من سجائر اللف إلى بايب السادات.. المصريون أصحاب مزاج

من سجائر اللف إلى بايب السادات.. المصريون أصحاب مزاج

منذ 8 سنوات

من سجائر اللف إلى بايب السادات.. المصريون أصحاب مزاج

هذه دراسة فى التاريخ الاجتماعى للمصريين. لا علاقة لها بالسياسة وإن تداخلت فى بعض جزئياتها، ولا تشابك بينها وبين الاقتصاد وإن بدت فى انعكاساتها. إنه الكيف أو المزاج الذى حكم المصريين فى التاريخ الحديث وشمل جميع الطبقات والفئات من الحُكام حتى أدنى المحكومين.\nإن المزاج فى اللغة هو الحال المختلط، ومزج الشىء أى خلطه والمقصود به حال الذهن لدى الانسان، والمزاج نوعان منه المشروع ومنه الممنوع، فأما المشروع فهو كل ما هو مُتاح قانونا أو شرعا أو عُرفا مثل السجائر والمعسلات وكافة أنواع الدخان، وأما الممنوع فهو كل ما هو مُجرّم قانونا مثل المخدرات بأنواعها، أو محرّم ومقيد شرعا مثل الخمور بأنواعها، ودرجاتها. ولاشك أن المصريين منذ القدم أصحاب مزاج ولهم عاداتهم فى تحقيق صفو البال، والهروب من الهموم، وهو أمر لا يعيبهم لأن طبائع الشعوب تتضمن كثيرًا من العادات القبيحة أو غير المرضى عنها.\nومَن يطالع حكايات المؤرخين الأواسط أو المتأخرين يلتقى كثيرا بحكايات عن المزاج المشروع منه والممنوع سواء فى رحلة الدُخان وتطورها أو حتى ما يخص المُسكرات والمُخدرات. ولاشك أن تاريخ جماعة الحشاشين التى أسسها حسن الصباح وصارت التنظيم الأشهر فى العصور الوسطى ارتبط ارتباطا وثيقا بالمُخدرات، وشاع فى شهادات مؤرخى العصر الأيوبى استخدام الحشيش فى إقناع المُريدين بالجنان التى يقود «الصباح» أتباعه إليها.\nولا يعرف على وجه الدقة تاريخ دخول نبات القنب الهندى المعروف بالحشيش إلى مصر، لكن من الواضح أن تداوله كان مُباحا حتى الربع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادى طبقا لبيانات وزارة الداخلية التى أشارت إلى أن أول مرسوم لتجريمه فى 29 مارس 1879 حيث مُنعت زراعته وحظر استيراده وتم فرض عقوبة على المخالفين تتمثل فى غرامة قدرها مائتا قرش.\nويُمكن القول إن المصريين عرفوا الأفيون مُنذ القدم إلا أن استخدامه كمخدر شاع فى عهد المماليك خاصة أنه كان يتم استخراجه من ثمرة شجرة الخشخاش التى لم تنضج بعد وهى شجرة حمراء أو بنفسجية لها ثمرة عبارة عن كبسولة تقارب جوزة الهند.\nوما يعنينا فى مزاج المصريين الأكثر استخداما الدخان والذى دخل مصر فى القرن الثامن عشر الميلادى، بعد سنوات قلائل من اكتشافه فى فرجينيا وانتقاله إلى دول أوروبا عبر رحلات التُجار.\nلقد عرف المصريون المقاهى فى تلك السنوات وجرّب الناس مشروب القهوة، والذى تصور البعض أنها نوع من المُسكرات حتى شاعت الفتاوى لدى عُلماء الدين حول حل أو حُرمة شُرب القهوة. وطبقا لكتاب «وصف مصر» فقد رأى علماء الحملة الفرنسية المصريين يدخنون الشيشة أمام منازلهم، لكن ذلك كان قاصرا على أحياء بعينها. فيما بعد صارت النارجيلة حاضرة فى كل منزل من منازل كبار القوم اقتداء بالوالى محمد على الذى كان التدخين عادة يومية له، خاصة وأنه كان فى الأصل تاجر دخان.