الخليل الفراهيدي وعبقرية الزاهد!

الخليل الفراهيدي وعبقرية الزاهد!

منذ ما يقرب من 8 سنوات

الخليل الفراهيدي وعبقرية الزاهد!

الخليل بن أحمد الفراهيدي: موجز العبقرية الزاهدة\nالخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي، أبوعبدالرحمن، أحد علماء العربية والإسلام الكبار، وأحد مفاخر هذه الحضارة العظيمة. وُلد سنة 100هـ، وتوفي سنة 175هـ. وهو عُماني المولد، بصري النشأة.\nوهو شيخ أشهر علماء العربية قاطبة وهو سيبويه، وعنه أخذ هذا الأخير علمه، وأذاعه في الناس من خلال كتابه، أشهر كتبه في النحو على الإطلاق المعروف باسم: (الكتاب).\nوكان من زهاد الدنيا، عزيز النفس جداً طلب منه أن يؤدب ولد الأمير، وهو تعبير قديم لمن يعمل في تربية الصبيان، فكتب في الرد على من طلب ذلك:\nأبلغ سليمان أني عنه في سعة وفي غنى غير أني لستُ ذا مال\nوهذه المكرمة كانت تعني مخاطر خضوع النفس وتبعيتها لأحد من قيادات السلطة التنفيذية. وفهم أصيل مبكر لطلب الاستقلال والحرية التي تمكّن صاحبها من التحرر من القيود المؤثرة في المنهجية العلمية تأثيراً سيئاً ضاراً.\nاللغة شرط تأسيسي للوجود الإنساني والعمراني\nكان الإعلان العجيب عن تعليم الله تعالى آدم الأسماء أمراً عجيباً، ولافتاً إلى منزلة اللسان في مسيرة الوجود الإنساني العمراني على الأرض، كما جاء في الكتاب العزيز يقول تعالى: ﴿وعلم آدم الأسماء كلها﴾ [ سورة البقرة2/31].\nوهي الآية التي فتحت أمام المسلمين من أهل السنة والمعتزلة على السواء أن يروا في الله تعالى مصدراً مفسراً لنشأة اللسان أو اللغة الإنسانية، إن من طريق الإلهام والتوقيف، بموجب الظاهر من دلالة ﴿وعلّم﴾، أو اصطلاحاً ومواضعةً بموجب تأويل ﴿وعلم﴾ لتنصرف دلالتها إلى الإقدار والجعل؛ أي تمكين الله الإنسانية من أن تتعلم اللغات والأسماء.\nوقد أدرك وعي الخليل بن أحمد مركزية وضع اللغة في سياق الحياة الإنسانية، بما هي شرط تأسيسي يلزم المناطق التالية:\nأ. المجتمع الإنساني أو الاجتماع الإنساني (التواصل المحقق للوجود).\nد. تحقيق التأنس وإشاعة المروءات والفضائل.\nوانعكس وعيه بهذه المركزية في مجموعة من التجليات والمنجزات التي سبق إليها، وابتدعها واخترعها في الوجود العلمي بالحضارة العربية الإسلامية، وهي كما يلي:\n1.2.إرادة حصر كلمات اللغة (توظيف التقنيات الرياضية الإحصائية).\nكانت واحدة من تجليات عبقرية الخليل ظاهرة في المنهجية المستقرة وراء بنائه معجمه (العين) الذي هو أول معجم لغوي كامل الوظائف المعجمية.\nوتتجلى إرادة حصر الألفاظ في تطبيقاته منهج (التقاليب) وهو منهجية رياضية إحصائية تعتمد فكرة التوافيق والتباديل، أو فكرة الاحتمالات ثم جمع مفردات اللغة بناء على الصور النظرية المحتملة، فما يوجد له شواهد يكون مما استعمله العرب يرصده، ويفسره، ويعلق عليه، ويستشهد بما يكشف عن معانيه واستعمالاته، وما لا يوجد له شواهد يكون من المهمل الذي لم يستعمله العرب، فيشير إلى ذلك.\nوبهذه المنهجية المستصحبة إجراءً رياضياً يتحقق بصورة نظرية السبيل لحصر ألفاظ العربية في زمان مبكر جداً من عمر هذه الحضارة قبل ظهور الحواسيب، وتقنيات المعلومات الحديثة.