د. أمل الجمل تكتب من مهرجان كان: “اشتباك”.. مصر في زنزانة تتقاذفها العواصف

د. أمل الجمل تكتب من مهرجان كان: “اشتباك”.. مصر في زنزانة تتقاذفها العواصف

منذ ما يقرب من 8 سنوات

د. أمل الجمل تكتب من مهرجان كان: “اشتباك”.. مصر في زنزانة تتقاذفها العواصف

اُفتتح أمس قسم “نظرة خاصة” بمهرجان كان السينمائي التاسع والستين – المنعقد في الفترة الممتدة بين 11-22 مايو الجاري، بفيلم “اشتباك” للمخرج المصري محمد دياب في ثاني تجاربه الإخراجية بعد شريطه المهم “678” إنتاج عام 2010، وليُشكل التجربة الثامنة في مجال كتابة السيناريو، ليُعيد مصر إلى الاشتراك في “كان” بعد غياب لعدة سنوات بعد مشاركة يسري نصر الله بالمسابقة الرسمية بفيلمه “بعد الموقعة” عام 2012.\nلكن مشاركة دياب لا تُعد الأولى من نوعها، فهذه ليست المرة الأولى التي تشارك أفلام مصرية في قسم “نظرة خاصة”، إذ سبق ليوسف شاهين أن شارك بفيلمين في هذا القسم؛ الأول هو شريط “الآخر” عام 1999، والثاني هو “إسكندرية نيويورك” عام 2004.\nسيناريو “اشتباك” تعاون في كتابته المخرج مع أخيه السيناريست خالد دياب الذي اشترك معه من قبل في كتابة أكثر من سيناريو لمخرجين آخرين. تنهض فكرة “اشتباك” على حالة الاحتقان والعنف والعداء والتخوين الذي ساد المجتمع المصري على الأخص عقب فترة عزل الرئيس السابق محمد مرسي، إذ لا يمكن تجاهل أن حالة مشابهة حدثت في أعقاب “موقعة الجمل” في الأيام الأولى من ثورة 25 يناير 2011.\nهنا تدور الأحداث داخل وخارج سيارة ترحيلات، لكن الكاميرا تظل طوال الفيلم – ربما باستثناء لقطتين أو ثلاثة – بداخل السيارة، وترصد ما يدور بالخارج من مظاهرات وعنف واشتباكات بعيون المحتجزين عبر القضبان الحديدية للسيارة الثابتة أحياناً، والمتحركة أحياناً أخرى بقوة أو بعنف، أو بتمهل، ولذلك كانت الكاميرا مهتزة طوال الوقت لسبب منطقي وآخر رمزي، تعبيراً عن حالة المجتمع غير المستقر والمتأرجح بين العنف واللاعنف والفوضى بدرجاتها، وذلك من خلال ما يقرب من عشرين شخصية يتم احتجازها من طبقات مختلفة من الشعب المصري مختلفي الهوية والانتماءات السياسية، غني وفقير، إسلامي ومسيحي، مثقف أو غير، وإن كانت تلك النماذج غير ممثلة تماما لكافة شرائح المجتمع لكنها ممثلة أساساً لأهم كتلتين؛ المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين، والمناصرين للشرطة والجيش في أعقاب عزل مرسي.\nتبدأ الأحداث من السيارة الخاوية، وتعكس لنا الأصوات القادمة من الشارع مقاومة صحفي مصري يحمل الجنسية الأمريكية والمصور المرافق معه أثناء اعتقالهما، إذ يعتريهم الخوف الشديد، ويظل كل منهما يصرخ، فينادوا على المتظاهرين في الشارع ليطلقوا سراحهم، وعندما ينتبه إليهم المتظاهرون يرشقونهم بالحجارة لأنهم صحفيون، ومن هنا يتم القبض عليهم وإدخالهم نفس السيارة. جميعهم من الرجال باستثناء ممرضة – تلعب دورها نيللي كريم – كانت بصحبة ابنها الصغير وزوجها، وفتاة عمرها 14 عاما ترتدي “الخمار” – الحجاب المسدل على جسدها حتى منطقة البطن – كانت بصحبة والدها الشيخ المسن بلحيته البيضاء، والذين تم القبض عليهما لاحقا – ضمن آخرين – أثناء الاشتباكات بين المتظاهرين المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين وبين الشرطة.\nالفيلم لا يتحدث عن أسباب كُره هذه الشريحة من المجتمع لجماعة الإخوان المسلمين؟ ولا لماذا تظاهروا ضدهم؟ ولا يكشف لماذا انضموا إلى الشرطة بعد تاريخ من العداء المستحكم بين الشعب والشرطة؟ الفيلم أيضاً لا يخوض في أي آراء سياسية تفسر أو تحاول أن تقدم وجهة نظر جديدة تكشف لماذا انخرط المجتمع في تلك الدائرة من العنف، أو لماذا قامت تلك المعارك بين الطرفين وانقسم الشعب بينهما، الفيلم لا يشرح ولا يحلل ولا يقدم أي إضاءة جديدة، فالمشاهد الغربي أو غير المصري الذي لا يعرف تفاصيل تلك المعارك ولم يعايشها مع مَنْ يتعاطف؟ إنه يشاهد أطرافا متعاركة، لكن هل – بعد مشاهدة “اشتباك” – يفهم لماذا ثار الشعب على حكم الإخوان؟ أم أن الفكرة التي وصلت إليهم أن ما حدث كان مجرد حرب شرسة ومعركة بين طرفين حول كرسي الحكم، وهناك ناس منضمة لكل طرف ضد الطرف الآخر؟ هل بعد مشاهدة هذا الفيلم يمكن للمشاهد الأجنبي أن يُغير رأيه ومناصرته لمرسي – وللديموقراطية المزعومة التي جاء بها عبر صندوق الانتخابات – فيعتبر ما حدث في 30 يونيو كان برضا أغلبية الشعب الذي عانى الأمرين أثناء فترة حكم الجماعة المحظورة؟\nالفيلم كما يشير العنوان ليس فقط مجرد اشتباك عنيف وقتل بين طرفين، ولكنه أيضاً اشتباك على المستوى الفكري سواء على مستوى كثير من أفراد المجتمع واللخبطة الفكرية التي تعتريهم، وكذلك الاشتباك على مستوى رسم الأحداث في السيناريو، فمثلاً لا يعرف المتلقي على وجه الدقة إلى أي فصيل تنتمي بعض المظاهرات، ويتكرر هذا في أكثر من مرة، فمثلاً عندما نفهم – في النصف الثاني من الفيلم – أن المتظاهرين من الإخوان إذ يرجمون رجال الأمن وسيارة الشرطة وعربة الترحيلات، لكنهم لا يتوقفون عن فعل ذلك عندما يهرب من السيارة الشيخ المسن بلحيته وابنته المرتدية الخمار، والمفروض أن الخمار علامة إشارية رمزية تدل على انتمائها لفصيل الإخوان، فلماذا استمر الضرب من قِبل المتظاهرين حتى أصيب الرجل وكاد أن يُقتل هو ابنته؟ أيضاً في المظاهرة الأخيرة التي اختتم بها الفيلم رغم أن قائد سيارة الترحيلات الذي ينتمي للإخوان قادها باتجاه مظاهرة لجماعتهم لكننا لا نفهم من هذا المشهد مَنْ هؤلاء المتظاهرين وإلى أي فصيل ينتمون، فقد اعتدوا بعنف وهمجية على مَنْ هم إخوان أو غير إخوان، وكأنهم حيوانات مسعورة عمياء تبحث عن ضحية وفقط.\nأما الجملة الحوارية المثيرة للتساؤل عن مبرر تواجدها بالفيلم، والتي ينطق بها الصحفي الذي يقوم بدوره هاني عادل إذ يقول: “إن والده الذي عاش طويلاً في أمريكا وأنه كان ينفعل كلما تجيء سيرة مصر، وكان يتحدث عن اعتقاله وتعذيبه في عهد عبد الناصر، وعن الفساد والفوضى والكوسة.”.. لماذا الزج بمثل هذه الجملة؟! فهل هي جملة لمغازلة الغرب الذي يكره عبد الناصر؟ أم هي جملة لإرجاع الفساد الذي عاشه الشعب المصري والتعذيب والقهر – على مدار سنوات حكم السادات ومبارك والإخوان – إلى عبد الناصر كما يفعل كثير من الكتاب والمثقفين الكارهين لعبد الناصر وغير الموضوعيين في تقييم تجربته؟ فالمفترض أن السيناريست لا يكتب جملة حوار إلا وله قصد متعمد من وراء ذلك، وإذا حاول أن يتنصل من الجملة تحت إدعاء أنها جاءت على لسان شخصية صحفية لها موقف سياسي، فإنه بعدم خلقه لشخصية أخرى تناقش أو ترد على الصحفي الأمريكي المصري، فإن ذلك يعد أمر مقصود من المؤلف ويُعبر عن أفكاره.\nمع ذلك يُحسب للفيلم أنه يُركز على التفاصيل الإنسانية، ويرصد حالة العداء والاحتقان التي تتصاعد بدرجاتها أثناء التظاهرات والاشتباك، والتي كان من الجلي أنها سادت بين كافة شرائح الشعب، فحتى الأطفال قسموا أنفسهم إلى عسكر وإخوان، على غرار لعبة عسكر وحرامية، فالأطفال في جماعة الإخوان إذا أمسكوا بطرف من العسكر يقومون بذبحه، والأطفال في المعسكر المنتمي للنظام الجديد إذا قبضوا على أحد الإخوان يتم إعدامه، فالموت والقتل من دون رحمة هو مصير المقبوض عليهم، هكذا تحكي الصورة والصوت أثناء الحوار بين الطفل الصغير – ابن الممرضة – والصبية المحجبة، واللذين يمارسان اللعبة على الحائط، ويسجل كل منهما علامة عندما يكسب، لكن هذا العداء والاحتقان يتلاشي تماما أثناء الحديث عن الغناء والتمثيل، ويتضاحك الجميع، وعند الحديث عن الكرة قد يختلف المنتمون لنفس الفصيل السياسي ويتفق الأعداء، فعند الحديث عن الكرة ينسى المشجع الكروي انتمائه السياسي ويتجاوب مع عدوه.