المحتوى الرئيسى

هنا الاسكندرية: الطبقة العاملة.. تذهب إلى المحكمة العسكرية (تحقيق في قضية عمال الترسانة البحرية وأبعادها)

07/13 18:51

وراء كل واحد من الستة والعشرين متهما أمام المحكمة العسكرية تفاصيل حياة .وهي حقا 26 حياة صعبة .. بل وتبدو مستحيلة حتى قبل القبض عليهم

شكاوى العمال من تدني الأجور وتراجع عوامل الآمان تحولت لشكاوى من سوء أوضاع الاحتجاز وطفح المجاري في حجز القسم

الاعتداء على المهندس "فاروق بدر" على الوجه في قسم الرمل أول لأنه طالب بتخفيف ضغط ( الكلابشات)

خلف الستة والعشرين محالا للمحاكمة العسكرية أكثر من الفي عامل يعانون بسبب وقف العمل بالشركة منذ اكثر من شهر ونصف

العمال في قضية شركة الترسانة البحرية بالاسكندرية مهددون بالحبس عامين .. وثلاثة شهور كحد أدنى

هل هناك علاقة بين الخصخصة والعسكرة التي شهدتها مصر وشملت العديد من الشركات والمصانع التي كانت مملوكة للدولة ؟

هل هناك تداخل بين انشطة الجيش الاقتصادية وبين مجتمع رجال الأعمال والشراكة مع رؤس الأموال والشركات الأجنبية ؟

للمصادفة يقع قسم شرطة كرموز بالإسكندرية، على مقربة من ساحة رياضية تابعة للقوات المسلحة يطلق عليها "النادي". وبالطبع هي ساحة شعبية.. فمن النادر أن تجد ناديا للعسكريين بعيدًا عن شواطئ البحر والنيل المميزة أو عن الاحياء الراقية. ولكن في حجز قسم الشرطة هذا ستة من عمال شركة الترسانة البحرية الذين يحاكمون عسكريا والمحتجزين هنا منذ أكثر من شهر ونصف الشهر. وقد مر عليهم وعلى أسرهم حتى المثول أمام القضاء العسكري يوم الاثنين 11يوليو 2016 لحضور الجلسة الثامنة متهمين بالتحريض على الامتناع عن العمل شهر رمضان، بكامله فالعيد مابين الأمل واليأس .ودائما الخوف.

وهذا المزيج الذي يغلبه الخوف هو الذي تسبب في تأجيل اللقاء بأسر وزملاء العمال المحاكمين عسكريا والتحدث إليهم غير مرة الى أن كان وحدث هذا الأسبوع .وقد تسبب أيضا في حجب بعض أسماء المصادر عند نشر نص هذا التحقيق  . وهؤلاء العمال الستة من بين قائمة الستة وعشرين من العاملين بالشركة أمام المحكمة العسكرية في القضية ذاتها.  وتوزع على غرف حجز أقسام شرطة باب شرق ثلاثة آخرين،  ومثلهم في الرمل أول ، وواحد في سيدي جابر ، وآخر في اللبان . وهكذا يبلغ اجمالي المحتجزين  في اقسام شرطة الاسكندرية ورهن قبضة القضاء العسكري وبأمره 14 مواطنا مدنيا . وتضاف اليهم سيدة تعمل موظفة إدارية بالشركة ذاتها، تحضر بدورها الجلسات مخلى سبيلها على ذمة القضية.. هذا علاوة على 11 متهما آخرين يحاكمون غيابيا في القضية ذاتها بعدما افلتهم التخلف عن تلبية استدعاء النيابة العسكرية للتحقيق من مصير الاحتجاز القاسي غير الآدمي في المحابس.. بهذا الصيف القائظ.

 وللمصادفة أيضا فإن  شركة الترسانة البحرية بالمكس في الاسكندرية تأسست عام 1960 كإحدي شركات القطاع العام المدني في سياق المشروع الطموح للرئيس الأسبق جمال عبد الناصر للتصنيع والانتاج المحلي. وبدأت هذه الشركة العمل في صناعة تدشين وصيانة السفن اعتبارا من عام 1964. وبين هذين التاريخين أصدر الأديب نجيب محفوظ روايته "السمان والخريف " . وتحديدا في عام 1962 ثم تحولت الى فيلم سينمائي عام 1967. وقد انطلق النص الروائي من لحظة حريق القاهرة يوم 26 يناير 1952، ووردت على لسان "حسن الدباغ" ابن عم بطل الرواية الوفدي "عيسى الدباغ"  في حوار بينهما :"دلني على ركن واحد لم ينضح فيه الفساد ".

