اللعنة على مدن العدم و الرياح

اللعنة على مدن العدم و الرياح

منذ ما يقرب من 8 سنوات

اللعنة على مدن العدم و الرياح

لست أدري حقاً أيها الناس، لست أدري، فالحديث ذو شجون، وكبد الحقيقة مريضة بالالتهاب، وعينها أصابها الرمد.\nربما سيكون أزكى للمواطن في مدن العدم، أن يموت كريماً بين طعن القنى، وخفق البنود، بدل أن يعيش ذليلاً تحت حكم بائس، لا يبين مواقع خطوه في سمادير ليل السياسة، وتسيير شؤون البلاد.\nلست أدري.. ربما كان خيراً لنا أن نهاجر في الأرض هياماً على وجوهنا، بدل مداشر فرضت علينا غصباً، ونحن أبناء الغيم والوبر، التيه في تجاويف المنافي خير من التيه في الألواح لمن ألف العري، التشرد في مناكب الأرض خير من السكن في وطن، أجسادنا تعيش مع العالم، في الوقت، وعقولنا جنب إلى جنب مع عبس وذبيان، زمن داحس والغبراء.\nربما كان شراً لنا هذا العيش، في شبه المدينة التي لا تشبه المدينة، التي بدأت حياتها باستعمار، سلمنا لريح صرصر شمالية عاتية، لا تبقي ولا تذر، داستنا أحذية عسكرها الخشنة بلا هوادة، في واضحة النهار، وتحت غرابيب الليل البهيم، رمت من الطائرات وسممت الآبار، رملت وشردت وطمرت، سرقت ونهبت، عذبت وسجنت، والذاكرة الجمعية لم تشفَ جراحها بعد، بل ما زالت تورث الجراح مثخنة بدمائها من جيل لجيل.\nاخترنا أن نغازل القمر في ليلة أضحيانه، على أن نلعن سدفة الليل البهيم، وأن نناغي المستقبل الطفل على أن ننعي غوابر الأحلام.\nحفرنا أمل الحياة في قلب الصخر الأصم، ونحتنا من صفوائه جسد الوطن اليتيم، جلسنا نلملم جراحنا، فرادى وجماعات، نضمدها ببسلم الحب والتآخي، ونفتش في ثنايا الأيام وغضونها عن عوامل الألفة وأسرارها، ونكتب أسماء من صنعوا يومنا في سجل الخالدين، على أجسام السجناء وأنات المعذبين والضحايا، عبرنا جسر الحرية، إلى أفقها الرحب، نرسم مع أسراب البجع موناليزا الانتصار، كان مخاضاً عسيراً بجنين الشعب نحو التحضر، دفعنا ثمنه أضعافاً، وصدقنا كذبتنا، بعد رحيل العمر.\nوبعد أن تثاءبت الأيام أننا أشرفنا على هضبة "أن نكون"، وأن السعادة أسلست قيادها، وألقت نجائبها بجرانها أمام مضارب خيام الوبر الخرساء، ثم استيقظنا على وقع أقدام اللصوص، هنا وهناك، كانوا يبصقون على وجه الشمس، ويكسعون بأيديهم الرطبة والخشنة قفا المستقبل الجبان، سرقوا حلمنا بالنهار، حلمنا بزرقة البحر، وزقزقة العصافير، سرقوا خبزنا وبرنا وبحرنا، كثبان صحرائنا المتموجة، أتقن اللصوص جريمتهم، فذبحوا الحياة من الوريد إلى الوريد، وأراقوا في مجاري قاذرواتهم ماء وجه الحياة بلا ذنب سوى أننا أغبياء وهم حقراء.\nفانقسمنا إلى جزأين يفصل بينهم جدار يسيج الوطن المنهك والمنتهك، هنا حياة لا تشبه الحياة، وهناك لجوء لا يشبه اللجوء، المحصلة، انشطار في الهوية والانتماء، بين المغرب والجزائر، حتى صرنا الإخوة الأعداء سراً، والإخوة الأحبة ظاهراً، نحزن لأحزان من هناك، ونفرح لأفراح من هنا، في الآن نفسه، وما موت محمد عبدالعزيز، وقضية الخطاط ينجا، سوى غيض من فيض.