السينما الألمانية تُذكّر العالم بثورة البطاقات البريدية ضد النازية

السينما الألمانية تُذكّر العالم بثورة البطاقات البريدية ضد النازية

منذ 8 سنوات

السينما الألمانية تُذكّر العالم بثورة البطاقات البريدية ضد النازية

- «وحدى فى برلين».. فيلم عن الشجاعة والذين يكافحون دفاعا عن أفكارهم\n- مشهد النهاية مؤثر للغاية حيث يمسك الزوجان يدهما فى لحظة وداع قبل الإعدام\nلايزال الزعيم النازى أدولف هتلر يشكل نهما كبيرا للسينما الألمانية، والتى تفاجئنا عاما بعد عام بفيلم يحاكمه وعصره الديكتاتورى، عبر قصص إنسانية من الواقع، أبطالها دوما من عامة الشعب، وبالطبع تكون شاشة مهرجان برلين السينمائى هى الواجهة الأكبر والأهم لطرح الافلام لما تحظى به من اهتمام إعلامى وجماهيرى كبير، حتى وإن خرجت خالية الوفاض من الجوائز، المهم أن تصل الرسالة.\nفى العام الماضى، قدم المهرجان فيلم «اليزر ١٣ دقيقة» للمخرج أوليفر هرشبيجل، الذى يروى واقعة تاريخية شهيرة وهى محاولة نجار ألمانى يعزف موسيقى اغتيال أدولف هتلر، وهو يخطب وسط كبار قادة الجيش، خطف الانتباه لدرجة التوحد مع البطل وربما تمنى المشاهدون الألمان لو كان هذا النجار قد نجح فى مهمته، وحينئذ كان سيغير التاريخ بحق، لكنه فشل فى اغتيال الزعيم النازى قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية.\nبالقطع لم يكن جورج إليزير وحده الذى دفع ثمن محاولته غاليا، لكن هناك بطولات عدد من المواطنين تحدوا النظام النازى ودفعوا لذلك أثمانا غالية من السجن والتعذيب والموت، وهذا العام عرض المهرجان فى مسابقته الرسمية لدورته الـ68 الفيلم الألمانى الفرنسى «وحيد فى برلين»، والذى يحكى عن شجاعة وكرامة الإنسان فى بيئة من الخطر المميت.\nيقدم المخرج والممثل السويسرى فإنسان بيريز عمله الروائى الطويل الثالث المقتبس عن رواية بنفس الاسم الكاتب الألمانى هانز فالادا وقامت ببطولته ايما تومسون والايرلندى براندن جليسون فى دور الزوجين «آناو أوتو كوانجل» فى الخمسينيات من عمرهما بدءا فى مقاومة هتلر بعد موت ابنهما الوحيد فى الحرب.\nنحن أمام قصة حقيقية تبدأ أحداثها فى مايو 1940، فى اللحظة التى تحتفل ألمانيا فيها بالاستيلاء على العاصمة الفرنسية «باريس»، حيث تلقى آل كوانجل، آنا وأوتو، العاملان المتواضعان، المقتصدان فى علاقتهما بالخرين والحذران، خبر وفاة ابنهما الوحيد كوانجل من أجل الوطن. فى هذه اللحظة، تنطق الأم المكلومة بهذه الجملة التى تصدم زوجها كثيرا: «ها هو إذا ما فعلتماه، أنت وفوهررك بحربكما القذرة!»، ويتمثل أحد أهم العناصر الوثيقة الصلة بالموضوع فى أن قبل وفاة ابنهما كان آل كوانجل، من مناصرى الحزب الوطنى الاشتراكى، النازى، وقد منحا الأب الذى كان لا يعمل حينئذ والأم صوتيهما فى عام 1933 لهتلر، وتمنيا أن يجد أوتو وظيفة كرئيس عمال فى أحد مصانع الأثاث، بفضل سياسة التصنيع التى انتهجها الديكتاتور النازى وهو ما حصل، لكن هذا الرجل البسيط يقرر بمشاركة زوجته أن يكتبا كل أسبوع بطاقة أو بطاقتين، ويضعاها فى صناديق خطابات البنايات فى قلب برلين وأيضا على سلالم الهيئات الحكومية. فى البطاقة الأولى، كتبا بكلمات كبيرة: «أيتها الأم! لقد اغتال الفوهرر ابنى! الفوهرر سوف يغتال أبناءك، لن يتوقف، وسوف يجلب الحداد إلى كل بيت على هذه الأرض». و«حرب هتلر هو وفاة العامل» ثم حملت البطاقات عبارات مثل «هتلر قتل ابنى»، و«الهتلرية ستهدم أوروبا»، كانا يعرفان أنهما يخاطران بحياتهما ولكنهما أملا فى أن يكونا نموذجين لمعارضين آخرين يقبعون فى الظل، ويتخيلان أن كل بطاقة يرسلانها تنتقل من يد إلى أخرى.\nوفى خيط آخر نرى أحد ضابط السلطة المفتش إيشينجى يحاول العثور على كاتبى الخطابات، بعد أن وصلت بعضها لأيدى مسؤلين، وهو فى جهاز الاستخبارات الألمانية الجستاب وأحد عملائه المكلف بتعقبهما ومراقبة تحركاتهما، وبالفعل يقبض على الزوج، وبداخله تعاطف معه، لعدم رضائه على وسائل التعذيب، وقسوة النظام التى لم يفلت منها هو شخصيا.