وهكذا تأسست شركة الترسانة البحرية  في مدينة الاسكندرية حيث قام الضباط الأحرار بترحيل آخر ملوك مصر "فاروق الأول" على متن يخت المحروسة في 26 يوليو 1952 ولكنهم حاكموا عسكريا وأعدموا العاملين خميس والبقري على مقربة في كفر الدوار سبتمبر 1952 مما خلق بدوره جرحا غائرا في علاقة العسكريين بالطبقة العاملة وخصوصا ان انجازات الناصرية ومكتسباتها امتزجت بمصادرة حرية التنظيم النقابي وحق الاضراب.

وانتقلت الترسانة البحرية بالاسكندرية مع تحولات الليبرالية الجديدة لتصبح إحدي شركات قطاع الأعمال في عام 1993 وتبعت الشركة القابضة للصناعات الهندسية. وما أن بدا أن  الترسانة البحرية بالاسكندرية تنجو من موجة فساد بيع وخصخصة العديد من شركات الدولة حتى أصبحت بحلول عام 2007 تابعة للقوات المسلحة0.وهي الآن تتبع  تحديدا جهاز الصناعات والخدمات البحرية بوزارة الدفاع. ويرأس مجلس ادارة الشركة منذ نحو عام اللواء بحري عبد الحميد حسين عصمت الذي يبدو أنه دخل في مواجهة " كسر عظم " مع العمال.

 ومع رحلة الشركة وملكيتها وتبعيتها مع تحولات وتقلبات مصر الاقتصادية انخفض عدد العمال من نحو خمسة آلاف في الثمانينات الى  نصف هذا العدد حاليا، وفق مصادر نقابية بالشركة. ولقد كان للحركة العمالية الاحتجاجية والمطلبية في هذه الشركة ماضي زاهر ومشهود في عهد الرئيس السادات. لكن من الصعب الحكم على مدي بقاء هذا الماضي حيا في وعي عمالها الآن ،خصوصا وان تقديرات بين النقابيين تذهب الى ان نحو 70 في المائة من عمال الشركة من الشباب، وإن ظلت هناك حقيقة مهمة مفادها ان الغالبية الكاسحة من العمال التحقت بالشركة وتعاقدت قبل الحاقها بوزراة الدفاع.

وعلى أي حال فان الترسانة البحرية بالاسكندرية اصبحت من بين مشتملات مايطلق عليه "الامبراطورية الاقتصادية العسكرية". وقد توسعت وتغلغلت في مجالات الأنشطة المدنية ونزلت بمنتجاتها وخدماتها بقوة إلى السوق اعتبارا من الثمانينيات مع عهد  الرئيس المخلوع مبارك ووزير الدفاع القوي المشير أبو غزالة. وفي ظل غياب الشفافية والاحصاءات الموثوقة تذهب تقديرات غير رسمية إلى أن نصيب المؤسسة العسكرية في اقتصاد البلد يتراوح بين 15 و25 و 40 في المائة. إلا ان الرئيس عبد الفتاح السيسي قال لوكالة رويترز اثناء حملته للانتخابات الرئاسية عام 2014 ان هذا النصيب يمثل 2 في المائة فقط.

 وللمصادفة ثالثا ألا تخلو شوارع كرموز من ملصقات للدعوة السلفية. وقد تخلفت على جدران الحي دعوتها لصلاة عيد الفطر المبارك. وثمة حكاية متداولة في مدينة الاسكندرية التي شهدت بدورها جانبا مهما من قصة مولد طبقة عمالية وحركة نقابية في مصر مع نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، امتزجت بطابع المدينة الكوزموبوليتاني وبخبرة ونضالات بروليتاريا جنوب أوروبا وشمال البحر المتوسط .

وتروى الحكاية المعاصرة التي تلوكها الألسن في أسكندرية 2016 أن مقر "جهة غير مدنية" بالمدينة وظف الثقة في شيخ سلفي لاقناع عمال شركة "الاسكندرية فيبر " بالمنطقة الحرة ببرج العرب الانصياع لرغبة المستثمر الأجنبي (الهندي) الخروج إلى المعاش المبكر تمهيدا لإغلاق مصانع الشركة، وبعدما استنفد المستثمر سنوات الاعفاء الضريبي وامتيازات الاستثمار الحر . وبالفعل تمكن الشيخ السلفي من اقناع العمال المقاومين لتصفية الشركة مع وعد تشغيلهم في مصانع أخرى ببرج العرب . إلا أن الشيخ لم يف بوعده قط .

وتصل الحكاية الى نهايتها بأن " فضيلة الشيخ " قال للعمال أن أيا من رجال الأعمال لا يرغب فيهم بسبب ماضيهم في "المشاغبة " مع رجل الأعمال الهندي.

