تلاميذ شواين لاى: كيف قفزوا.. ولماذا تدهورنا؟

تلاميذ شواين لاى: كيف قفزوا.. ولماذا تدهورنا؟

منذ 8 سنوات

تلاميذ شواين لاى: كيف قفزوا.. ولماذا تدهورنا؟

فى ذلك اليوم البعيد من عام (١٩٥٥) طالت مداولات رئيس الوزراء الصينى «شواين لاى» ورئيس الوزراء البورمى «أونو» بأكثر مما كان مقررا.\nالأول ـ أبرز وجوه الثورة الصينية فى العالم وكان مشغولا بالحدث الكبير الذى يوشك أن يبدأ بعد ساعات فى «باندونج».\nوالثانى ـ بطل قومى فى بلاده قادها إلى الاستقلال وكان معنيا بمستقبل جنوب شرق آسيا محاولا أن يساعد الجار الصينى على فك الحصار عنه ودمجه فى حركات التحرير الصاعدة.\nاستئذن «أونو» أن يغادر الاجتماع إلى مطار «رانجون» لاستقبال الرئيس المصرى.\nكانت طائرة «جمال عبدالناصر» فى طريقها إلى الاجتماع التأسيسى لحركة عدم الانحياز و«بورما» محطة فى رحلة عمل شملت باكستان والهند والأخيرة شريك رئيسى مع مصر ويوجوسلافيا فى قيادة الحركة الناشئة.\nباغت «شواين لاى» مضيفه: «أنا قادم معك».\nبدا ذلك خروجا على الأعراف والقواعد فى العلاقات الدولية.\nشرح «شواين لاى» الموقف على النحو التالى: «نحن فى الصين نعتبر أن علاقاتنا مع مصر التى يمثلها هذا الرئيس الشاب أبعد وأهم من وجود سفارات وتبادل سفراء».\nكان الأستاذ «محمد حسنين هيكل» شاهدا على الواقعة التاريخية الفارقة وأول من لمح عبر نافذة الطائرة «شواين لاى» بجوار «أونو» عند مدرج المطار.\nربما لم يطلع الرئيس الصينى الحالى «شى جين بينج» على خلفيات المصافحة بين «عبدالناصر» و«شواين لاى» تحت الكاميرات فى «باندونج» التى وصفها قبل زيارته للقاهرة بمناسبة مرور ستين سنة على العلاقات بين البلدين بـ«التاريخية».\nفى إقدام «عبدالناصر» حسابات غيرت التاريخ على نحو سمح للتنين الصينى أن يخرج إلى المسارح المفتوحة لاعبا رئيسيا يكرس قدراته لاكتساب صفة «القوة العظمى».\nحتى لا ننسى كانت مصر أول دولة عربية وإفريقية تكسر الحصار على الصين.\nهذه خطوة جسورة بكل حساب.\nولم تكن مصادفة تأميم قناة السويس فى يوليو (١٩٥٦) بعد شهرين بالضبط من الاعتراف الرسمى بالصين الشعبية التى أيدته بقوة.\nفالسياسات تتسق مع فكرة استقلال القرار الوطنى.\nبصياغات متقاربة كتبت المعانى نفسها على عهدى الرئيسين الأسبقين «حسنى مبارك» و«محمد مرسى».\nثمة رهان صينى معلن على الرئيس «عبدالفتاح السيسى» غير أن الحقائق اختلفت عما كانت عليه قبل ستة عقود.\nلا مصر دولة قائدة فى محيطها ولا الصين دولة محاصرة.\nقفزت بكين إلى حيث تنازع بقوة على المقعد الاقتصادى الأول فى العالم وتراجعت مصر بفداحة إلى حيث تسعى بالكاد أن تتعافى.\nفى التجربة الصينية برز رجلان من طراز استثنائى العلاقة بينهما معقدة للغاية.\nأولهما ـ «ماو تسى تونج» وعنده قدرات الإلهام والحشد والتعبئة وصياغة الأفكار بصورة تجمع بين الايديولوجية والبراجماتية.\nوثانيهما ـ «شواين لاى» وعنده مهارات بناة الدول، اطلع فى جامعة «السوربون» الفرنسية على العصر الجديد وحقائقه عند بدايات القرن العشرين، انتسب إلى الثورة وشارك فيها ولكن عينه ظلت معلقة على بناء الدولة، أسس مدرسة تنسب إليها المعجزة الاقتصادية الصينية.\nأثناء الثورة الثقافية الصينية تعرض «شواين لاى» وتلاميذه إلى تجربة عصيبة.\nاختصرت الثورة فى تعاليم مقتطعة من أفكار «ماو» ضمها «كتاب أحمر» تحول إلى كتاب مقدس جديد يشرف على الالتزام الحرفى به «لين بياو» الذى كان ينظر إليه كخليفة محتمل.\nأقرب تلاميذ «شواين لاى» «دينج هسياو بنج» تعرض لحملة تشهير وصلت إلى تعمد الإهانة البالغة وتحقير شخصه.