أهل الشر.. أولاد الكلب الملاعين

أهل الشر.. أولاد الكلب الملاعين

منذ 7 سنوات

أهل الشر.. أولاد الكلب الملاعين

وعدت صديقي أن ألقاه في المقهى بعيداً عن أي عين تتربص بنا لتوقعنا في شر أعمالنا، وهذه الشرور لا تعدو كونها أعمالاً تافهة، لا تتجاوز حجر شيشة "كانتلوب" إن كنت من أهل المدينة أو "أناناس" لو كنت من أهل القرى أمثالي، أو تحرش لفظي خفيف الظل بفتاة صاروخ أرض جو تعبر الشارع، أو نفثة من سيجارة محشية بصنف رديء..\nدخلت المقهى على صوت المذيع الأشهر في مصر هذه الأيام "أحمد موسى" ينبعث صوته من التلفاز، يندد ويشجب ويسب ويقذف ويوضح عظم المؤامرات الكونية التي تلحق بالبلد ويقصف جبهات "أهل الشر" أولاد الكلب الملاعين..\nمن أمامه قد اصطف بعض الناس صفوفاً، منصتين غير لاغين كأنهم في خطبة جمعة، ناظرين إلى "المذيع الوطني" بذهول كشاب حبس عن رؤية النساء سبع ليالٍ وثمانية أيام حسوماً، هائمين مع كلمات موسى لا يحركون ساكناً كأن على رؤسهم الطير، جل هؤلاء القوم من أهل الستين أو السبعين عاماً، وقليل من لم يتجاوز ذلك، أعرف منهم أصحاب معاشات القوات المسلحة، وآخرين كانوا أعضاء في الحزب الوطني، وغيرهم ممن رقصوا أمام اللجان الانتخابية.\nنظرتُ فإذا بصديقي قد جلس واجتمع شباب من حوله يستمعون قوله باهتمام، مشيت نحو تلك الحلقة متثاقلًا كأني أحمل جبلًا، ثم أخذت مكاناً أراه منه حيث لا يراني؛ فإذ به يتحدث عن الأمل في المستقبل المشرق بالجد والاجتهاد بعد انتهاء الحرب على الإرهاب، ويرجو أن تنتهي حالة الطوارئ وينعم الجميع بحرية الرأي والتعبير، ويسبح ومن معه في عوالم الأحلام الوردية والزهرية، ويعدُهم -مُقسماً بالله- بمستقبل أفضل وحياة إنسانية، محاولاً ترضيتهم بالواقع الأثيم، ويكرر بعد كل جملة ينطقها مقولة: "اليأس خيانة".. تلك المقولة التي جعلت ثلثي الشعب وزيادة، من الخائنين الموالين للكيان الصهيوني.\nكان ذلك متزامناً مع صوت "أحمد موسى" في التلفاز.. فلا ريب أن كليهما يبيع الوهم للناس في بلد أصبح الوهم فيه يباع ويشترى بأغلى الأثمان، بينما الأمل يبدد مجاناً، وحل بنا اليأس من كل جانب. كتمت ضحكاتي التي كانت كزلزال داخلي يعصف بي عصفاً، وصاحبي مستمر في كلامه لا يزدرد ريقه ولا يخونه لسانه في التعبير ولا يتلعثم في حرف وكأنه "إبراهيم الفقي" قد بُعث من قبره وجاء ليعلم الناس كيفية تنمية بشريتهم..\nغير أني لحظت بريقاً مريباً في أعين الجالسين، ذلك البريق أعرفه جيدا؛ فقد رأيته وأحسست به من قبل وتمسكت به وذدت عنه كل مثبط .. اللعنة؛ إنه البريق العجيب الذي يتهدل من الأعين ساعة الحديث عن الأمل، ذلك البريق يتفجر بالدماغ كتفجر نهر عظيم أو بركان هائل، وصاحبي لا يتوقف عن الكلام، وكأنه قد ابتلع راديو أو محطة إذاعة كاملة بمذيعيها وميكروفوناتها وتسجيلاتها واستديوهاتها وعمالها وفنييها، فدورة التنمية البشرية التي حصل عليها جعلت منه شخصية لزجة حالمة تتوهم السعادة مثل ظمآن يرى سراباً في ظهيرة يوم قاحل.