رسالة في زجاجة‎

رسالة في زجاجة‎

منذ 7 سنوات

رسالة في زجاجة‎

متكئا على أريكة بجانبي زوجتي نشرب الشاي ونأكل البسكويت ـ أحب تلك العادة الإنجليزية ـ أولادي يطوفون حولنا يلعبون، هم دوماً في البيت لا يتجاوزون سور الحديقة أخشى عليهم ظلم الحياة، أمهم لديها كل الوقت تربيهم لن تعمل خارج البيت بل هي ربّة البيت.\nأحدثهم عن الوحوش خلف هذا السور، عن بشر تأكل بعضها وحروب بلا هوادة، آباء يحملون أطفالهم في سيل من الدماء والدمار، عن امرأة وقع الجدار عليها وهي نائمة ترضع طفلتها، حين ألقى طير الأبابيل حجارة من سجيل عن تنين من الصفيح يقذف اللهب ليحرق البيوت والأزقة، عن سهام نارية تردي من تصيبه قتيلاً أو طريحاً للفراش..\nهل تقولون إني أكذب عليهم؟ لا لم أفعل هذا ما حدث هذا ما رأيته في سنوات من الحرب.\nربما تعطونه وصفاً آخر، ربما تكررون ما نسمعه في الأخبار، تحكونه ببرود ثم تكملون طعامكم الساخن فلا شيء يستحق، هكذا هي الحياة نزلنا إلى الأرض أعداء،\nكنت أفكر لما علينا أن ننجب ذكوراً سنكتفي بالبنات، نعم همهمنّ كبير لكن همّ الأولاد أكبر على الأقل في أيامنا.\nتتشعب الأفكار أكثر لما علينا أن ننجب أساساً ونحمل كل هذا الخوف، ربما من الأفضل ألا نُوهب ذرية، سأقول لها قبل الزواج لا تنجبي هذا شرطي.\nنعم كنت أحدثكم عن أفكار فأنا لمّا أتزوج بعد، كنت أصف لكم ما أراه إن تزوجت، لكن ماذا عن زوجتي ـ أعني المستقبلية ـ ربما لن تقبل شرطي هذا أو تقبل لكنها تغير رأيها بعد الزواج، ستضعف حين ترى أطفالاً يلعبون في أحضان أمهاتهم، أعرف تلك النظرة تدمع عيناها وتنظر إليّ وتقول لم أعد أحتمل أريد أن أكون أمّاً ألا تريد أن تصبح أباً، سأنجب لك ما تشاء من الذرية.\nإن رفضت ستقول طلقني يا لقلب المرأة، لن ألومها هكذا فُطرت، وأنا كذلك قد يرق قلبي، عرفته قوياً في مواضع قليلة، ضعيفاً في أكثرها ماذا أفعل ما الحل؟\nسأستمع هذه المرة لوساوس عقلي حين يتمتم عن صديقه العاطفي يلومه على أي شيء وكل شيء.\nحسناً لن أتزوج حسمت أمري هكذا أرتاح من همّ التفكير والصداع، أحتاج للراحة والسكينة، لذا سأعيش وحيداً في صومعتي أبنيها قريباً حين أشتري مزرعة صغيرة أحيطها زرعاً وحيوانات أليفة تؤنس وحشتي.\nسأشتري مرقاباً (تيليسكوب) أديره بين النجوم في سماوات ربّي، لن أطأطئ رأسي لأنظر للبيادق أتركهم يتقاتلون على رقعة الحياة يموتون كي يحيى الملك.\nنعم لا حاجة لي بهم لا حاجة لي بالأحياء سأقرأ للأموات كتبهم في الفلسفة وعلم الفلك وفيزياء الكمّ، لن أقرأ كتب الكيميائيين فأنا لا أريد الخلود في هذه الدنيا، ولا أريد تحويل نباتات مزرعتي إلى ذهب أحبها هكذا بلونها الأخضر.\nسأقرأ قليلاً من الشعر والأدب وأشاهد فيلماً بالأبيض والأسود لألفريد هيتشوك وآخر لتشارلي تشابلن.\nفي المساء أتوقف عن كل شيء وأنظر للسماء أتأمل خلق الله مالي وللإنسان (الظلوم الجهول).\nالعزلة.. تلك الفكرة التي لا تزال تكبر في رأسي حين يصفو آخر الليل بعد صخب الحياة يسود الصمت، أسمع نبضات قلبي وأسمع حفيف الريح على أوراق الشجر، أحدق في الساعة أراها بالكاد تتحرك لم أعد أسمع صوت عقرب الثواني تك تك تك الوقت يتلاشى كذلك المكان.\nهكذا حالي كل ليلة أضع رأسي على الوسادة وأسأل نفسي قبل النوم هل من امرأة تقدر على كسر الفكرة أو تكون جُزءاً منها فلا تكون عُزلة من الأساس؟!\nهذه رسالتي أكتبها وألفّها في زجاجة لن أرميها في بحر صغير بل للمحيطات كلها ستسبح مع قوارب اللاجئين الباحثين عن الأوطان، ستسبح مع قطعان الحيتان والدلافين المبتسمة مع أسماك القرش وشباك الصيادين، مع حوريات البحار أميرات الأعماق حلم البحارين، تسبح بحثاً عمّن يعرف معنى القراءة يقرؤها ويعيدها للمياه يمررها لغيره.\nالتدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

الخبر من المصدر