ليلة كسر الحواجز.. الصوت والخوف

ليلة كسر الحواجز.. الصوت والخوف

منذ ما يقرب من 8 سنوات

ليلة كسر الحواجز.. الصوت والخوف

الجمعة 15 يوليو/تموز 2016 يوم كغيره من أيام الغربة التي اعتدناها على وشك الانتهاء، وقد حلت الساعة العاشرة من مساء الجمعة، وفي طريق العودة إلى المنزل بعد انتهاء روتينية اليوم، ولعل آخر ما قمت به كسر هذا الروتين هو مجلس الأصدقاء الأتراك غير المنتظم، فكلما تسمح الظروف نجتمع في أحد المقاهي ونتحدث في كل الأمور.\nتلقيت في هذه الأثناء اتصالاً هاتفياً من صديقي المقرب (هـ) علمت منه بمحاولة انقلاب تحدث الآن في تركيا والدبابات منتشرة في الشوارع! رغم ثقتي في أخباره متأثراً بقاعدة الاستيعاب الانحيازي حاولت رفض الخبر وقررت الاتصال بأحد الأصدقاء الأتراك لتكذيب الخبر وليس التأكد منه، ولكنه أكد الخبر بعد أن اتصلت به وأخبرني بصوت يملؤه الخوف والتوتر شعرت به قبل أن ينطق بلسانه! بالفعل هناك محاولة انقلاب.. ادعُ لنا.. ادعُ لنا.. ادعُ لنا، وأنهينا المكالمة واستقر القلق، وأصبحت الكارثة واقعاً يجب التعامل معه.\nأنهيت المكالمة في صمت رهيب وعدم القدرة على التفكير بشكل طبيعي أسرعت في مشيي.\nدخلت المنزل ولم أنجح في خلع الحذاء ووضعه في الجذامة، في أثناء هذه المحاولة دخلت الصالون أبحث عن التليفزيون لمتابعة الأحداث، وما بين هذا وذاك شرعت في عمل ثالث بالحديث مع ابن عمي وأبلغته بمحاولة الانقلاب الدائرة الآن، وسرعان ما عبر عن غضبه وحزنه بتعابير وجهه ثم بلسانه، وقال: (أنا عارف أن ولاد ال.... مش هيسيبوه فحاله).\nبالتزامن مع تشغيل التليفزيون (الجزيرة) بدأت بتشغيل كل برنامج أو موقع نتابع معه كل جديد.\nفي تطور سريع للأحداث بدأت خدمات الفيس بوك وتويتر تتأثر حتى أُغلقت تماماً، وبذلك نكون فقدنا وسيلتين هامتين ولم يتبق إلا الجزيرة وجروب واتس أب للمصريين المنتشرين في أنحاء إسطنبول، آملين في نشرهم ما يدور من حولهم باختلاف مناطق سكنهم.\nمن واقع المتاح من أخبار أن الانقلابيين في تفوق وقتي متصاعد لدرجة جعلت مذيع قناة الجزيرة زين العابدين توفيق يعترف وبكلمات لم يستطع إخفاء مرارتها عليه - الآن نستطيع أن نقول إن انقلاباً قد تم في تركيا - وصدق على هذه الجملة الصحفي التركي محمد زاهد جول المقرب من "العدالة والتنمية" الذي كان ضيفاً في هذه الأثناء!\nبدأت تتوالى تدوينات وزراء وبرلمانيين ورؤساء البلديات الكبرى عن الأحداث، وأن هناك محاولة انقلاب لم ولن تنجح، فكانت بمثابة بارقة أمل للمتابعين بأنه بالفعل ما زالت المحاولة لم تتم وأن المسؤولين أحرار، وجاء الخبر المنتظر - الرئيس يلقي كلمة بعد قليل - كما كتب حمزة تكن، أحد شباب العدالة والتنمية.\nفي أثناء انتظار كلمة الرئيس بتوتر وقلق انقطع بث الجزيرة، أسرعت في تشغيلها على الهاتف، ونقلت الجزيرة عن CNN TURK كلمة الرئيس وظهوره المفاجئ!