الرئيس الثالث عشر

الرئيس الثالث عشر

منذ 7 سنوات

الرئيس الثالث عشر

فى بلد كلبنان لا يوجد سر واحد يعيش طويلا، حسابات الأطراف المتنازعة غير خافية واتصالات الكواليس شبه معلنة.\nيقال عادة إن لبنان مرآة العالم العربى، لكنه قبل ذلك مرآة نفسه.\nمنذ تأسيس دولته انعكست على مسارحه أزمات الإقليم الكبرى وتجلت موازين القوى والنفوذ وأحجام الأدوار فى شئونه ومصائره، دون إخفاء بمساحيق تجميل أو إنكار لحقائق صوره.\nكأى مرآة سياسية فإن ما يحدث فيه من تحولات مفاجئة وحسابات جديدة يعبر عن شىء ما يتحرك خارجه.\nهناك أسباب داخلية ساعدت فى تفكيك أزمة الفراغ الرئاسى، التى تمددت لسنتين ونصف السنة دون أفق لحل.\nتعطلت مؤسسات الدولة، رئاسة وحكومة ومجلسا نيابيا، وتدهورت الخدمات العامة إلى حد العجز عن جمع القمامة، وارتفعت نبرات الإدانة بأكثر ما هو معتاد للمحاصصة الطائفية وفساد النخب الحاكمة، وبدا أن انفجارا ما قد يحدث يأخذ من لبنان سلامته وأمنه، وربما وجوده كدولة، بالنظر إلى هشاشة وضعه الداخلى وبراكين النار فى جواره السورى.\nلم تكن مصادفة تراجع شعبية «تيار المستقبل»، الذى يترأسه «سعد الحريرى»، على نحو فادح فى الانتخابات البلدية، وتقويض صورة «حزب الله» بأثر اتهامه بالمسئولية الأولى عن تعطيل الاستحقاق الرئاسى، أو أن تلاحق الاتهامات بصيغ أخرى جميع الأطياف والمكونات بلا استثناء واحد.\nوفق الصيغة اللبنانية المعتادة «لا غالب ولا مغلوب» جرت صفقة تمرير الرئيس الثالث عشر العماد «ميشيل عون» إلى قصر بعبدا.\nالصفقة لم تتضح كل أبعادها وخلفياتها بعد، ولا عرفت بدقة حسابات الأطراف الإقليمية المتنازعة فى تمريرها، ولا أى حسابات أخرى لأطراف دولية متداخلة فى مباركة التطور الجديد.\nغير أنه من المؤكد أن إشارات خضراء صدرت فى وقت واحد من الرياض وطهران سمحت للمجلس النيابى بأن يلتئم لانتخاب «عون» رئيسا، وفق الصيغة نفسها «لا غالب ولا مغلوب»، فى لحظة صراع مفتوح على جبهات أخرى تبدأ من سوريا ولا تنتهى فى اليمن.\nذهبت الرئاسة إلى «عون» ورئاسة الحكومة تنتظر «الحريرى»، وكلاهما ينتمى إلى معسكر يخاصم الآخر على خلفية تداعيات اغتيال رئيس الوزراء الأسبق «رفيق الحريرى» والحرب فى سوريا والموقف من سلاح «حزب الله».\nتحت وطأة الضجر العام من الفشل المزمن فى الوفاء بمتطلبات الحد الأدنى لاحتياجات الحياة الطبيعية تفكك معسكرى «٨ آذار» و«١٤ آذار»، وكانت صفقة تمرير الرئيس الثالث عشر إعلانا رسميا بنهاية تحالفات دون أن تتضح تحالفات جديدة، فكل شىء يتحرك وكل طرف يلملم أوراقه.\nالذين عارضوا صعود «عون»، وناصبوه العداوة لسنوات طويلة، يعانون الآن بمقتضيات السياسة المتحولة ترحيبا بصعوده وأملا فى تعاون مشترك.\nهذا وضع سوف يخضع لاختبار إثر آخر، يبدأ من تشكيل الحكومة والنظر فى قانون الانتخابات ومدى التزام الرئيس الجديد بما تعهد به فى «خطاب القسم» أن يقف على مسافة واحدة من كل المتناقضات حكما وفق الدستور لا طرفا فى أى صراعات سياسية، وبما سجله من ضرورة إقرار قانون انتخابى يؤمن عدالة التمثيل قبل موعد الانتخابات النيابية، وبما أكده من ضرورة الابتعاد عن الصراعات الخارجية واحترام ميثاق جامعة الدول العربية، والأهم النأى بلبنان ــ الذى يسير بين الألغام ــ عن النيران المشتعلة حوله فى المنطقة.