\nكثير من التفاصيل تكشف تلاشي العدوانية بين المصريين في وقت الشدائد وظهور الجوانب الإنسانية عوضاً عنها، فمثلا لا تتردد الممرضة أن تساعد في تضميد جرح الرجل المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين، وأن تحاول أن تساعد الفتاة المحجبة في إيجاد حل لقضاء حاجتها ولا تتورع في أن تدخل في عراك مع المجندين من أجلها، فكاتبا السيناريو هنا حاولا أن يكونا موضعيين بقدر الإمكان، فرسما مشاهد تؤكد وجود الطيب والشرير في كل فصيل، فالضباط بينهم الإنساني والمتشدد حتى إن أحدهم يعد بإطلاق سراح النساء والطفل، عندما تهدأ الأمور وتكف الاشتباكات الدائرة في الخارج، كذلك المجندين الفقراء والمطحونين والتي تشي لهجتهم بأنهم من الأرياف أو من المناطق الشعبية بينهم المتشدد وبينهم المتعاطف مع المحتجزين، والذي يدخل في تصادم مع رؤسائه حتى يكاد يتعرض لإطلاق النار، مثلما يرسم السيناريو أيضاً الشخصية الواحدة وهى تجمع بين العدوانية والرقة والتعاطف مع الآخر مثلما حدث مع العسكري المتشدد الذي نكتشف في لقطة لاحقة أنه مسيحي يحاول تأدية واجبه والإخلاص له، وأن تصرفه المتشدد كان سببه خوفه من التعرض للعقاب القانوني.\nبالفيلم كثير من المزايا، والتفاصيل التي رسمها السيناريو، يتميز أغلبها بالصدقية والإنسانية وتتميز بالإشباع العاطفي، ومن هنا كان تأثيرها بارزاً، لكن بعض المشاهد لم تكن في صالح الحيادية التي أرادها صناع الفيلم، فمثلا مشهد القناص الذي اغتال أحد الضباط وجرح الكثير من المجندين عندما تم قتله كان تصويره السينمائي أقوى وأكثر تأثيراً على المستوى الدرامي ويجعل المتلقي متعاطفاً معه، إذ بعد قتله عمد المخرج إلى تصويره والجميع من رجال الأمن والشرطة والمجندين ينفضون من حوله بعد أن نقلوا المصابين والقتلى إلى سيارة الإسعاف، وتنسحب الكاميرا بعيدا عنه في لقطة مؤلمة توحي بوحدة هذا القتيل الذي كان قناصاً قاتلا لا يعرف الرحمة منذ قليل.\nإنها لقطة جميلة ومؤثرة على المستوى السينمائي لكنها تسحبنا إلى التعاطف مع الإخوان. أيضاً أحاديث المحتجزين من أفرد الإخوان عن تعرضهم للاعتقال، وكذلك أبنائهم من قبل الثورة بسنوات، من دون أن يتم ذكر أن الأمر لم يكن قاصرا على الإخوان، وكأن الإخوان هم وحدهم كانوا المضطهدين سياسيا، فأين الحديث عن المعتقلين الآخرين من الفصائل والتيارات السياسية الأخرى.\nفيما يخص الأداء التمثيلي فإن أغلب الممثلين قدموا أدوارهم بشكل جيد، لكن يعيب الفيلم النداءات العالية بشكل مفتعل -خصوصا هاني عادل- فحتى لو كان هذا يحدث في الواقع، فهو غير متقن، كما أنه ليس دور الفن أن ينقل الواقع نسخة بالكربون. أضف إلى ذلك أن المشاهد التي تدور أثناء الحر الشديد غير متقنة على مستوى الملابس والماكياج وعلى الأخص فيما يتعلق بتعرق المحتجزين، ففي المشاهد الواسعة لا يسيل العرق على الوجوه ولا نرى له أثراً على الملابس فهى جافة، لكن فقط في بعض اللقطات المقربة تم الانتباه إلى مسألة التعرق، ولكن بشكل غير متقن تماماً.\nبقي أن نشير إلى أن المخرج كما نجح في إدارة الكاميرا في عمله الأول “678”، كذلك نجح هنا بمهارة في تنويع زوايا الكاميرا رغم أنها محصورة بداخل زنزانة، فوظف الزوايا العلوية والسفلية والحركة العرضية والطولية للكاميرا، وكانت لقطاته القريبة دائما تشي بالحصار وعدم الاستقرار، كأن هذه السيارة هي مصر المحبوسة في زنزانة، لكنها زنزانة في مهب العواصف، مثلما يحسب للفيلم الخاتمة المعبرة بقوة حيث نرى آثار اللعبة التي مارسها الطفلان على جدران السيارة، والتي تشي بأن لا أحد كسب المعركة، فطالما بقي العنف، فالخسارة من نصيب الجميع.

الخبر من المصدر