\nالحكمة المتوارثة عند الصينى جعلته مستعدا، بطول نفس وقدرة على الصبر، أن ينتظر جثة عدوه طافية عند حافة النهر.\nعندما تراجعت الصين عن شطط الثورة الثقاقية، على عهد «ماو» بعد مقتل «لين بياو» فى حادث طائرة غامض، تولت مدرسة «شواين لاى» ضخ أفكار جديدة لرفع معدلات النمو وجذب الاستثمارات واقتحام الصناعات التكنولوجية واختراق الأسواق البعيدة والوصول إلى منابع البترول فى أفريقيا بسياسة حاولت أن تزاوج بين ضرورات الانفتاح الاقتصادى والتزامات التوجه الاجتماعى عرفت باسم «اقتصاد السوق الاشتراكى».\nانتقلت الصين إلى آفاق القوى العظمى دون أن تنتقم من الماضى الثورى، أو تتنكر لمعاركه، أو تنسى فضل «ماو» فى النقلة الكبرى التى وصلت إليها.\nهذا عكس ما جرى فى مصر.\nبعد رحيل «عبدالناصر» جرى الانقلاب على ثورة يوليو والتشهير بمعاركها الكبرى، بما فيها معركة فك الحصار عن الصين.\nالامم الحية وحدها هى التى تتعلم من تجارب التاريخ، تنظر باحترام إلى تجارب الآخرين، تستلهمها دون ان تنقلها بتفاصيلها إلى دفاترها الخاصة.\nهذا أول دروس «المعجزة الصينية».\nفى مطلع السبعينيات كان الاقتصاد المصرى فى وضع أفضل من الاقتصادين الصينى والكورى الجنوبى وفى وضع مقارب للاقتصادين الماليزى والتايلاندى، بحسب دراسات اقتصادية موثوقة.\nفى اعتقاد «مهاتير محمد»، الذى جاء إلى القاهرة فى الستينيات يستقصى أسباب نهضتها الاقتصادية، أن الفارق بين التجربتين الماليزية والمصرية أن الأولى لم تكن على حدود إسرائيل!\nما جرى فى مصر يتجاوز فكرة الانفتاح الاقتصادى.. فقد جرى اتباع نهج انفتاحى فى الصين بتوقيت متقارب من السبعينيات‪.‬\nالقضية تصفية المشروع الوطنى ذاته والانخراط فى التبعية الاقتصادية وإهدار الأموال والموارد والأصول العامة.\nتنكرت مصر لقضايا عالمها العربى وقارتها الإفريقية وقطعت أواصر صداقاتها فى آسيا وأمريكا اللاتينية.\nبعد وقت قصير نجحت إسرائيل فى مد خيوطها إلى الشرق حيث أصدقاؤنا التاريخيون فى الصين والهند.\nأخذنا نقول إنهم نسوا مواقفنا فى نصرة قضاياهم دون أن نذكر أنفسنا أننا أول من خان قضايانا.\nحيث تراكمت الخبرات والسياسات فى الصين جرفت هنا فى مصر.\nيصعب تذكر اسم الرئيس الصينى، فالمؤسسة أقوى من الرئيس.\nوهذا أحد أسباب الصعود الصينى الكبير.\nعند رحيل «ماو» مرت الصين بفترة اضطراب قبل أن تحدد بوصلتها إلى المستقبل.\nبعد صراع على السلطة مع ما سميت بـ«عصابة الأربعة» وبينهم أرملة «ماو» أمسك «دينج هسياو بنج» بمقاليد السلطة والقوة.\nوكان «شواين لاى» قد رحل.\nغير أنه لم يتول أى منصب رسمى، لا رئيس جمهورية ولا رئيس وزراء، مكتفيا برئاسته للجنة العسكرية التابعة للجنة المركزية للحزب الشيوعى الصينى.\nبقدر ما كان معنيا بالملف الاقتصادى وضرورات التقدم فيه بثبات فإنه رسخ فكرة المؤسسة بعده.\nأخطر ما نعانيه فى مصر غياب التفكير المؤسسى.\nغياب الأهداف الواضحة أزمة أخرى فادحة.\nوفق نظرية الأمن القومى الصينى المعلنة فإن إحدى حلقاتها الرئيسية أن تصل قدراتها على المنافسة الاقتصادية إلى مناطق العالم المختلفة.\nعندما يستعيد رئيسها مشهد المصافحة التاريخية التى جرت فى «باندونج» فهو يحاول الاستثمار فى التاريخ دون التوقف عنده.\nوعندما يلح على «الشراكة الاستراتيجية» فهو يعرف ما يريد بينما نحن مازلنا نتصرف كأن الدول الكبرى مولات تجارية.\nإذا ما أردنا أن ننفتح على حقائق العالم فلابد أن ندرك أن ما هو استراتيجى يتجاوز بكثير تلك الرؤية المبسطة.

الخبر من المصدر