 المصادفة الأولى أشار اليها بمرارة أحد أقارب العمال المحبوسين ، وكأنه يريد ان يلفت الانتباه الى المفارقة بين نادي يتبع القوات المسلحة وبين قسم شرطة تحول الى سجن للعمال. والمصادفة الثانية حيث مفارقة تاريخ شركة ترسانة الاسكندرية البحرية مع رواية نجيب محفوظ ساقها كون أن جهاز التليفزيون في غرفه احتضنت اللقاء مع أهالى وزملاء العمال المحالين الى المحكمة العسكرية كان يبث فيلم " السمان والخريف" بالأبيض والأسود. ولم يقدم أي كان في الغرفة على اغلاقه حتى غادرنا. والمصادفة الثالثة عن عمال برج العرب والشيخ السلفي يعود فضل روايتها الى ناشط سياسي بمدينة الاسكندرية يتابع أحوالها العامة عن كثب .

لا يشبه محمد جودة عامل الترسانة البحرية المحبوس في قسم كرموز بأي حال محمد رمضان، الممثل الشهير في المسلسل التلفزيوني "الأسطورة". هذا مع أن أجواء هذا الحي الشعبي السكندري كفيلة بأن تصك آلافا على شاكلة نموذج "محمد رمضان" وتخرطهم في "فبريكة" الفقر والتهميش والبطالة والبلطجة والبانجو والتصعلك. وأيضا الاشتغال بقيادة "التوك توك "الذي يرعي بكثافة في الشوارع والأزقة المفضية الى سكني "محمد جودة " بمنطقة غيط العنب التابعة لحي كرموز. وهنا حيث انقطعت السبل بالمواصلات العامة المملوكة للدولة. ناهيك عن ان مدينة الاسكندرية في غالبها انحسر اعتماد سكانها على مثل هذه المواصلات واستبدلتها بعربات "المشروع" و "التناية" . وبالطبع واخيرا بـ"التوك توك".

وهكذا كان على من قصد كرموز للقاء أهالي وزملاء عمال الترسانة البحرية المحالين للمحكمة العسكرية التنقل عبر ثلاث أو اربع وسائل مواصلات أهليه بين "مشروع" و"تنايه"، ولا مانع من "توك توك".

 هنا بالامكان أن تتعرف على سيرة محمد جودة الغائب في قبضة المحاكمة العسكرية، والذي لا يشبه رغم كل هذا محمد رمضان . هو شاب عمره 26 عاما. ويعول ستة آخرين : أم وأب وأخت وزوجة وطفلان له . وهم جميعا تضنيهم محنة العائل . وتفيد قراءة بيانات تواريخ الميلاد من واقع أرقام بطاقات تحقيق الشخصية المسجلة في أوراق قضية عمال الترسانة البحرية أن 17 من اجمالي الستة والعشرين تحت سن الأربعين ، ومن بينهم إثنان تحت سن الثلاثين . وبصيغة أخرى فان الأقلية تجاوزوا الأربعين سنة وعددهم 9 عمال ، ومنهم خمسة اجتازوا الخمسين ويتقدمون الى سن المعاش الستين . 

  وقبل المحنة كانت مشكلة محمد جودة هي كيفية تدبر أمور هذه " الكوم من اللحم " بمرتب مضمون، لكنه لا يتجاوز ألفا واحدة من الجنيهات في ظل غلاء لا يرحم . والآن لم يعد الا أساسي الراتب ( نحو 450 جنيها ) . ثم نصف الراتب بدعوى أنه محبوس احتياطيا. وقد دخل العيد على أسرة محمد جودة من دون صرف مرتب أو منحة العيد .

وزاد فوق كل هذا أعباء ادخال الطعام وغيارات الملابس اليه في حجز قسم كرموز. وهذه الزيارة تتكلف في المرة الواحدة ما بين مائة و خمسين ومائتي جنيه. ورجال الشرطة لايخجلون من الطلب "ولا شئ يتحرك في البلد إلا بالفلوس".

محمد جودة كان يذهب الى عمله قبل الساعة الثامنة صباحا ويعود قبل الخامسة عصرا أو عند الغروب وفق أحوال الصيف أو الشتاء .يعمل في أحد مسابك الشركة. ولعله كان محظوظا لأن مخاطر العمل لم تخلف له إلا هذا الطفح الجلدي من البثور الحمراء و وهذا الالتهاب المزمن في الجيوب الأنفية . وهو بالقطع وفق هذه المضاعفات الصحية محظوظ إذا قورن بزميليه "حسني معبد " و "حسن محمد حسن " ،وقد توفيا خلال شهر واحد ( فبراير 2016) .