\nاستمعت إلى كلماته بكوميديا باطنية تشتعل بداخلي، ثم عزمت على اعتزال ذلك المجلس حتى ينتهي رائد التنمية البشرية من كلماته المعسولة، ولم أكد أتم قومتي إلا وانقطعت الكهرباء.. فغدونا في ظلام نتحسس فيه -لا مؤخذة- جميعاً سبل النجاة نحو القداحات التي في جيوبنا كي تكشف لنا ما سترته الظلمات عنا، وحتى ينهض "صبي القهوة" إلى مولد الكهرباء ذي الصوت الذي يهوي على طبلة الأذن صانعاً أفخم نمرة للراقصة اللولبية "آلاكوشنير"..\nحينئذ قطع صاحبي كلامة بإصدارة "واحدة إسكندراني" عمت الأرجاء وتغلغلت في كل ركن تهزه هزاً، قائلا: لأااا دي تالت مرة الكهربا تقطع النهاردة إيه يا بلد يا بنت الـ***** .. ربنا يخرجنا من البلد بنت الـ**** على خير.. حرام كدا إحنا طلع عين (عين بسبب الرقابة) أهالينا.\nفقال أحد حاضري "القعدة" ممن أشرب في قلبه كلام صديقي: "استحمل يا جدع.. ما هي دي ضريبة الأمل.. شوية بس لحد ما الحرب على الإرهاب تخلص.. استحمل شوية خلي عندك أمل.." قالها بطريقة الفنان الراحل القصري المعروفة في فيلم "ابن حميدو" وهو يقول "وأنا كلمتي عمرها ما تنزل الأرض أبدا" ..\nفرد عليه صاحبي ببداهة غير مصطنعة وثقة مبالغ فيها: "أمل دي تبقى والدتك يابن الـ**** (والدتك بسبب الرقابة أيضاً).. أخذها المهتوك عرض أمه ولم يعقب!\nحسبته سينتهي عند ذلك الحد إلا أنه كعادته استطرد في الكلام بما لا يلذ ولا يطيب، ناقداً قيادات الدولة وعائباً في ذواتهم المنزهة وواصماً حضرات أصحاب المقام العالي بالفشل والعياذ بالله، ولم يتم الرجل كلامه إلا وقام إليه جمهور "أحمد موسى" كأمثال "الزومبيز" ميممين وجوههم نحوه يشمرون عن سواعدهم بغلٍّ..\nساعتها؛ انفض أهل "القعدة" من حوله كفص ملح قد ذاب، أما أنا فقد اتخذت مكاني في ركن شديد أرى منه ما يفعله مصاصو الدماء بصديقي الوفي.. فهم في طريقهم يمشون ببطء كبطريق متبختر؛ وذلك أنجع في تعذيب الخصم والتشفي من كرامته وتمزيق معنوياته.\nلم تُجدِ معهم تأسفاته واعتذاراته وندمه وأن ذلك ما هو إلا "طيش شباب هايف" و"ساعة شيطان"، وأنه يستغفر الله لذلك، وينوي أن يعتمر سائلاً الله المغفرة في بيته الحرام، وأنه سيكثر من الصدقات تكفيراً عن ذنبه.. بيد أن هؤلاء لا يجدي معهم ندم ولا أسف أو استغفار!.. فقد وصلوا إليه وانقضوا عليه مثل فريسة سائغة لضبع نهم.. أصبح لا يُرى منه إلا الدماء التي سالت على أيديهم من جسده، ولا يُسمع منه إلا دوي آهاته الذي يرج المكان وما من مغيث، ظل يطلب بصوت مذبوح المساعدة ولا يأبه إليه أحد؛ فأنا والناس كلنا لنا نفس الأذنين (الأولى من طين والأخرى من عجين).\nانقطعت آهاته ولم يزالوا يدقونه دقاً، حتى قال أحدهم تنفر زبيبة الصلاة من جبهته كثمرة بطيخ:: كفايه كدا يا اخوانا.. لازم نعمل بقول الله: (أشداء على الكفار رحماء بينهم).. احنا بنحاول نربي الجيل اللي ملقاش حد يربيه ده.. جيل فاسد لا بيحترم الكبير ولا بيقدّره.. وهذا من علامات الساعة.." آه.. فأمّنوا على كلامه داعين له بالفتح وعلى صديقي ومن على شاكلته بالهلاك والخذلان.\nأنهوا حفلتهم التي أقاموها على شرف صديقي وفي أماكن حساسة أخرى، وشربوا من دمه بدل "الشامبانيا" وكؤوس "الويسكي"، وذهبوا إلى حبيب الملايين "أحمد موسى" حتى يتم ما ابتدأه.\nذهبت إليه على استحياء وحملته إلى المستشفى وهو يتمتم خارجاً عن الوعي بكلمات؛ قتل الأمل ما أكفره.\nالتدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

الخبر من المصدر