فى أجواء أمريكا

فى أجواء أمريكا

منذ ما يقرب من 8 سنوات

فى أجواء أمريكا

لم أركب طائرة داخل أمريكا منذ عشرين عاما. الطائرة داخل أمريكا تختلف عن الطائرة خارج أمريكا. كانت تختلف قبل عشرين عاما ومازالت تختلف، لا ولن أجادل فى كفاءة الطيارين ودرايتهم العميقة بجميع الأجواء، ولكنى مستعد للشكوى من التقشف الذى تمارسه معظم شركات الطيران="/tags/124299-%D8%A7%D9%84%D8%B7%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D8%B1%D9%8A%D9%83%D9%8A%D8%A9">الطيران الأمريكية، على الأقل على خطوطها الداخلية.\nأشكو من شظف العيش ساعات فى طائرات الخطوط الجوية الأمريكية. لعلنا تعودنا على التدليل الذى نحظى به على طائرات الخطوط العربية، أو لأننا لم نعد نسعد بصحبة مضيفات كاللاتى كانت توظفهن شركة طيران سنغافورة والشركة اليابانية وإير إنديا والبريطانية فى زمن الوفرة. فكرت وأنا جالس مقيد على مقعد لا يتسع إلا لشخص ولا شىء معه، بل ولا حركة بغرض التوسع سنتيمترات على حساب الجالس أو الجالسة بجوارك. لم يؤلمنى شىء بقدر ما ألمنى أن أمد يدى إلى مضيفة فتضع فيها لفافة بداخلها عدد اثنين «بسكويت مارى» وفى اليد الأخرى كوب من الورق المقوى به قهوة ساخنة. هذا كل شىء حتى نهاية الرحلة بعد ساعتين ونصف.\nتذكرت رحلتى إلى بكين فى أقصى شمال الصين من ميناء كانتون أقصى جنوبها. أذكر أن الطيار الصينى كان يجازف فيترك مقعده ليوزع على ركاب الطائرة التفاح لكل راكب تفاحة وبعض الماء الساخن لزوم تجديد الشاى، وعندما يحين موعد الوجبة الساخنة كان يهبط بنا نحو مطار فى الطريق منصوب فى قاعته الرئيسية، والوحيدة، مائدة اصطفت حولها كراسى بعدد ركاب الطائرة، واصطفت فوقها صحون من الخضار المشوى تزينه نسائل لحم وكثير من الأرز الأبيض المسلوق على البخار. صحن لكل راكب، كانوا فى الصين أكرم.\nأسوأ ما يمكن أن يحدث لراكب هو أن يقوده حظه إلى مقعد ملاصق للشباك. شاغل هذا المقعد لا يجوز له أن يحلم بزيارة مرحاض الطائرة. أضف إلى أن هناك الآن احتمالا قويا أن يكتشف راكب أمريكى أن الراكب الذى تسبب فى إزعاجه حين طلب منه الانكماش قليلا ليتمكن من المرور هو كائن من أصل عربى. هذا الراكب الآخر قد يقضى بقية الرحلة تحت رقابة أمنية مشددة وستكون نهايته إلقاءه على أسفلت المطار فى أول محطة. قيل لى إن هذا الحادث تكرر خمس مرات خلال الأسابيع القليلة الماضية.\nالمقعد فى حد ذاته مصدر ألم أكثر منه وسيلة للراحة، لا مسافة كافية بين الركبتين وظهر المقعد المواجه بل لا مسافة كافية يمكن التصرف معها باعتبارها «فضاء عاما» مقتبسا التعبير المفضل لكاتب سياسى يكتب للشروق. تشعر وكأن الهواء الضرورى للتنفس لا يتجدد وأن الركبتين «تيبستان». لاحظ إننى كنت عائدا لتوى من عند طبيب نصحنى نصيحة غالية لعلاج آلام الركبتين، لا تضيق الخناق عليهما ولا تقسو عليهما ولا تحملهما ما لا طاقة لهما به، داعبهما بين الحين والآخر، افردهما ثم اجمعهما، وإن توفرت الفرص لاصطحابهما لمشوار قصير فى ممر الطائرة فلا تتردد. فى هذه الرحلة لا الفرصة توفرت، ولا المداعبة وقعت. على كل حال تعرضا لما هو أسوأ فى الرحلات التى كانت تدوم سبع ساعات.\nأعتقد أن هذا البخل من جانب شركات الطيران شجع المستثمرين على تحويل صالات السفر فى المطارات إلى ساحات لمحلات أكل وشراب. تكاد بعد قليل تقتنع بأن فى الأمر «مؤامرة» وبخاصة عندما تتأكد من عدد المقاعد المخصصة لانتظار الركاب أقل كثيرا من عدد الركاب وبالتالى يتعين على الكثير من الركاب الانتظار فى محال الأطعمة للجلوس والاستفادة من خدمة الإنترنت.  \nالظاهرة الأخرى الملفتة للانتباه فى جميع المطارات التى صادفنى المرور فيها أو الانطلاق منها أو الوصول إليها هى هذه النسبة المرتفعة جدا من الشباب. صبيان وفتيات ما بين السادسة عشرة والثلاثين يحملون على ظهورهم شنط متشابهة ويتنقلون بثقة ونشاط بين المدن الأمريكية، ساعين وراء فرص عمل أو سياحة أو مغامرة أو إجازات عاطفية. خطرت على بالى أكثر من مرة فكرة أن أمريكا لن تشيخ وسيظل مجتمعها شابا ومبدعا ومتجددا طالما استمرت تجدد شبابها أولا بأول. أمة لن تهرم مهما حاول دونالد ترامب وأمثاله من الكارهين للهجرة.\nركب معى على طائرة متوجهة إلى إحدى مدن كاليفورنيا أربعون شابا من أعمار تتراوح بين الثالثة عشرة والسابعة عشرة. أكثر من نصفهم من الفتيات. يرتدى كل منهم قميصا أحمر مدون عليه باللغتين الصينية والإنجليزية اسم المدرسة التى يدرسون فيها. لم يفارق أغلبهم طوال الرحلة هاتفه الذكى، ولكنى استطعت إقناع أحدهم وكان جالسا إلى جوارى بالتحدث معى جاهدا أن أكون أكثر تشويقا من الهاتف. علمت أن المدرسة لها فرعين، فرع فى مدينة ساحلية شهيرة غير بعيدة عن بكين العاصمة، وفرع آخر فى مدينة بورتلاند بولاية أوريجون فى أقصى الغرب الأمريكى.\nالطلبة أمريكيون وصينيون ويدرسون مناهج مشتركة، أمريكية وصينية. أغلبهم، كما قيل لى، أبناء وبنات رجال أعمال أغنياء. يدرسون مناهج موحدة ويقيمون فى المدرسة ويعودون إلى أهاليهم شهرا كل سنة. يغرسون فيهم ثقافة مشتركة، ثقافة هجين خلاصة تجربة دمج حضارتين، حضارة شرقية وحضارة غربية.\nاحترت فى توصيف هذه الظاهرة، وبخاصة بعد أن بلغنى أنها منتشرة فى ولايات أخرى. أبسط تعليق توصلت إليه هو أن هذه الحكومات عرفت كيف تخطط لعام ٢٠٣٠ و٢٠٤٠ و٢٠٥٠. حكومات تخطط لمستقبل صنعت ملامحه وتستعد له.

الخبر من المصدر