\nالرئيس يلقي الكلمة عبر شاشة تليفون باتصال إنترنت فكان لذلك تأثير سلبي تمثل في دلالة هذا الظهور على فقدان السيطرة من جانب الدولة، والتأثير الإيجابي كان في ظهور القائد الحر يوجه الشعب للنزول والتعامل مع الانقلابيين بالمتاح من إمكانيات دون قيد، والتعامل مع ما يستخدمه الانقلابيون من معدات على أنها ليست ملك الشعب (توجيه لمواجهة شاملة).\nوما أن انتهت كلمة الرئيس حتى دار نقاش حاد بين فريق يدعو للنزول، وآخر تبنى التزام المنازل لدقة اللحظة، وحرصاً على سلامة المصريين، والذي تعرض لهجوم منفلت أخلاقياً من الفريق الأول حتى تدخل أحد الحكماء وترك باب المشاركة لكل شخص بحرية.\nتلقيت رسالة صوتية من صديق تركي عضو بالعدالة والتنمية بالنزول والتجمع أمام مقر الشرطة في المدينة، وكانت في هذه اللحظات قد انتهت علبة السجائر الخاصة بابن عمي وثار في وجهي ( لما انت عارف إنه فيه زفت الطين انقلاب ما جبتش قاروسة سجاير ليه الله يسامحك).\nكل هذه الأحداث تدور وأنا في مكاني لم أتحرك على الإطلاق، حيث فقدت القدرة على الحركة بشكل مؤقت بعدما فقدت القدرة على الإحساس بالزمن!\nجاء اتصال في هذا التوقيت لا أذكر بالتحديد من أحد السياسيين المصريين المقربين يسأل عن الأحداث وتطوراتها فلم يسيطر على حديثي إلا الواقعية، كما التزم بها زين العابدين ومحمد زاهد جول (أن انقلاباً قد تم في تركيا).\nلم يهدأ الهاتف على الإطلاق، وجاءتني عشرات المكالمات والرسائل على كل برامج التواصل والمكالمات الهاتفية والرسائل النصية، لم أستطع الرد لسوء خدمات الإنترنت من جهة، وحالتي النفسية من جهة أخرى، وفضلت التواصل بالكتابة عدا الفيس بوك؛ كونه خارج الخدمة.\nلعل شعوري منذ البداية بأن خدمات الفيس بوك ستنقطع خلال الأحداث دفعني لكتابة بوست طمأنت به كل من يريد الاطمئنان علينا.\nبدأت بإرسال رسالة للصديق (ي) على الواتس أب للحديث حول ما يدور، فأبلغني بأنه في منطقة الفاتح والتحق بالمظاهرات، وهناك حركة طيران انقلابي بالتوازي مع وجود قوات برية سيطرت على مبني بلدية إسطنبول ومديرية الأمن.\nحتى هذه اللحظة لم أكن قد حسمت قراري بالنزول من عدمه، وحُسم الأمر في لحظة بالنزول وإذا كان للموت بُد فليكن في الشارع وليس قهراً في المنزل.\nلاحظت مع خروجي من المنزل عدم وجود أي شخص حتى وصلت إلى نفس المكان الذي وصلني فيه خبر الانقلاب؛ ليكون نقطة الانطلاق نحو طريق المطار بعد اتصالي بمن نزلوا من المصريين، علمنا في تلك الأثناء أن هناك غيرنا من دائرتنا الاجتماعية هنا سبقونا بالتوجه للمطار.\nكانت سيارات الإسعاف وسيارات نقل القمامة منتشرة على الشوارع الهامة بشكل اعتراضي وأمام مقرات الدولة (مراكز الشرطة والضرائب والبلديات) لمنع الانقلابيين من السيطرة على هذه المنشآت، وكان لسيارات النقل الكبير دور آخر تمثل في نقل المحتجين للمطار والمحاور الأخرى للمطار.