ومخاطر العمل لاتتوقف عند السقوط من السقالات كما جرى للعاملين المتوفيين . بل وأيضا في الحروق . ومن الطبيعي ان تزداد إصابات العمل مع النقص في وسائل الأمان والحماية الصناعية ، بما في ذلك الخوذة  الحامية للرأس و السترات الواقية من الحروق ( الأفرولات ) . ولذا كان من الطبيعي ان تتضمن مطالبة العمال بحقوقهم توفير هذه الوسائل.وهذا الى جانب تحسين الدخول ( صرف الارباح السنوية ومنح المناسبات والأعياد وعلاوة الحد الأدني التي تم صرفها لستة اشهر ثم توقفت) . كما أن هناك شأن آخر يمس محمد جودة أيضا، وهو مأساة توقف الترقيات بالشركة .

  ويكبر سامر إبراهيم زميله محمد جودة بنحو 12 عاما . و عمره الآن 38 سنة . وهو على هذا النحو بين الفئة الأوفر حضورا بين المتهمين في القضية أمام القضاء العسكري، وحيث يمثل من هم بين سن 30 و39 سنة 15 عاملا  . 

ولدى زوجة "سامر" السيدة "دعاء"  اسبابها لتبدي دهشة خاصة لحبسه وتقديمه الى محاكمة عسكرية . فقد تعلم و تدرب في الشركة ثلاث سنوات قبل أن يعمل مؤقتا بها ثلاث سنوات ثم يجرى تثبيته كفني منذ أكثر من عشر سنوات . والاكثر إثارة للدهشة ـ كما تقول ـ أن الشركة أوفدت سامر لتقاريره الممتازة الى دورة خارج مصر عام 2012 ،وعاد منها بشهادة تفيد تفوقه. وتختصر عبارة السيدة "دعاء " حالة الدهشة المضاعفة هذه:" أول مرة يدخل قسم شرطة ويتحط في إيديه الكلابشات ".

 ويساعد  سامر ـ وهو أيضا ليس محمد رمضان ـ في اعالة أم وأختين وثلاثة إخوه بعد وفاة والده الى جانب زوجته وابنته "مريم " ( 9 سنوات ). وقد اضطر وهو الفني المتخصص ان يعمل بعد ساعات الشركة لدي ورشه تصليح أحذية. كما اضطر الى الاقتراض من بنك بضمان راتبه في الشركة. ومازال يسدد اقساطا شهرية بمبلغ 550 جنيها . وعند صرف آخر راتب لم تجد زوجته سوى 350 جنيها فيما هو محبوس في  القسم .

  ولاشك ان وراء كل واحد من الستة والعشرين متهما أمام المحكمة العسكرية تفاصيل حياة .وهي حقا 26 حياة صعبة .بل وتبدو مستحيلة بالأصل عندما كان هؤلاء يذهبون ويعودون من الشركة. فمابالنا وقد جرى تغييب 14 منهم في المحابس وأجبروا على صرف نصف راتب بمقتضى الحبس الاحتياطي ".ولعل هذه العائلات تتوحد حول ملامح معاناة مشتركة .وأيضا حول استفظاع إساءة المعاملة التي يتعرض لها ذووهم في محابسهم منذ 24 مايو الماضي . وثمة توحد إضافي باستبشاع ما سمعته في الاسكندرية عما جرى للمهندس المتميز "فاروق السيد بدر"، وهو الذي أبدع اختراعا لتصنيع قطعة غيار بالشركة بدلا من انفاق العملة الصعبة على استيرادها. ولكن علم الأهالي والمحامون بأنه تعرض للاعتداء بالضرب على الوجه في قسم الرمل أول لأنه طالب حابسيه بتخفيف ضغط القيود ( الكلابشات) على معصم يده .ولم اكد اغادر الاسكندرية حتى بلغتني أنباء سيئة اخرى عبر الهاتف بأن "المجاري طفحت في حجز القسم ".

والي جانب هؤلاء الثلاثة عشر  المحبوسين وأسرهم العمال الملاحقين ومتغيبين عن المحاكمة العسكرية .وهم بدورهم تصيبهم وأسرهم الوان مشابهة وأخرى من المعاناة .وخلف هؤلاء الستة والعشرين محالا الى المحاكمة العسكرية أكثر من الفي عامل يعانون وقف الادارة العمل بالشركة الى الآن ومنذ اكثر من شهر ونصف الشهر .