\nالواقع إن إيما تومسون وبراندن جليسون قدما دوريهما ببراعة شديدة، بينما جاءت شخصية المفتش ايشيريش «دانييل بروهيل» أكثر براعة ببعدها عن الشخصيات النمطية بتناقضها الذى فرض عنصر الإثارة، فهو شرطى مخضرم، يؤمن بأن من واجبه تعقب كاتب البطاقات البريدية المجهول، لكنه مع ذلك يخشى شراسة ضابط الوحدة الوقائية «إس إس» الذى يقوم بدوره مايكل بريسبراندت، الذى يضغط عليه دوما ليعتقل الشخص المطلوب، بل وجاء سرد الفيلم كله ليس نمطيا فى تقديمه قصة سينمائية واقعية عن الشجاعة والذين يكافحون دفاعا عن أفكارهم. المفتش إيشيريش يعانى هو أيضا الوحدة فى برلين، حيث يدرك أن ضباط الوحدة الوقائية ليسوا أفضل الأناس فى العالم كما يؤمن الكثير من الضباط.\nفى البداية نرى الزوجين وقد عاشا حياة متواضعة فى برلين أثناء الحرب العالمية الثانية، شاهدا أوتو مراقب عمال فى مصنع، ومجتهد فى عمله، أما آنا، فكانت تجمع التمويل لصالح «رابطة زوجات النازيين». ويقضى الزوجان أيامهما فى شقتهما البسيطة، حيث يتبادلان أحاديثا مقتضبة.\nوتستمر هذه الحياة الروتينية، حتى عندما يعلمان بمقتل ابنهما الوحيد فى المعارك الدائرة فى فرنسا.\nوبينما يحتفل الناس فى جميع أنحاء المدينة بانتصار ألمانيا المجيد على الفرنسيين، يصل أوتو إلى قناعة بأن النظام النازى يقوم على الكراهية والأكاذيب.\nفجأة راودته فكرة بسيطة لوقف نزيف الدماء والتضحية بالأبناء، وهى كتابة رسائل معارضة على بطاقات بريدية وتركها على درجات السلالم أو أرضيات المبانى فى أرجاء برلين.\nكتابة بطاقات بريدية لا تعتبر أمرا بطوليا، لكنها ببساطة الأمر المنطقى الوحيد الذى يمكن القيام به من قبل الوالدين الجريحين، والمدهش فى شخصية الزوج أوتو هو سوكها الرتيب وانها لا تعبر عن الكثير من العواطف، بينما الزوجة ضعيفة مستسلمة لرغبة زوجها فى تحريك الراكد وهو ما منح الروح المطلوبة فى العمل حيث حبكة الفيلم تسير حتى منتصفه بدون نتيجة تبدو فى الافق، فالإيقاع بطىء إلى حد ما، وليست لدى أوتو خطط للانضمام إلى حركة معارضة ذات نطاق أوسع، أو تصعيد حملته الشخصية. خطته الوحيدة هى الاستمرار فى كتابة وتوزيع بطاقاته البريدية بصورة من الصمت والبؤس لعل وعسى ينتفض معه آخرون وتحدث البطاقات ثورة، بينما لم يكن لهذه البطاقات البريدية التى بلغ عددها ٢٥٠ رسالة، أى وقع مؤثر على من يقرأونها والنهج الوحيد الذى يتبعه الزوجان كوانجيل لكى يتجنبا الاعتقال هو مغادرة أى متجر بسرعة يدخله أحد الضباط النازيين، وهو ما يحدث بشكل متكرر، بل ويشعران بأنهما ليس لديهما ما يخسراه بعد مقتل ابنهما، ولذلك لا يعيشان صراعا داخليا، ويظل المشاهد مترقبا تلك اللحظة الحتمية التى تقبض فيها السلطات عليهما.\nويأتى مشهد النهاية مؤثرا للغاية، حيث يمسك الزوجان يدهما فى بعض فى لحظة وداع قبل إعدامهما، ونرى الضابط الذى يجسده الممثل الالمانى دانيال بروهل يمسك بكل الرسائل فى لحظة تمرد ويلقى بها من شرفة منزله لتنتشر فى الشارع الكبير ويلتقطها المارة من الاهالى، وكأنه يحقق رسالة الزوجين. المشهد بحق كان مؤثرا للغاية.\nقدم المخرج بيريز صورة غنية بتفاصيل حياة برلين فى عهد النازيين، واكتشافه أخيرا قصة الشعور بالذنب والندم الشعبى للحرب العالمية الثانية فى النهاية أو كما يقولون «لعبة اللوم مابعد الحرب»، موحيا إلى أن السكان الألمان قبل الحرب لم يكونوا كتلة متجانسة مؤيدة للنازية، ولكن يظهر أيضا كم كان من الصعب الإقدام على إجراءات جوهرية مباشرة من قبل المواطنين بعد تولى هتلر السيطرة على المؤسسات الوطنية وحده.\nأبطال بيريز يستحقون جوائز فى روعة الاداء السينمائى على الشاشة لقصة ضد الفاشية، الفيلم ليس نمطيا أبدا. إنه أكثر من مجرد فيلم عن حكاية تنتقل من الخاص للعام. أكثر من قصة حب مؤثرة، إنه فيلم عن الشجاعة والذين يكافحون دفاعا عن أفكارهم.

الخبر من المصدر