\nحركة شعبية عارمة شملت كل أطياف المجتمع التركي في طريقها للمطار على الأقدام بعد استحالة الوصول إلى المطار بالسيارة، فكان سبيلهم ترك سياراتهم بعيدا عن المطار بحوالي خمس أو ست كيلومترات، سيارات تركها أصحابها دون التأكد من إغلاقها ليكون ذلك شاهدا على حالة الغضب العارم في نفوسهم ومدى استعدادهم للتضحية في سبيل التصدي لهذه المحاولة.\nبعد حوالي ساعة حركة طيران (f16) اخترقت حاجز الصوت، نفذت طلعتين فوق رؤوسنا أجبر الجميع بسببها على الانحناء أرضا ونتج عن ذلك أيضاً تحطم الكثير من نوافذ المطار ، لا يعرف أحد هل هذه الطلعات ينفذها الانقلابيون أم ماذا.\nانسحبت قوات الانقلابيين من طريق المطار (تجاه يني بوسنا) تاركين خلفهم 6 دبابات تبعد كل واحدة عن الأخرى حوالي كيلو، وما زالت الاشتباكات مستمرة في محوري أمنيات فاتح وكبري البوغازتشي، كان ذلك الانسحاب بمثابة إعلان تحرير المطار وطرد الانقلابيين منه، وأصبح المكان جاهزاً لكلمة الرئيس، وقد حلت الساعة الخامسة.\nظهر الرئيس أردوغان وتحدث قليلاً على غير المرتب له، وعلمنا أن ما حدث في الجو كان لتأمين الرئيس أردوغان ومنع طائرتين للانقلابيين كانتا في سماء إسطنبول من الاقتراب من المطار.\nلم تنتهِ الحوارات الجانبية بيننا وبين الأتراك أثناء الأحداث، وما أن علموا بأننا مصريون حتى رأينا في أعينهم ترحيباً وحفاوة بمشاركتنا معهم هذه الليلة وبكلمات متشابهة اجتمعوا على رؤية واحدة أننا قضية واحدة وحلم واحد وطريق واحد.\nشاهدت لحظة استسلام قوات الانقلابيين على كوبري البوغازتشي أثناء وجودي بماركت داخل محطة وقود لشراء ماء وبسكويت بعد جوع وعطش بالغ، الذي لفت انتباهي للشاشة هو التفاف أغلب العاملين بالمحطة حولها وحالة تركيز شديد، فتوجهت إليهم وتقدمت لمعرفة الشيء الذي لفت انتباههم لدرجة كهذه، فتابعنا وبفرحة انتهت معها حالة الهدوء مع رفع جنود الانقلاب أياديهم معلنين الانسحاب وكتابة الخبر على الشاشة، فكان بمثابة تأكيد للذي كذب الصورة فيقرأها بلسانه وعقله.\nمع وصولي للمنزل وقد انتهت طاقتي الجسدية والعقلية لا أريد إلا الخلود إلى النوم بعد ليلة عنيفة شاهدت فيها قوة وجسارة الشعب التركي والتحامه بشرطته ومؤسسات الحكم المحلي، فكانوا جميعاً أبطال الملحمة بأدوارهم المتجانسة.\nقبل كلمة الختام يتردد بداخلي سؤال: لماذا تقتصر المقارنة على الحالة التركية دون السورية واليمنية؟ وهل كنا قادرين على إفشال مخطط السيسي الوارد بإشعال الحرب في حالة سقوط الانقلاب كخيار حتمي كان سيسلكه السيسي في ظل انقسام مجتمعي حينها وانعدام الوعي وانحياز كل مؤسسات الدولة له؟\nفكل التحية للشعب التركي وسياسييه ومؤسساته التي واجهت الانقلاب وأفشلته بالتوحد والتجرد، تحت شعار: كن إسلامياً.. كن ليبرالياً.. كن علمانياً.. كن ما شئت ما دام الوطن في قلبك حياً.\nملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

الخبر من المصدر