عما جرى داخل شركة الترسانة البحرية بين العمال ورئيس مجلس الادارة يومي 22 و 23 مايو 2016 هناك رواية تتضمنها مذكرة العميد مهندس رئيس قطاع الأمن بالشركة "عصام الطوخي" الى رئيس مجلس ادارة الشركة  . و المذكرة تقع في ثلاث صفحات، وتسرد وقائع هذين اليومين داخل الشر كة، ومرفق بها ثلاث صفحات أخرى تتضمن جدولا بـ 13 مشكلة عرضتها اللجنة العمالية بالشركة في 22 مايو على رئيس مجلس الإدارة وصفحة رابعة بجدول بستة وعشرين إسما تحت عنوان :" دلت التحريات على أن المحرضين ". وهذه المذكرة التي تمثل الرواية الرسمية لادارة الشركة هي التي رفعها رئيسها اللواء عصمت الى نيابة الاسكندرية العسكرية بتاريخ 24 مايو مع مخاطبة تحمل العبارة التالية :

" مرفق طيه مذكرة تفصيلية بشأن واقعة قيام بعض العاملين بالشركة بالامتناع عن العمل والتحريض على الامتناع عن العمل والتظاهر بدون تصريح اضرارا بمصالح الشركة ". وقبل ان يوقع  سيادة اللواء بامضائه أضاف الجملة الختامية التالية :" مرسل بأمل التكرم باعمال شئونكم في الواقعة ".

  والى جانب هذه الرواية الرسمية الموثقة بالأوراق ثمة رواية أخرى شفوية استمعت اليها  من العمال الذين التقيتهم بالاسكندرية . وتجمع الروايتان على أن العمال خاطبوا رئيس الشركة لدي مروره صباح يوم 22 مايو بـ"حقوقهم" وفق مصطلح الرواية الشفوية وبـ"مطالبهم " وفق رواية الأوارق الرسمية . وعلى أيه حال فان قائمة "المطالب" التي أوردتها الرواية الرسمية وكأنها تتزايد وتتعدد من ساعة الى أخرى لاتخرج عن كونها مطالب مشروعة .ويتعلق الجانب الأكبر منها بأمور مالية ووظيفية.لكن الرواية الرسمية هذه تتجاهل ذكر ما كشفت عنه الرواية الشفاهية للعمال أنفسهم من أنهم تقدموا بمقترحات لتطوير عمل الشركة  وتحسينه . وأيضا انهم طالبوا بتوفير مستلزمات الأمن الصناعي بما في ذلك (لأوفرولات) الواقية من الحريق .

وتلخص العبارة التي أخبرني بها أحد عمال الشركة أهمية وحضور مستلزمات الحماية خلال العمل حين قال:" في البداية وصباح يوم 22 مايو إتلم الناس وسألوه ( يقصد اللواء رئيس مجلس الادارة ) عن الفلوس والأفرولات ".

وقبل ان نغادر مربع " المطالب " ومن واقع أوارق الرواية الرسمية للإدارة نتساءل : هل من المقبول أو المعقول في عام 2016 ومع كل هذا الغلاء أن تتحدد منحة شهر رمضان بخمسة وسبعين جنيها ( أي أقل من سعر كيلو واحد من اللحم) ؟. وهل من المقبول أو المعقول السكوت على ان يظل الحد الأدني للأجور بلا تطبيق  مع ان هذا الحد لا يواكب غلاء الاسعار ونفقات المعيشة أو أن يجرى سريان علاوته لمدة ستة اشهر ثم التراجع عنها بدعوي انه تم صرفها بغير وجه حق؟.بل وهل من المقبول أو المنطقي أن يتوقف صرف الأرباح السنوية سنة تلو سنة ومعها الترقيات ؟. و هل المعقول ان يقبل العمال أن يجري الخصم من رواتبهم لصندوق الزمالة فيما لاتورد إدارة الشركة هذه المبالغ المستقطعة على مدي سنوات وتتراكم مديونيتها للصندوق فتتجاوز الثلاثة ملايين من الجنيهات؟ .وهكذا لا يجد من يخرج على المعاش حقوقه في الصندوق ؟. وهل من المنطقي أو المقبول ان يحاكم عامل الترسانة البحرية عن اخطاء العمل امام النيابة والمحاكم العسكرية فيما لايتمتع بمزايا العاملين المدنيين بالقوات المسلحة بما في ذلك العلاج ؟. وهل من المعقول والمنطقي بعد كل هذا ألا يحتج العمال؟ .

  تنسب الرواية الرسمية للعمال الموصوفين بـ " المحرضين " في تلك الأوراق المحالة الى النيابة العسكرية " التحريض  على الاحتجاج والاعتصام والامتناع عن العمل " وصولا الى القيام بـ " وقفة احتجاجيه" و" التظاهر ". وتلفت الرواية الشفوية غير الرسمية للعمال أنفسهم النظر الى ان أحدا من العمال المطالبين بحقوقهم لم يرتكب فعل تخريب أو اعتداء واحد . وهو ما تقر به الرواية الرسمية ضمنا حين تسكت عن ذكر أي اتهام بمثل هذه الافعال . هذا ما تكشف عنه الأوراق رغم ما تنطق به من لغة تحريضية ضد العمال و رغبة في الانتقام وانزال الأذى .

