نادين يسري تكتب: أنتوا لسه ماشوفتوش حاجة من الدنيا

نادين يسري تكتب: أنتوا لسه ماشوفتوش حاجة من الدنيا

منذ 7 سنوات

نادين يسري تكتب: أنتوا لسه ماشوفتوش حاجة من الدنيا

هذا ما قالته لنا معلمة اللغة العربية وهي تحكي آسفة عن كم النفوس غير السوية التي قابلتها في حياتها، ثم عادت مسرعة إلى استكمال شرح أنواع النعت.\nمعلمتي الفاضلة، دعيني أخبركِ ببعض الأشياء:\nكل من تتراوح أعمارهم بين الأربعين والستين عامًا -أو الغالبية العظمى منهم- يتوقعون أن من هم في مثل أعمارنا يعيشون سن البراءة والسهولة، لكنهم لا يرون، أو بمعنى أصح يمتنعون عن الرؤية، فأصبحت أفكارنا وأفعالنا وأقوالنا تُأوّل على أنها نتيجة للمرحلة العمرية ليس إلا.\nيا معلمتي الفاضلة، أرأيت وأنت في مثل سننا من يقدم على الانتحار بحجة أنه قد يئس من الحياة؟\nأراهن أن أول ما تساءلتِ عنه: أن ماذا رأى هذا الفتى من الحياة لييأس منها؟!\nإنه على الأغلب قد رأى ما لم تره أنتِ في حياتك.\nطلاق والديه أو بقائهم سويًا تحت سقف واحد كالمطلقين، أو رأى مشاهد الإهانة اليومية للجميع إلى أن أصبحت شبه اعتيادية.. قد يكون أقدم على الانتحار لمجرد الخوف من الاستمرار في العيش؛ فيا معلمتي، عالمنا مجنون جدًا.\nإنك ترَيْن الأبوين يمارسان ساديتهما على الأبناء بحجة أن ذلك من مصلحتهم.\nوترين بلادًا ينادي الكل بعظمتها، لكنها تقف عاجزة عن فض طوابير مكاتب الهجرة ومصالح جوازات السفر.\nوترين من يهلل لصناع الحرب، وهم يرقصون على جثث الأطفال، إذ لا يوجد دعاة للسلام.\nوترين عالمًا لا يكف عن الدوران والاحتفال كل ليلة بعد صباح قُتل فيه المئات، ولسان حالهم: أن ما لنا ومن قتلوا.\nوترين رجالًا ببذلات أنيقة جدًا يدعوننا لترشيد الاستهلاك في قاعات أنفقت الملايين على إضاءتها.\nوترين شبابًا، ولكنهم في غاية العجز.\nهذا اليأس ليس حالي وحدي، بل حال جيل بأكمله استزرع فيه اليأس.\nفكيف لمن أقدم على الانتحار أو اعتزال الناس -على أقل تقدير- أن يكون بلا وعيٍ كافٍ؟\nإننا لسنا بمراهقين ولا نحيا حياة بريئة ملؤها السعادة. أحلامنا ليست بوردية أحلامكم في الماضي.\nأحلامنا أصيبت بشوائب تدعى “الواقع”.. الواقع أخبرنا أن لا مكان لنا في الجامعة التي نريدها، وأن لا عمل لنا بالشهادة التي أفنينا فيها سنينًا من عمرنا.\nالواقع أخبرنا ولايزال يخبرنا بشتى الطرق أن لا مكان لنا في الحياة، فارحلوا، لكننا، ولسبب غير معلوم نعاند الواقع ونحاول الهروب منه، بل ونحاول خلق مكان لنا حتى وإن كان على هامش الحياة.\nمن اختار عدم الصمود ليس بضعيف، لكنه قد فهم أن حلقة المجابهة والهروب هذه مفرغة وبلا معنى، فكسر الحلقة وحمل أمتعته ورحل.. فكيف لمن لم ير شيئًا من الدنيا أن يقرر الرحيل عنها؟\nأعتذر حقًا إن كان كلامي يائسًا إلى حد قد أصابكِ بالكآبة؛ فأنت تمثلين جيلًا وأنا أمثل جيلًا آخر.\nأنت تمثلين جيلًا يرى جنون العالم الفج ويقدر على غض الطرف عنه والدعوة إلى الإصلاح والبناء كل يوم. أما أنا، فأمثل جيلًا يحيا جنون العالم بتفاصيله، جيل أصابه تناقض العالم بالغرابة، فأصبح لا يعي من هو ولا كيف للمستقبل الباهر أن يأتي.. جيل اصطبغت أحلامه بلون الدم والطين.\nأعيدي التفكير يا معلمتي، وسترين بنفسك حجم الفجوة التي بيننا.

الخبر من المصدر