\nوهذه المنهجية الرياضية كشفت زيف اتهام الحضارة العربية الإسلام بالإغراق في العلوم النظرية، وإن كان ذلك لا يعيبها ابتداءً.\nولكن منهج العين يظهر عدداً من ملامح التطبيقات العلمي المبكرة في هذه الحضارة العلمية، استصحبت المناهج الرياضية، وأدركت قيمة العلوم التجريبية في ضبط المناهج التي تتوخى الحصر والإحصاء.\nمن جانب آخر يكشف كتاب سيبويه أشهر تلاميذ الخليل، وجامع علمه، وناشره على الدنيا في هذا الكتاب عن حقيقة ظاهرة ملخصها أن الخليل هو واحد من مؤسسي الدرس النحوي الذي يسعى لضبط قواعد تركيب الكلام العربي.\nوأول مؤسس لعلم الصوتيات في تاريخ العلم بهذا الفرع من فروع اللسانيات أو العلوم اللغوية في الحضارة العربية.\nوهذا التأسيس للصوتيات من جانب والإسهام في التأسيس للنحو أو القواعد التركيبية للعربية من جانب آخر جاء على خلفية إرادة خدمة الكتاب العزيز الذي هو معجزة لغوية بامتياز.\nوقد تميز هذا التأسيس بمجموعة من الخصائص العلمية المنهجية المنضبطة، يمكن جمعها فيما يلي:\nأولاً: استعمال منهجية منضبطة تعتمد على إجراءات مستقرة من:\nز. تعميم الأحكام واستصحاب الدليل.\nثانياً: الدوران حول خدمة الكتاب العزيز\nلقد كان أحد أهداف تأسيس علم الصوتيات في العربية الذي نهض به ويقصد خليل بن أحمد وصاغه سيبويه ماثلاً في إرادة خدمة الكتاب العزيز إن من طريق مباشر وإن من طريق غير مباشر.\nويقصد بالطريق المباشرة التوجه إلى إرادة ضبط قراءة المصحف الشريف وإحسان أدائه بما أن ذلك عبادة وقربى لله تعالى مأمور بها.\nويقصد بالطريق غير المباشر تحقق خدمة لغة الكتاب العزيز بسبب ضبط نتائج هذا التأسيس للصوتيات وقواعد التراكيب، بما أن الكتاب العزيز يؤمر بأدائه وتلاوته، ويؤمر بفهمه وتدبره، وهو ما يتحقق ابتداءً من طريق تحليل تراكيبه.\nثالثاً: حيازته وتمتعه بالقيمة العلمية\nإن تحليل عمل الخليل في هذا الباب من خلال فحص نتائج منجزه يكشف عن تمتعه بقيمة علمية متقدمة وراقية، تمثلت في:\nب. معرفة آلات النطق الطبيعية.\nج. إدراك حقائق توزيع الأصوات العربية على المخارج والسمات.\nد. الوعي بوصف تكوين التراكيب النحوية.\nهـ. الإدراك الواعي لأنماط التراكيب وخصائص كل نمط، والقيم الدلالية الداخلية لكل نمط.\n3.2 اختراع طرق ضبط الكتابة (إصلاح الأنظمة الكتابية)\nومما يحسب لعبقرية الخليل بن أحمد الفراهيدي أنه مخترع نظام الضبط الكتابي، فهو الذي اخترع وضع العلامات التالية فوق الحروف في النظام الكتابي للعربية:\nﹻﹻﹻ = تحت الحروف المكسور (اختصاراً من الياء المرتدة ﯿ).\nﹹ = فوق الحرف المضموم (اختصاراً من الواو).\nﹷ = فوق الحرف المفتوح (اختصاراً من الألف بعد إضجاعها أو تنويمها فوق الحرف).\nﹿ = فوق الحرف العاري من التحريك (وهي مأخوذة من رأس الخاء اختصاراً للتخفيف من الحروف).\nﹽ = فوق الحرف المشدد الذي ينطق بقيمة حرفين (اختصاراً من رأس الشين المقتطعة من الشين).\nيقول الداني في المحكم في نقط المصاحف (ص7-8): "الشكل الذي في الكتب من عمل الخليل. وهو مأخوذ من صور الحروف، فالضمة واو صغيرة الصورة في أعلى الحرف؛ لئلا تلتبس بالواو المكتوبة، والكسرة ياء تحت الحرف، والفتحة ألف مبطوحة فوق الحرف".