\nكل تعهد ينطوى على لغم، فقانون الانتخابات موضوع سجال لبنانى ضاغط وملح غير أن لكل طرف تصورا يوافق مصالح طائفته بأكثر من ملاءمة التطلع إلى دولة حديثة ديمقراطية تحكمها قواعد المواطنة لا حصص الطوائف.\nوالابتعاد عن الصراعات الخارجية أقرب إلى الأمنيات من السياسات، بالنظر إلى ارتباطات الأطراف الداخلية النافذة بالحسابات الإقليمية المتناقضة.\nوإعلان احترام القرارات العربية تأكيد جديد لهوية لبنان العربية لكنه لا يتعدى الأقوال العامة.\nكما أن تعهده بدعم المقاومة ضد العدو الإسرائيلى حقيبة ألغام معبأة بالمخاوف المتبادلة، فهناك من يشكك بجدية بعض الأطراف فى أى مقاومة أو صلات خفية لها بمن يفترض أن تحاربه، وهناك من يؤكد قيمة المقاومة لكنه يطلب نزع سلاحها، باعتبار أن الجيش المخول وحده بصد أى عدوان.\nفى اليوم التالى لصعود «عون» تبدأ مشكلاته الحقيقية ويحكم على قدراته فى نزع فتيل الأزمات قبل انفجارها بوجه لبنان كله.\nهو رجل عنيد سعى على مدى (٢٦) عاما للعودة إلى قصر بعبدا، الذى طرد منه بقوة السلاح عندما كان رئيسا لحكومة عسكرية بتكليف من الرئيس المنتهية ولايته فى ذلك الوقت «أمين الجميل».\nلم يكن التكليف شرعيا بأى معنى دستورى وقانونى أو سياسى توافقى، لكن طموحه دعاه إلى محاولة فرض رئاسته بالقوة فى أتون حرب أهلية.\nدخل فى صدام مسلح مع حكومة «سليم الحص»، التى حظيت بدعم كامل من جبهة وطنية واسعة نظرت إلى صورته بسلبية بالغة سادت أرجاء العالم العربى.\nعندما عاد من المنفى الباريسى إلى بيروت بعد اغتيال «رفيق الحريرى» وخروج القوات السورية فاجأ خصومه وأنصاره على السواء بـ«عون جديد».\nوهو رجل عملى بروح المغامرة لم يتردد فى التحالف مع بعض أعداء الماضى، أو أن يدخل فى صراع مفتوح مع بعض الحلفاء القدامى.\nلا يستبعد أن يبدى الرئيس «عون» وجها جديدا لم يسبق أن أطل عليه أحد من قبل.\nوعلى الرغم من أنه الجنرال الرابع الذى يصعد إلى بعبدا فإنه يختلف عن سابقيه «فؤاد شهاب» و«إميل لحود» و«ميشيل سليمان».\nليست لديه كاريزما الأول وقوة نفوذه على المؤسسات العسكرية والأمنية، ولا مستوى الدعم الإقليمى والدولى الذى جسده رجلان استثنائيان «جمال عبدالناصر» و«شارل ديجول».\nكما أنه ليس مثل الجنرالين الآخرين اللذين صعدا للمكان نفسه بقوة المواءمة الاضطرارية لا بأثر الطموح الزائد.\nوهو فى الثالثة والثمانين من عمره يجد نفسه أمام اختبارات صعبة، كيف يحفظ استقلاليته دون إخلال بالتوازنات الحرجة؟ وكيف يوفق بين المتناقضات فى أوضاع إقليمية متفجرة؟\nليست هناك مهمة سهلة واحدة تعترض الرئيس عون، من طلب الماء النظيف والبيئة النظيفة إلى طلب إبعاد لبنان عن شلالات النار واحتمالات الاحتراب الأهلى التى أطلت بأشباحها أكثر من مرة فى السنوات الأخيرة.\nأفضل ما يجرى فى لبنان الآن، على الرغم من كل الأزمات المحتملة والمشاعر المتضاربة، أنه بالكاد التقط أنفاسه وبدأ يتطلع إلى مستقبله بشىء من ثقة افتقدها طويلا.

الخبر من المصدر