 ويمكن القول أيضا بأن الروايتين تجمعان على انه لم يحدث اضراب عام في الشركة .أي أن الأمور لم تصل الى حد تنفيذ اضراب .وإن وجب التأكيد هنا على ان الاضراب  حق يقر بمشروعيته الدستور(المادة 15) والمواثيق الدولية التي وقعت عليها الحكومة المصرية وأحكام القضاء المصري. وربما كانت أحداث 22 و23 مايو بشركة الترسانة البحرية في الطريق الى اضراب عام . ولكن هذا المصطلح " الاضراب " هو الذي تجنبت الرواية الرسمية الاشارة اليه أو ذكره . إلا ان الاستخدام المكثف في أوراق الرواية لمصطلحات أخري من قبيل " الامتناع عن العمل " و" منع العاملين عن اداء العمل " و "الاضرار بمصالح الشركة وبالمصلحة العامة " يثير عند العمال اصحاب الرواية الشفوية غير الرسمية الدهشة. وببساطة لأنهم يقارنون هذه الادعاءات بمفاجأة اغلاق الادارة الشركة من الداخل ومحاصرتها بالقوات المسلحة الى جانب الشرطة  . والثابت لديهم ان وقف العمل جاء من جانب سلطة الادارة اعتبارا من يوم 24 مايو وحتى نشر هذا النص . وهم يقولون هنا :" إذن من يعطل الانتاج ويضر بالمصلحة العامة: نحن أم هم ؟".ولعل في اغلاق الشركة المستمر الممتد ما يدفع المراقب للاعتقاد بانه إجراء استهدف من اتخذه التحسب لردود فعل العمال على التنكيل بزملائهم بالحبس في اقسام الشرطة و محاكمتهم عسكريا . ولعله هدف الي  قطع الطريق على اضراب عام .ويلفت نظر المراقب أيضا ان اجراء اغلاق وحصار الشركة  الجسيمى هذا يتناقض مع ماورد في أوارق الرواية الرسمية عن ان المشاركين في احتجاجات 22 و 23 مايو لم يتجاوز عددهم 250 عاملا ،أي نحو عشرة في المائة من عمال الشركة .

 وعلى صلة بما سبق تأتي السرعة الملحوظة في الدفع بوقائع يومي 22 و 23 مايو والعمال السته والعشرين الى النيابة العسكرية . وهكذا دون افساح اي مجال لتفاوض جماعي أو لحوار مع لجنة عمالية تشكو بالاصل  ـ وكما تفيد أوراق الرواية الرسمية ذاتها ـ من اهمال الادارة وتجاهلها وانقطاع التواصل بين سلطة الادارة و ممثلي للعمال . هذا مع ان سلطة الادارة هذه لاتتوقف تذكير اعضاء اللجنة النقابية بانهم ليسوا تنظيما نقابية وليسوا بنقابة.وبالطبع فاننا وفي سياق علاقات العمل بشركة اصبحت تابعة للجيش لانملك رفاهية الحديث عن الحق في النقابة المستقلة عن الاتحاد الحكومي المتنكر لحقوق العمال بالأصل .وثمة هنا شكاوي استمعن  اليها من اعضاء في اللجنة العمالية بالشركة من أن النقابة العامة للصناعات الهندسية والكهربية والمعدنية " لم تفعل اي شئ" لا قبل22 و23 مايو ولا بعده. وإجمالا يمكن القول ان ما جرى في ازمة شركة الترسانة البحرية التي تحولت منذ مايزيد على شهر ونصف الشهر الى ثكنة عسكرية متوقفة عن العمل يفيد بانه لم يكن هناك  فرص حقيقة لتفاوض أو مرونة . والأقرب الى الظن ان عقلية "الضبط والربط والأوامر العسكرية" هي التي سادت.

 يعزز الشعور بوطأة " العقلية العسكرية الناشفة " عند قطاع من عمال الشركة الآن أن الالتماسات التي قدمها اعضاء اللجنة العمالية لاعادة النظر في قرار اغلاق الشركة والافراج عن زملائهم حرصا على ابنائهم وعائلاتهم ومستقبلهم بالشركة لم تجد اي آذان صاغية .(ولدينا هنا صورة التماس مقدم في 26 مايو الى السيد الفريق قائد القوات البحرية ) . وكي نفهم حجم الضغوط على العمال وأسرهم نضيف الى كل هذا ما شاع بينهم على مدى اسابيع الأزمة بأن عليهم الصمت وعدم التحدث الى الإعلام والتفاعل مع المتضامنين لأن " الأحكام في أيدي الادارة العسكرية للشركة ومعها مصير العمال المحبوسين ".

