سقطت الوحدة.. عاش التقسيم

سقطت الوحدة.. عاش التقسيم

منذ ما يقرب من 8 سنوات

سقطت الوحدة.. عاش التقسيم

طلبها نابليون بونابرت، فبلغت جيوشه المنتصرة المشرقين، ثم ما لبث أن انتهى منفيًّا، مرذولًا، مريضًا في جزيرة هيلانة.\nسعى إليها أدولف هتلر، بحلمه الآري الموغل في تأليه ذاته، فنشر الخراب في قارات ثلاث، ثم انتهى أمره برصاصة من مسدسه ومتفحمًا بأربعة ليترات من الوقود ادخرها لتلك المهمة الجليلة مرافقوه الخلّص.\nكانت الوحدة الأوروبية، هدف كل زعيم امتدت أبصاره الاستراتيجية إلى خارج حدوده الوطنية. عرف ونستون تشرشل إن جزيرته الضامرة، ما كانت لتحقق مكانتها لولا تلك الإمبراطورية التي بنتها أساطيلها عبر البحار، غربًا وشرقًا. وعندما أفلت شمسها كنتيجة من نتائج الحرب العالمية الثانية، وقف بكل مجده في زيوريخ السويسرية عام 1946، يدعو بحماسة إلى تشكيل ولايات أوروبية متحدة. بعده راح الجنرال ديجول، بطل تحرير فرنسا، يتحدث عن رؤية شاملة لأوروبا، تمتد من الأطلسي إلى الأورال.\nوأي بحث تاريخي، سوف يظهر أن دعوة الوحدة الأوروبية، انطلقت بالأساس من خلفيات فكرية (أيديولوجية) قبل أن تبلورها المصالح. \nيكفي في هذا الإطار دراسة المضمون الدعوي الذي حملته الحروب الصليبية، كتعبير مشترك عن إرادات أوروبية متنوعة. فهل اختلفت الوحدة الأوروبية في صيغتها المعاصرة، عن تلك الدعوات القديمة؟\nبالتأكيد، لا يمكن عزل مفهوم الوحدة الأوروبية المعاصر عن مفهوم آخر، متجذر في الوعي الأوروبي هو مفهوم المركزية الأوروبية (Eurocentrism) باعتبارها ظاهرة ثقافية، شاملة للسياسة والاقتصاد والاجتماع. هنا تصبح الوحدة فكرة أيديولوجية، تقودها تاليًا المصالح. وهو المعيار الذي حكم دعوات الوحدة التي انطلقت في أوروبا المنهكة بسبب حرب تسببت بها "مركزيتها"، بحسب ما يقول برتراند راسل: "أوروبا فوجئت بالحرب العالمية الأولى التي أخذتها على حين غرة، لكن الحرب العالمية الثانية كانت تحصيل حاصل، فمن بطنها خرج تنين الحرب الكونية". نعم، من بطن تلك المركزية خرجت الظاهرة النازية بكل محارقها، والظاهرة الفاشية بكل ديكتاتوريتها، والظاهرة الشيوعية بكل صراعاتها، والظاهرة الصهيونية بكل عنصريتها. ومع ذلك فقد خرجت من لدن تلك المركزية أيضا، مناهج الفلسفة والتكفير، وكنوز العلم والمعارف، وتبلورت تجارب الديمقراطية الحديثة، وترسخت مبادئ حقوق الإنسان والجماعات النوعية (المرأة، الطفل، العمال، ... إلخ) والجماعات العرقية والأقليات.\nأوروبا هذه كانت بعد الحرب العالمية الثانية في مسيس الحاجة لأن تسترد هويتها المركزية، فجاء الإنقاذ عبر الأطلسي بمشروع مارشال الإعماري. فقد وضعت الولايات المتحدة يومها 14 مليار دولار (بقيمة ذلك الوقت) لإزالة آثار الحرب من أوروبا. وكان للأمر أن يبقى في حدوده التنموية والاقتصادية، لو لم يتلقفه شباب أوروبي أحبطته النازية والفاشية، ولم تلب طموحه الشيوعية، ولم ترد الفلسفات الوجودية عن أسئلته الملحة. من هؤلاء كان هيلموت كول، الذي أصبح لاحقًا مستشارًا لألمانيا (بين 1982 و1998). لقّب كول عن حق بمهندس الوحدة الأوروبية، التي انطلقت من اتفاقيات قطاعية (الحديد والفحم، والتجارة الحرة وغيرها)، وأصبحت فيما بعد السوق الأوروبية المشتركة، ثم تبلورت في الاتحاد الأوروبي وأذرعه التشريعية (البرلمان الأوروبي وقاعدة واسعة من القوانين) والتنفيذية (المجلس الأوروبي)، والعملة الموحدة وغيرها. \nفهل ستجد أوروبا نفسها مجددًا في مواجهة سؤال الهوية والمركزية، بعد زلزال الخروج البريطاني من الاتحاد؟\nدراسات كثيرة عن الموضوع سبقت حدث الخروج البريطاني وتلته، واتسم أغلبها بالتشاؤم. هذا ما انتهى إليه الملف الموسع الذي أعدته صحيفة "الجارديان" البريطانية عن الموضوع مثلا، على الرغم من حماسته للطلاق. وكانت سرعة التحرك الذي خاضته المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، يعبر عن مخاوف من هذا المنحى. \nثم ما لبث أن ظهر رأي غريب يقول، بأن ما شهدته أوروبا هو مؤشر على انتهاء عصر التكتلات الإقليمية، ذات الطابع الاقتصادي \nوالسياسي، والذي بلغ أوجه في ثمانينات القرن الماضي، حينما عمّت تلك التكتلات آسيا وأمريكا الجنوبية وأفريقيا والمنطقة العربية طبعًا. وهي تكتلات قامت لدواعٍ إقليمية (بحسب تسميتها) بالدرجة الأولى، وللاستعداد لدرء أعباء العولمة التي أخذت رياحها بالاشتداد.\nمن المبكر فعلًا الجزم بما سينجم عن الحدث الأوروبي مستقبلًا. لكن من المؤكد أن صورة أوروبا الموحدة لن تبقى على حالها، وواقع العولمة سيشهد حضورا طغيانيا، والانكفاءات الوطنية ستصبح أكثر عصبية.\nومن المؤكد أن ذلك كله سيحدث بانسيابية أوروبية باردة، فقد انتهى ذلك الوقت الذي كانت فيه مشاريع التوحيد تحدث تحت وقع المدفعية الثقيلة (مشروع بسمارك الألماني وجاليباردي الإيطالي)، وعمليات الانفصال تتم براجمات الصواريخ (تقسيم برلين). 

الخبر من المصدر