الأفلام التاريخية.. التزييف بأثر رجعي

الأفلام التاريخية.. التزييف بأثر رجعي

منذ ما يقرب من 8 سنوات

الأفلام التاريخية.. التزييف بأثر رجعي

وكالعادة يشاهد الجمهور العربي هذا العام عددا من المسلسلات التاريخية مثل "سمرقند" و"مالك بن الريب" و"السلطان والشاه"، وقد تأجل عرض مسلسل عن الإمام أحمد بن حنبل في رمضان الحالي لأسباب فنية، وهو عمل كان يتوقع أن يجتذب نسبة مشاهدة كبيرة، وكالعادة أيضا سوف تثير هذه الأعمال جدلا هنا وهناك حول مصداقية الأحداث التاريخية، وتصوير الأشخاص، والالتزام بالأمانة التاريخية.\nوعلاقة الأعمال الفنية بالتاريخ ليست بريئة دائما، بل ليس تجاوزا القول إن الأغراض السياسية، والصراعات على السلطة بكل أنواعها تؤثر على مضامين الأعمال التاريخية، وتوجه الأعمال الفنية عما حدث في الماضي لما يخدم أهدافها في الحاضر.\nوفي سجل الأعمال التاريخية الإسلامية تبرز أربعة أفلام في شهرتها وضخامة إنتاجها، وإن كانت تكشف أيضا كيف تتلاعب الأبعاد السياسية والمذهبية بالحقائق التاريخية، وتسخرها لخدمة سياسات معاصرة.\nتقدم لنا أفلام "الناصر صلاح الدين" و"وا إسلاماه" و"القادسية" نماذج لتلاعب السياسة بالتاريخ، وفي المقابل يبرز فيلما "الرسالة" و"عمر المختار" نموذجين لقدرة الفن الملتزم بالحقيقة على خدمة الأهداف النبيلة دون تحريف للتاريخ. ولا عجب في ذلك؛ فالأفلام الثلاثة كانت خاضعة لتأثير أنظمة حاكمة، بينما كان فيلما مصطفى العقاد مشروعا خاصا بعيدا عن هيمنة الأنظمة.\n ليس عسيرا اكتشاف أن أفلام "الناصر صلاح الدين" و"وا إسلاماه" و"القادسية" أنتجت في ظل طغيان فكرة القومية العربية في بداية الستينيات أو ملابسات الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينيات. ولعل أبرز ملامح ذلك هو تصوير الأحداث وكأنها حصريا حروب بين القومية العربية وقوميات أخرى، وإهمال البعد الإسلامي السائد في تلك الحقب، حيث رأينا صلاح الدين الأيوبي زعيما "قوميا عربيا" رغم أصله الكردي، ومثله بدا مجسد شخصية "قطز" زعيما "مصريا" وهو القادم من أواسط آسيا.\nتحوير الحقيقة التاريخية لم يقتصر على الأشخاص؛ فحصار الصليبيين لمدينة عكا الذي استمر تسعة أشهر جرت وقائعه في الفيلم خلال ساعات قليلة! وريتشارد قلب الأسد ظهر حكيما ورعا، حافظا للعهود، كارها لسفك الدماء، وهو الذي أعدم 2500 مسلم لأن المسلمين تباطؤوا بعض الشيء في تنفيذ اتفاق تسليم المدينة.\nووصل التزييف إلى استخدام صفات ومصطلحات سياسية حديثة لتتوافق مع أجواء الصراع بين التيار الإسلامي والتيار القومي في عصرنا الحاضر، فكلمات مثل "العرب" و"العربي" طاغية بين أفراد جيش معظمه من غير العرب وإن كانوا مسلمين، وفي "القادسية" كانت تلك الكلمات متداولة بطريقة فجة تفتقر للذكاء.\nوصحيح أن الإسقاطات المعاصرة في الأعمال الفنية التاريخية ليست مستنكرة، لكنها تصير شاذة عندما يصل الأمر إلى استخدام عبارة "الدين لله والوطن للجميع" على لسان جندي قبل مئات السنين من ظهور العلمانية. وعندما يتم تزوير شخصية "عيسى العوام" المسلم وتقديمه مسيحيا يقاتل في جيش المسلمين، ومخترقا للمعجزات والبطولات، بل يكون محورا أساسيا في الانتصارات، ومنافسا لقائده صلاح الدين نفسه، وكل ذلك لإثبات التسامح الديني والوحدة الوطنية.