انعقدت اولى جلسات المحكمة العسكرية لعمال الترسانة البحرية يوم 18 يونيو 2016. في البداية سمحت المحكمة لأهالي العمال المحبوسين بالحضور . لكنها سرعان ما منعتهم .وبالطبع فان الصحافة والإعلام غير مسموح لهما بأي حضور . ويوجه قرار اتهام نيابة الاسكندرية الكلية العسكرية في القضية 2759 /2016  جنح عسكرية الاسكندرية الى 14 عاملا كتبت النيابة أمام كل اسم منهم (محبوس) و 11 (هارب) وواحدة ( مخلي سبيلها ) الآتي من دون ان يحدد تهما تفصيلية وبعينها لهذا الاسم او ذاك :" بصفتهم موظفين عموميين بشركة ترسانة الاسكندرية التابعة لجهاز الصناعات والخدمات البحرية بوزارة الدفاع حرضوا العاملين بقطاعات الشركة المختلفة على الامتناع عن العمل بأن قاموا بالدعوة للتجمع وتنظيم وقفة احتجاجية داخل الشركة بقصد عرقلة سير العمل والاخلال بانتظامه لتحقيق غرض مشترك وهو تحقيق مطالبهم المبينة بتقرير قطاع الأمن بالشركة المرفق بالتحقيقات ومن شأن ذلك احداث اضطراب بجميع قطاعات الشركة والاضرار بالمصلحة العامة ". وينتهي قرار الاتهام بتحديد مواد في القانون العسكري ( المادة 5/ هاء) وفي قانون العقوبات ( المادة 124 / أ /1 و4)، مع توقيع "عقيد أحمد محمد ذكي رئيس نيابة الاسكندرية العسكري" .

 ولقد سألت هاتفيا الاستاذ محمد عواد محامي هؤلاء العمال المدنيين المحالين للمحاكمة العسكرية فأفاد بأن المادة الخاصة بقانون القضاء العسكري تتعلق بولاية النيابات والمحاكم العسكرية مكانيا على أي موقع تابع للقوات المسلحة ،حتى ولو تعلق الأمر بمدنيين زائرين . كما أفاد المحامي بان مواد قانون العقوبات تتعلق بتحريض الموظفين العمومين  على الامتناع عن العمل  وبالتالي الاضرار بالمصلحة العامة . ووفق العقوبات المنصوص عليها  فان العمال في قضية شركة الترسانة البحرية بالاسكندرية مهددون بالحبس عامين .( عام كحد اقصي لعقوبة التحريض على الامتناع عن العمل وعام آخر مع مضاعفة العقوبة اذا ثبت ان هذا الامتناع يعد اخلالا بالأمن ويضر بالمصلحة العامة ). واشار المحامي الى ان الحد الادني في حال ثبوت التحريض على الامتناع عن العمل ثلاثة اشهر تتضاعف الى ستة اذا تحقق الاضرار بالمصلحة العامة .لكن عواد يوضح أن هؤلاء العمال مهددون ايضا بالفصل من العمل . ويقول :" الحكم أيا كانت العقوبة قابل للاستئناف امام محكمة عسكرية أعلى طلما لم يقم الحاكم العسكري بالتصديق عليه، وهو هنا قائد المنطقة الشمالية بالاسكندرية".ويضيف:" لهذا القائد أيضا سلطة تخفيف العقوبة ".

  و يقول عواد :" كان من المفترض طالما يحاكمون بمواد قانون العقوبات أن تنظر محكمة جنح مدنية عادية في القضية . ولوهناك جزاء تأديبي يكون أمام محكمة مجلس الدولة". و يشير الى "ان عمال الترسانة البحرية كانوا خاضعين قبل تبعيه الشركة للقوات المسلحة في علاقات العمل للقانون رقم 2003 لسنة 1991 الخاص بشركات قطاع الأعمال العام ، لكن بعد هذا التاريخ اصبحت علاقات العمل تخضع للقانون 47 لسنة 1978الخاص بالعاملين المدنيين بالدولة . لكن المشكلة ان الاحالة للقضاء العسكري في وقائع تتعلق بعلاقات العمل جاء ليغلب الولاية المكانية استنادا الى تبعية المنشأة للقوات المسلحة ".  ولكن ألا توجد فرصه للطعن على الاحالة للقضاء العسكري في شئون تتصل بعلاقات عمل لعمال مدنيين ؟ .هنا يجيب عواد :" القرار بشأن الاختصاص يظل للمحكمة العسكرية نفسها .ولا نرى فرصة للجوء الى محكمة أخرى للنظر في الدفع بعدم الاختصاص".