\nومع الوقت اتسعت المقاهى لاستخدام آلات لتدخين الدُخان وهى التى يُطلق عليها المؤرخ الشهير عبد الرحمن الجبرتى مصطلح « الأقصاب والشبكات». ويبدو من وصف الجبرتى لها انها كانت مُستهجنة أو ممقوتة من العامة حتى أنه يتهكم على جنود الباشا (محمد على) بأنهم يشربون «الدُخان من غير اختشا ولا حياء» وأنهم يمرون بالاسواق وفى ايديهم الأقصاب والشبكات.\nويذكر الجبرتى فى حكاياته فى شهر شعبان عام 1231 هجرية (1816ميلادية) ما يفيد اتجار محمد على فى الدخان وافتتاحه مقهى خاصًا به فى شبرا عندما يحكى كيف سرق اللصوص قهوة الباشا التى يجلس فيها الأعيان والتجار يشربون القهوة ويدخنون فيها.\nوتبدو سرقة قهوة الباشا وكأنها رسالة خطيرة موجهة للدولة المصرية التى استطاع اللصوص أن ينهبوا أحد ممتلكات أكبر رأس فيها، وهو ما أثار حنق وغضب محمد على واستدعى كبير الدرك (الشرطة) وألزمهم باحضار السراق والمسروقات ولم يقبل عذرا فى ذلك. وطبقا للمؤرخ الكبير فقد أحضر الدرك خمسة أشخاص بعد بضعة أيام، وقيل إنهم أحضروا المسروقات كلها وتم ضربهم حتى أرشدوا عن كل مَن يعرفون من اللصوص سواء فى القاهرة أو القليوبية أو المنوفية والغربية حتى بلغ عدد اللصوص أكثر من خمسين شخصا. وقد تم جمع كل هؤلاء اللصوص معا وخوزقتهم.\nويبدو أن التدخين قد تحوّل فى تلك الأثناء إلى عادة عامة لدى كُل الناس ولم يعُد يُنظر إليه كأمر مُجرّم أو حرام حتى أننا نُفاجأ بأن كثيرًا من شيوخ الأزهر كانوا يُدخنون، وقد شاعت فى بعض المصادر أن سبب وفاة جمال الدين الأفغانى اكثاره من شرب الدُخان وقد رثاه أحد تلاميذه عند وفاته قائلا «الدُخان أودت بحياة الافغانى».\nويلاحظ أن السنوات التالية لاحتلال مصر سنة 1882 شهدت اتساعا كبيرا فى إنتاج وتداول الدُخان وشاعت بين الطبقات الفقيرة ظاهرة «لف السجائر» فضلا عن السماح لكثير من الأجانب بانشاء شركات متخصصة فى انتاج وتصنيع التبغ كان من بينها شركة ماتوسيان.\nويمكن القول إن اتساع أعداد الجاليات الاجنبية فى مصر أدى إلى توسيع نطاق أنواع متنوعة من الخمور والنبيذ والسماح بانشاء المصانع المحلية لذلك. كذلك فقد شهدت مصر دخول مخدر الكوكايين واتسع استخدامه بين كثير من أصحاب الثروات وهو ما دفع الفنان الكوميدى حسن فايق لأن يُغنى مونولوجًا شهيرًا فى عشرينيات القرن الماضى يقول فيه « شم الكوكايين خلانى مسكين». والمعروف أن الكوكايين مستخلص من اوراق نبات الكوكا الذى ينمو فى أمريكا اللاتينية خاصة بيرو وبوليفيا وكولومبيا،كما يزرع فى بعض بلدان آسيا مثل الهند واندونيسيا.\nولاشك أن الحُكام والزعماء والساسة كانت لهم امزجة متنوعة، ولاشك أن القراءة السريعة لتاريخ مصر الحديث تكشف تقريبا عدم وجود أى حاكم أو زعيم سياسى ليس له مزاج خاص سواء عن طريق نوع ما من التدخين أو شراب ما يطيب له تناوله. وربما كان الاستثناء الوحيد فى ذلك هو مصطفى باشا النحاس، والذى كان يمثل استثناء فى كثير من الأمور، فالرجل لم يدخن فى حياته سيجارة واحدة، ولم يشرب قط كأس خمر، ولم يعرف عنه تعاطى أى من المنشطات أو المهدئات، وحتى القهوة كان قليلا ما يتناولها.\nلقد ذكرنا أن محمد على باشا والى مصر كان تاجرًا للدخان وأدخل تجارته إلى مصر واتسع تداول الدخان بالاسواق، حتى صار التدخين عادة الأعيان والاثرياء وكبار رجال الدولة، وعلى دربه سار فى نفس عادة التدخين ابنه ابراهيم باشا الذى لم يطل به الحال فى الحكم وتوفى فى حياة والده، ثم شهدت السنوات التالية تطورا واضحا بعد ظهور خديوى مصر اسماعيل باشا وفى يده كأس الخمر فى عدة احتفالات بحضور الاوربيين.