\nتسلمتنا أيادي "صالح زمراك" في البداية، وما فعل بنا صالح في نظر أسياده، فلسنا سوى أشباه إنسان، أبناء أم غنية، ولا نمثل سوى أصوات نشاز وجب صمتها، وطردها، وما فعل صالح ما زال يروى في كل بيت وكل دار.\nسجن الأبرياء، رمل النساء، يتم الأطفال، شغل الحرائر في المزابل عنوة، ولا رشمات شيب الكهول شفعت، ولا أفواه نمور الورق صدحت، ولا أسود عود الثقاب عارضت، بل الكل تآمر بصمته، وشارك في الفيلم السينمائي المثير، والغانية الرعبوب تغتصب، أمام الملأ، والكل يشاهدها، ولا ينبض له قلب، كأنه يرى مشهداً تلفزيونياً لا أقل ولا أكثر.\nأتى من بعد خلف، وكان خير خلف لخير سلف، وأحسنهم كان أحقر من آخر سكير يغادر الحانة، من رأس اللائحة إلى ذيلها.\nفيهم أبناء البلد، وكان ظلمهم أشد مضاضة على القلب من الحسام المهند، تزوجوا البلاد زواجاً مكرهاً، بلا رضاها ولا رضا أهلها، وعلى سرير السياسة، مارسوا عليها المجون من كل جهة، وتعففوا عن بكرتها خوفاً على شرفها البدوي.\nكنا نحدق في الجوزاء لننظم منها قلائد لعذارى المنكب البرزخي، ونحلم بسدرة المنتهى مراداً لجيادنا الصوافن، حلمنا لو قذفنا الشمس كرة، فتتعاورها أقدام أطفالنا التي يعلو سمكها قنن الشواهق، سطرنا الحروف الأولى لإلياذة الخلود،فعشنا الذلقراطية بكل أنواعها، وذقنا الحنظل في كل الكؤوس.\nحلمنا أن الكون سبورة، وأن رؤوسنا طبشورة، سنسطر عليها التاريخ، الذي ستحار من روعته الأمم، لكن الحكاية بدأت بخدعة واستمرت بخداعنا، تاريخنا حافل بالدم الذي لم يغسله دم بعد، مسلمون بعقول جاهلية، وقلوب أكفر من أبي جهل.\nوالكل كان لا يفكر في غير بطنه وفرجه، لا يهمه إلا أن يروي جوعه للثروة والشبق، فنهبنا الأنذال، وكل الوجوه الشائهة تواردت على البئر، التي رمينا فيها كيوسف النبي، ولكن لسنا أنبياء كي نصبح بمعجزة ربانية عزيزاً ذات يوم.\nلأن الدنيا لا تنال بالتمني، بل تأخذ من عين المستحيل غلاباً.\nاللعنة على مدن العدم، أو الجنة بلغة أورويل الساخرة.\nاللعنة على ضرع هذه الناقة الحلوب، الذي كلما جاع بعير جعله نصب عينيه قبلة لمخمصته.\nاللعنة على هويتها الدسمة التي علقت بها غبار كل من لا هوية له.\nأنا أرض كلما ضاع كلب في الفيافي، انتسب إليها وسم أذان أهلها بنباحه.\nاللعنة علي أنا، فمهما كتبت فهذا الحبر لا يشبه سواده صفرة الرمل الذي يضمني بحنو متناهٍ من قبل أن يعرف التاريخ تاريخه، ولا يشبه قيح جراحي الجميلة التي ترمي بشرر من تحت نقاب ضمادها البالية.\nاللعنة على القلق المدبب في وجوه ألها، كأنها لوحة إدفار مونش، وصرخة الألم المبحوحة والخوف من أسجاف المجهول.\nاللعنة على نزاع جعل منها منشطرة في التيه، وبضاعة بين السماسرة واللصوص والدجالين.\nاللعنة على الشعب الذي مثله فيكتور هوغو، بحمار يرتد إلى الخلف، لكن هذا شعب، تدجن إلى أن صار عاجزاً عن الركل.\nاللعنة على أنسابنه المختبئة بالقوافي، تحت مور السوافي.\nاللعنة على القبيلة، والعشيرة، اللعنة على الإنسان الذي قتل فيه الإنسان.\nاللعنة على هذه الأرض الموبوءة.\nالتدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

الخبر من المصدر