد الانفصال القومى بالطبع، إنما تريد إعادة الأوضاع كما كانت فى السابق، وأن تعيد السيطرة وأن تضع الأقليات «فى مكانها».. وهذه النزعات للأغلبية التى تتصرف كأقلية قومية تصاحبها ظاهرة أخرى توقعها «جلنر»، فالحركة الاجتماعية أُعيقت فى ظل فقدان لغة مشتركة تجمع بين الطبقات العاملة من البِيض وبين النخب، نتيجة تفاقم الفجوة فى مستوى التعليم والثقافة والتصور للعالم. لكن ما لم يتوقعه «جلنر» هو إمكانية حدوث ذلك فى مجتمعات ديمقراطية متقدمة.. وهنا تكمن الأهمية التاريخية للظاهرة.\nالظاهرة ليست مقصورة على انتخاب «ترامب»، فكانت أيضا وراء الاستفتاء البريطانى بالانسحاب من الاتحاد الأوروبى، وصعود شخصيات وحركات شعبوية عنصرية فى أوروبا، مثل الجبهة القومية فى فرنسا (ترقَّب الانتخابات القادمة قريبا هناك!).. السؤال الآن، هل سيتمكن «ترامب» وأمثاله فى الغرب من عكس عجلة الزمن فعلا؟ وماذا سيفعل مَن أيَّدهم إذا لم يستطيعوا؟ من المُرجَّح أن المرحلة القادمة ستشهد تقلبات عميقة، لم يعرفها الغرب منذ الحرب العالمية الثانية، وفى حالة الولايات المتحدة ربما منذ الحرب الأهلية فى القرن التاسع عشر.. هذه التقلبات ستضع أنظمة سياسية، مبنية على أفكار عصر التنوير فى القرن الثامن عشر، موضع الاختبار فى عصر تغيرت فيه طبيعة المجتمعات وطرق الإنتاج وتدفقت المعلومات بشكل كبير، وفى ظل تحدى دول صاعدة (مثل الصين) لفكرة أن النظام الليبرالى الديمقراطى يجسد قمة النضوج السياسى وغايته.\nأيضا فى مصر هناك مَن يتشكك فى تلك الفكرة.. وسنرى بالفعل ما إذا كان النظام الأمريكى- الذى بُنى على أساس تَشَكُّك عميق فى حكمة الجماهير، وقدرتهم على عدم الانصياع لشخصيات شعبوية، ولذلك وضع صمامات أمان مثل مبدأ فصل السلطات لتفادى الكوارث الناتجة عن الاختيارات الديمقراطية- سنرى ما إذا كان سيتمكن هذا النظام من تحجيم جموح شخصية مثل «ترامب» دون خسائر فادحة. لكن، فى كل الأحوال، فإن صعود «ترامب» على رأس التيار الشعبوى فى الغرب، بميوله العنصرية، لا يبشر فى الغالب بالخير لدول مثل مصر كما يظن البعض.. لأن مؤيدى هذا التيار لا يريدون فقط إرجاع الزمن، عن طريق وضع السُّود واللاتين والمسلمين وغيرهم من الأقليات «فى مكانهم»، لكنهم يريدون ضمنيا إيضا إعادة المناطق التى يسكنها أغلبية هؤلاء إلى «مكانها الطبيعى»، وذلك عن طريق التعامل معها كليا من منطلق منظار القناص، أو ما سُمى «سياسات البوارج الحربية فى عصر الاستعمار».. أو، فى أحسن الأحوال، ضمان القطيعة والعزلة التامة بين عالم الغرب وعالمنا.

الخبر من المصدر