\nأما الملك فؤاد الاول الذى حكم مصر منذ عام 1920 وحتى 1936 فقد اشتهر بتدخين البايب، وكان يستخدم نوعا من التبغ اسمه «دانهيل» ويرفض استخدام اى نوع آخر. وقد كان شائعا أن الرجل يشرب الخمر باعتيادية شديدة مثله فى ذلك مثل باقى الأسرة الملكية، وكثير من العائلات الكبيرة، وبالنسبة للملك فاروق فرغم ما أشيع حول فساده، فإنه لم يكن يتناول الخمر قط،وكان يدخن السيجار قليلا حتى تم خلعه، فلما سافر إلى منفاه صار تدخين السيجار عبئا ماليا.\nأما اللواء محمد نجيب أول رئيس للجمهورية ورئيس مجلس قيادة ثورة يوليو فيعد أشهر مُدخن بايب فى تاريخ السياسة المصرية الحديثة، حتى أنه لم تُلتقط له أى صور دون البايب حتى تلك الصور التى تم التقاطها له وهو يخرج من مبنى الرئاسة مع عبد الحكيم عامر ليتم التحفظ عليه. ولم يكن «نجيب» سكيرا حتى تم اقصاؤه، وتحديد اقامته فى منزل زينب الوكيل بالمرج، حيث لجأ لشرب الخمر، وفيما بعد خصصت رئاسة الجمهورية صندوق «ويسكى»له كل اسبوع ليبقى دائما خارج الوعى.\nولم يُعرف عن جمال عبد الناصر أبدا حبه لشرب الخمر، لكنه كان مُدخنا شرها للسجائر الشعبية «البلمونت» وظلت تلك العادة معه حتى أصيب بالسكر بعد انفصال مصر وسوريا عام 1961 وتكررت نصائح الأطباء له بضرورة الاقلاع عن التدخين تماما. ويذكر الدكتور الصاوى حبيب طبيبه الخاص فى مذكراته الصادرة عن هيئة الكتاب أنه اضطر إلى الإقلاع عن التدخين عام 1968 قبل ان يرحل بأزمة قلبية فى سبتمبر 1970.\nوكان الرئيس أنور السادات مكبا على كافة أنواع المزاج نتيجة تغلغله وانغماسه فى الحياة الشعبية خلال سنوات ما قبل الثورة. وقد ذكر الاستاذ محمد حسنين هيكل أن السادات كان يشرب يوميا كأسًا من الفودكا على سبيل الاستشفاء، لكن معارضيه من الاسلاميين اعتبروه سكيرًا معتاد السكر، بينما وصفه معارضوه من اليساريين بالحشاش مُدعين بذلك تدخينه للحشيش , وقد غنى الشيخ إمام من كلمات أحمد فؤاد نجم ما يفيد ذلك. أما فيما يخص التدخين فقد كان السادات كثيرا ما يظهر بالبايب ليُدخن أجود أنواع التبغ الأمريكى.\nوبالنسبة للرئيس الأسبق حسنى مبارك فعلى الرغم من حرصه الشديد على الظهور بمظهر الملتزم طوال سنوات حكمه الا أن هيكل ذكر فى كتابه عن مبارك وزمانه أن أول لقاء جمعه به بعد اختياره رئيسا رآه فيه يُدخن السيجار وأنه اهدى إليه سيجارًا كبيرًا ظل محتفظا به. كما ذكر مقربون منه أنه لم يكن يشرب الخمر الا قليلا واقتصر ذلك على شرب البيرة المثلجة.\nوالمؤسف فيما يخص أمزجة المصريين أنها شهدت فى العقود الأخيرة انحدارا كبيرا ربما ارتبط بضعف القوى الشرائية واتساع حالة البحث عن هروب من وقائع وهموم حياتية وهو ما أدى إلى انتشار نوعيات خطيرة من المخدرات مثل الترامادول والذى من المخدرات التخليقية التى كانت مجرد مسكن للألم تم انتاجه ليساعد مرضى السرطان على تجاوز آلامهم لكنه انتشر بشكل كبير بين الفئات الدنيا والأحياء الشعبية، وقد ظهرت له عدة بدائل مثل الأتيفان، الاليوم، الروهبينول، الفالسكون والميثادون.

الخبر من المصدر