\nلكن أسوأ ما حدث من تزييف كان اعتماد كلمة "أورشليم" العبرية في الحديث عن مدينة "القدس"، وطوال الفيلم ظل صلاح الدين والمسلمون لا يذكرون بيت المقدس إلا أنه أورشليم.\nفي فيلم "وا إسلاماه" ضاعت فرصة نادرة لتقديم فيلم على نمط "بيرل هاربور" و"ذهب مع الريح" الشهيرين، وكان السبب هو تغليب روح السينما المصرية في التعامل السطحي مع الأحداث، وتحريف قصة الحب الطاهرة بين بطلي الفيلم، وتقديمها وكأنها تجري في أحد أحياء القاهرة في ستينيات القرن الماضي.\nوجرى الخروج عن النص الأصلي للرواية الشهيرة للأديب علي أحمد باكثير، وتم التلاعب بمواصفات الشخصيات، وإدخال عناصر الرقص والإغراء، والخيانة المبتذلة، وحتى معركة مصيرية غيرت مسار التاريخ الإنساني مثل "حطين" تم تقديمها بأقل جودة مما يحدث مع معارك الحارات والفتوات الشهيرة في الحارات المصرية.\nيقدم لنا فيلما "الرسالة" و"عمر المختار" نموذجا لكيفية تقديم فيلم تاريخي يستحق الاحترام، ولا يخضع لمؤثرات غير الحقيقة التاريخية، وباستثناء بعض اللقطات السريعة التي أراد بها المخرج مراعاة خواطر البعض مذهبيا، فإن فيلم "الرسالة" قدم أحداث ظهور الإسلام بأكبر قدر من الفنية المحترفة، وفي الوقت نفسه بأكبر قدر من الوعي بالحقائق التاريخية.\nأضحت "الرسالة" تحفة فنية لا تزال تجتذب الجمهور كلما عرضتها الشاشة، وعلى الرغم من أن أحداث السيرة النبوية مشهورة، فإن المشاهد المسلم لا يمكن أن ينسى الإبهار الفني الذي قدمت به وقائع بذاتها، وهو ما يجعل المشاهد ينتقل بمشاعره إلى تلك الحقبة فيعيشها وكأنه جزء منها، ولنتذكر مشاهد مثل الجهر بالدعوة، وتعذيب المؤمنين، ولقاء المسلمين الفارين مع النجاشي، وحادثة الهجرة، ومعركتي بدر وأحد.\nيبقى فيلم "عمر المختار" الأكثر تميزا بين الأفلام التاريخية العربية، وساعد على ذلك عدم وجود محاذير وتحفظات دينية على ظهور شخصية البطل الأول، لكن الأكثر أهمية هو أن الفيلم قدم الحقيقة التاريخية كما جرت وقائعها وبإيحاءاتها الدينية الواضحة.\nومنذ بداية ظهورها اتسمت شخصية "عمر المختار" ببعدها الإسلامي الواضح، فهو مجاهد مسلم، معلم للقرآن، يعرف كيف يربط بينه وبين أحداث الواقع، وتنتهي حياته وهو يقرأ القرآن، وفي كل أحداث الفيلم  تسيطر الروح الجهادية الإسلامية على رجال المقاومة، التواقين للشهادة في سبيل الله، والمشتاقين للجنة، والواعين أن مقاومة الاستعمار شرف ووسام وواجب.\nوفي المقابل لا يستنكف الفيلم من التدليل على أن الغزاة الأوربيين في القرن العشرين ليسوا أبرياء من الدافع الديني، فتظهر شخصية القسيس النصراني مرافقة لقائد الحملة الإيطالية أثناء استقبالهم للمدد العسكري القادم من روما!\nالمعارك بين المجاهدين والغزاة ظهرت في أفضل صورة فنية ممكنة، ولا يمكن مقارنتها بمشاهد المعارك الهزيلة في الأفلام الأخرى، وحتى ليخيل للمشاهد أنه يعيش تفاصيلها بكل قسوتها، وتضحيات المجاهدين في وجه آلة القمع الاستعمارية.

الخبر من المصدر