\nوهذا الاختراع وعي مبكر جداً بطبيعة النقص المستولي على أنظمة الكتابة، وإرادة معالجة هذا النقص، وتعويضه بصورة تعظم تيسيره، وتحسين التحصيل من وراء ضبطه، وتيسير قراءاته.\nفي الواقع الحضاري العربي المبكر. حضارة الإسلام هي حضارة الفرح الساكن، والبهجة الآمنة المطمئنة، التي تتغيا إفراح الروح. وهو ما يظهر من الحفاوة بفنون القول بما هي أوسع مدى في التأثير ويأتي بعدها الحفاوة بفنون البصر.\nوهذا الاستقرار تجده في امتداح الأصوات الندية، وانتخاب أصحابها لأداء وظائف دينية، والترخص في ممارستها في سياقات مناسبات التوسعة والفسحة، كالأعياد، والزواج مثلاً.\nويعد اختراع الخليل بن أحمد لعلم العروض بما هو علم موسيقى الشعرـ وأصول النغم- دليلاً على مركزية الفنون والجماليات في الواقع الحضاري العربي المبكر بتأثير ما فهم من البعد الجمالي في الكتاب العزيز، الذي ظهر على عدة مستويات هي:\nأ. الحرص على تجديده، وأدائه بصورة متأنقة.\nب. الإشارة إلى ملامح الزينة البصرية في الكون، من مثل النظر إلى النجوم والكواكب بما هي مادة من مواد الزينة.\nج. الإشارة إلى ما يحيط بالكائنات والمخلوقات من ملامح جمالية، من مثل: ﴿ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون﴾ [ سورة النحل 16/6].\nإن الخليل هو واضع أصول النغم والموسيقى الشعرية- وهو دليل على هذا القبول المبكر للفنون في بنية المعرفة في الحضارة الإسلامية، وهو قبول تجاوز إطار الاعتراف السلبي إلى أطر التجديد والابتكار والتنويع مع مرور الزمان بموجب الفنون القولية التي استحدثها المبدعون العرب.\n4. استلهام عبقرية الخليل في العصر الحديث.\nلقد كان هذا الإبداع المتعدد في الاتجاهات، والمتنوع في المسارات محل تقدير في العصر الحديث، فظهرت 3 اتجاهات توجهت إلى الكشف عن حدود هذه العبقرية، تمثلت فيما يلي:\n1.4. اتجاه الكشف عن إسهامه وابتكاره في مجال المعجمية العربية.\nوأثر تطبيقات المنهج الرياضي الصوتي فيه، وهو الاتجاه الذي برز فيه إسهامات دارسين رواد من أمثال:\n2.4 اتجاه الكشف عن إسهامه في ضبط الكتابة العربية، والتشكيل، وتحسين أنظمة الكتابة العربية، وتطويرها.\nوهو اتجاه لم يظهر فيه إسهامات معاصرة تكشف وتحلل عن دوره في هذا المجال، مع وجود كتابات مهمة يمكن أن تعتمد أساساً في تنمية هذا الاتجاه من مثل:\nأ. كتابات الدكتور غانم قدوري الحمد عن الرسم العثماني دراسة لغوية.\nب. كتابات الدكتور عبدالصبور شاهين.\nج. كتابات الدكتور عبدالحي الفرماوي عن رسم المصحف ونقطه.\n3.4 . اتجاه عن سهمته في اكتشاف أصول النغم، وموسيقى الشعر العربي.\nوهو اتجاه أصيل ومهم جداً من الوجهتين اللسانية والحضارية معاً.\nوقد ظهرت إسهامات معاصرة يمكن أن يعتمد عليها بصورة مبدئية في الكشف عن حدود عبقريته في هذا المجال من مثل جهود:\n2.5 . اتجاه الكشف عن دوره في مجال الصوتيات والتراكيب\nوهو الجهد الذي ظهر من خلال ما نقله عنه تلميذه سيبويه، وهو أكثر المجالات التي اعتني بها المعاصرون، وتبرز في هذا السياق إسهامات عدد من المعاصرين من مثل:\nإن الخليل مثال عجيب لما استفزه الإسلام العظيم في واقع الحياة العربية، وأنتجه في النفوس والعقول معاً، وما يتبقى من الخليل كثير جداً ينتظر الاستلهام والاستثمار المعاصرين!

الخبر من المصدر