 وفي رأي محامي عمال الترسانة البحرية فإن محاكمة 26 عاملا عسكريا دفعة واحدة تمثل سابقة لم تعرفها علاقات العمل في مدينة الاسكندرية من قبل  . ويقول :" بصفة عامة فان ضمانات الدفاع في القضاء العسكري أقل .وهذا لأن القاضي نفسه رجل عسكري ويتبع رتب عسكرية أعلى :وز وزير الدفاع و رئيس هيئة القضاء العسكري .. والمفترض في الأصل ان القضاء العسكري للعسكريين ". وبشأن ملاحظاته كمحامي على سير القضية ذاتها يقول :" المحكمة استجابت الى العديد من طلباتنا باستثناء الافراج عن المحبوسين واستدعاء رئيس مجلس ادارة الشركة .وقررت الاكتفاء بأن يرسل مذكرة بدور كل متهم في التحريض على الاضراب وسجله الوظيفي خلال العامين الماضيين ". ويضيف :"في الجلسة الأخيرة ( الثامنة ) ارسل رئيس مجلس الادارة مايتعلق بالسجل الوظيفي للمتهمين لكنه لم يرسل الدور المنسوب لكل منهم في الواقعة .. وبالتالى أجلت المحكمة الى السبت 16 يوليو لاستكمال تنفيذ طلباتها هذه".

وبالقطع لاحكمة عند محامي العمال في استعداء المحكمة .لكن ما يرسخ بوجدان أهالى العمال وزملائهم هنا في الاسكندرية ان المحامي يتقدم في كل جلسة بطلب الافراج عن المحبوسين فلا يستجاب الى طلبه . وكذا أن المحكمة أخذت تمنع الأهالي من حضور الجلسات .وهذا في وقت يجرى تسريب توقعات لهؤلاء الأهالي بقرب الافراج عن ذويهم. وأيضا أن محامي المتهمين يتعرض الى التفتيش عند دخوله مقر المحكمة كل مرة .وهو أمر لا يحدث مع المحامين أمام المحاكم المدنية .

  في الحوارات التي بدأت تجرى مع عدد من عمال الترسانة البحرية وأهلهم بالاسكندرية ظلال لخصومة تتخذ طابعا شخصيا مع اللواء رئيس مجلس ادارة الشركة . أو هكذا بدا أن الشعور بالتعنت والقسوة يولد نوعا من الخصومة الشخصية.  ولكن إذا تمعنا أكثر في المحاكمة العسكرية لعمال الاسكندرية لاستمعنا الى اجراس خطر تدق في مصر كلها . وبالنسبة لتاريخ المحاكمات العسكرية مع عمال الترسانة البحرية والاسكندرية بأسرها فاننا إزاء سابقة بلاشك . لأن الأمر لم يعد  يتعلق بمحاكمة عامل او اثنين على الأكثر في واقعة اهمال تفضي الى موت كما جرى قبل سنوات في الشركة ذاتها. بل نحن ازاء احتجاج جماعي يطالب بحقوق مشروعة واعتمد اساليب سلمية تتوافق مع الدستور . وهذا بصرف النظر عن كون ترسانة القوانين غير الديموقراطية الموروثة قبل دستور 2014 تتناقض وتعارض مع ما نص عليه بشأن حق الاضراب . وبالنسبة لعموم الطبقة العاملة في مصر فاننا على ما يبدو إزاء أكبر عدد من ابنائها أمام محكمة عسكرية في قضية واحدة تتعلق بعلاقات العمل . وهذا هو الحال على خلفية محاكمات تكررت في السنوات الأخيرة.و لعل أبرزها وأشهرها قضية ثمانية عمال من شركة حلوان للصناعات الهندسية ( 99 حربي سابقا )  صيف 2010 .وقد انتهت ببراءة ثلاثة وباحكام حبس مع إيقاف التنفيذ على الخمسة الآخرين وسط تضامن عمالي وحقوقي كبير .

ووفق ما قال أسامة المهدي عضو "مجموعة لا للمحاكمات العسكرية " في ندوة انعقدت نهاية شهر يونيو الماضي بالقاهرة :" هناك حقا ما يدعو للقلق لأن وتيرة المحاكمات العسكرية للمدنيين اجمالا وليس للعمال فقط ارتفعت في السنوات الأخيرة وبعد ثورة 25 يناير 2011 وبدعوى فرض الانضباط على المجتمع .. لكن لا احصاءات ولا أرقام". ولذا يدعو المهدي الى "الافراج عن كل المدنيين المحاكمين عسكريا واعادة محاكمتهم امام قاضيهم المدني الطبيعي وادخال تعديل  دستوري عاجل يلغي المادة 204 ،ويدرج نصا صريحا في الدستور يحظر محاكمة المدنيين عسكريا ويعوض المدنيين الذين حوكموا امام المحاكم العسكرية ".

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل